مواجهة الشعبويين

Protestors gather outside the Houses of Parliament on the day British Prime Minister David Cameron announcing his resignation after losing the vote in the EU Referendum outside N10 Downing Street in London, Britain, 24 June 2016. Approximately 52 percent voted for Leave in the so-called Brexit referendum.

إليكم هذا الاعتراف: أنا لا أستلقي في سريري في الليل مفتقدا زخم السياسة السائدة. بل أقضي في الوقت الحالي أسبوعا في بيتي في جنوب غرب فرنسا، أتجول في الريف. أحس بحرارة شمس أوائل الخريف الدافئة في ظهري، وأستمتع بالأشجار التي بدأت تتغير ألوانها، وأرى المزارعين المحليين يستعدون لحصاد العنب لهذا العام. فما الذي ينقصني؟

بالعودة إلى عالم السياسة، فإن الجواب هو الكثير.. سواء من اليمين أو من اليسار هناك عدد قليل من القادة الذين يستمتعون بسنة جيدة. في الواقع، لا بد أن يتساءل المرء هل فعلا حققوا إنجازات ملحوظة.

في فرنسا، يبدو الرئيس فرانسوا هولاند مثل البضاعة التالفة وهو يستعد لانتخابات الربيع المقبل. ويستفيد الاقتصاد الفرنسي من القوى العاملة ذات الإمكانات الإنتاجية العالية والحاصلة على تعليم جيد، لكن النقابيين وغيرهم من أعضاء حزب هولاند الاشتراكي يعترضون على التدابير التي من شأنها استعادة النمو القوي. وفي الوقت نفسه، يتنافس الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء السابق آلان جوبيه للسيطرة على معارضة يمين الوسط من أجل تحدي هولاند وتجنب مارين لوبان من الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة.

لا تعترف النظرة الشعبية بظلال اللون الرمادي، أو بالحل الوسط. على العكس من ذلك، يعتبرون البحث عن أي توافق في الآراء بمثابة خيانة. من خلال التهديد والوعيد والديماغوجية، يروم السياسيون الشعبويون إعادة الزمن إلى الوراء، إلى عالم ما قبل العلوم التجريبية، كما لو كانت الخرافات والظلامية أفضل للجميع

وتشير استطلاعات الرأي إلى احتمال تنظيم جولة ثانية من الانتخابات النهائية بين لوبان وساركوزي أو جوبيه، مما يعني أن على اليسار اختيار مرشح يميني تقليدي إذا كان يرغب في التغلب على لوبان. لكن من غير المرجح أنها ستفوز. مرة أخرى، هذا ما قاله معظم الناس عن التصويت في المملكة المتحدة في يونيو/حزيران الماضي حول مغادرة الاتحاد الأوروبي وعن حملة دونالد ترامب في الولايات المتحدة للترشيح الرئاسي للحزب الجمهوري.

في ألمانيا، اجتذبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل -سياسية أوروبا الأولى- غضب الناخبين بسبب سياستها المبدئية لاستقبال اللاجئين. لكن حزب اليسار المعارض بالكاد موثوق به كقوة انتخابية؛ واستغل البديل اليميني المتطرف في ألمانيا مشاعر المعادين للمهاجرين لهزيمة الجهات الحكومية (حزب ميركل المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يمثل يسار الوسط) في الانتخابات المحلية، بما في ذلك ولاية ميركل ميكلينبورغ- غرب بوميرانيا.

في إيطاليا، فشل رئيس الوزراء ماتيو رينزي في إحياء اقتصاد ميت. وخسرت معارضة يمين الوسط بساطا متنقلا يقوده رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني، في أرض سياسية قاحلة. أما خصومه الرئيسيون، فهم الآن الشعبيون، حركة الخمس نجوم والسياسيون المحليون الذين يكنون الكثير من الحقد للمؤسسة السياسية الوطنية.

في إسبانيا، يكافح رئيس الوزراء ماريانو راخوي عن حزب الشعب، يمين الوسط، لتشكيل حكومة بعد رفض حزب العمال الاشتراكي المعارض دعمه، بينما يستمر الانفصاليون الكتالونيون بالمطالبة بالاستقلال.

في المملكة المتحدة، حيث دعم الناخبون من الطبقتين المتوسطة والعاملة بقوة (لاسيما في إنجلترا) البريكست، تكافح رئيسة الوزراء الجديدة تيريزا ماي من أجل توحيد حزبها. ويسعى بعض أعضاء مجلس الوزراء وراء القطيعة التامة مع أوروبا (ما يسمى بالبريكست الصارم) بينما يضغط آخرون بشكل معقول من أجل نهج وسط، وذلك للحفاظ على التجارة مع أكبر سوق للسلع والخدمات البريطانية.

كما تشير هذه الأمثلة، يُمثل الشعبويون قوة جديدة في جميع أنحاء أوروبا، حتى في أماكن غير متوقعة مثل السويد وهولندا. والآن في وقت يشعر فيه ترامب بارتياح تام في أي مكان في القارة الأوروبية تقريبا، ينبغي الرد على غضب الغرب المناهض للمؤسسة الحكومية الذي يمثله ترامب.

يجب أن نُواجه الشعبويين وجها لوجه. يجب أن نقارعهم نقطة بنقطة، بالحجج الدامغة وبهدوء. كما ينبغي معالجة أسباب التهميش الاقتصادي، وهو ما يعني، بداية، توفير خدمات عامة أفضل للفئات المحرومة، والاستثمار في التعليم، والتكنولوجيا، ورفع الأجور، وخلق وظائف تتطلب مهارات عالية

ومن المؤكد أن نمو الاقتصاد البطيء في السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية عام 2008 قد استنزف حماس ناخبي الأحزاب التقليدية الذين يعملون من أجل الحل الوسط. وعموما تُوافق الأحزاب الحاكمة من اليسار واليمين على قضايا مثل التعاون الدولي والتجارة الحرة، والإنفاق العام، وخفض الضرائب. وبينما كان رونالد ريغان، قديس الجمهوريين حاليا، منفقا حكوميا كبيرا، قام الديمقراطي بيل كلينتون بقطع مستحقات الرعاية الاجتماعية مُحدثا توازن الميزانية.

ومع ذلك، يطالب الشعبويون الحاليون بإجابات بسيطة -في الواقع، تبسيطية- خارج نطاق الإجماع السائد. ويلومون العولمة لإتلاف مصادر أرزاقهم و إرباك توقعاتهم الاقتصادية، ويسعون وراء عدو (الآخر) يهاجمونه بسبب حالة عدم اليقين والتقهقر الشديد التي يعانون منها.

ولا تعترف النظرة الشعبية بظلال اللون الرمادي، أو بالحل الوسط. على العكس من ذلك، يعتبرون البحث عن أي توافق في الآراء بمثابة خيانة. من خلال التهديد والوعيد والديماغوجية، يروم السياسيون الشعبويون إعادة الزمن إلى الوراء، إلى عالم ما قبل العلوم التجريبية، كما لو كانت الخرافات والظلامية أفضل للجميع.

وبطبيعة الحال، يرى الشعبويون "الماضي الذهبي" كأرض الأحلام. ولكن كيف نتعامل مع واقع يفضل فيه العديد من الناخبين الخيال عن الحقيقة؟ ونحن بالتأكيد لن نتخلى عن الديمقراطية، ولن نساند في الغرب أولئك الذين -مثل ترامب- هم معجبون بالطاغية جزئيا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويحاولون تقليده.

يجب أن نُواجه الشعبويين وجها لوجه. يجب أن نقارعهم نقطة بنقطة، بالحجج الدامغة وبهدوء. كما ينبغي معالجة أسباب التهميش الاقتصادي، وهو ما يعني، بداية، توفير خدمات عامة أفضل للفئات المحرومة، والاستثمار في التعليم، والتكنولوجيا، ورفع الأجور، وخلق وظائف تتطلب مهارات عالية.

وإذا تحاشينا الشعبويين، أو حاولنا نسخ أساليبهم وحججهم، سوف نُقوض العقد الاجتماعي التي تقوم عليه الديمقراطيات الغربية. ويواجه القادة السياسيون المتصدرون اليوم طريقا محفوفا بالتحديات. وسوف يحتاجون إلى تبني روح قتالية قوية، مع إبراز الثقة في قضيتهم، بدلا من الاستسلام للشعور بالرضا أو الاستقالة أو التراجع. ينبغي الانتصار في هذه المعركة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.