تركيا ومفاعيل معركة الموصل

خارطة عملية تحرير الموصل من تنظيم الدولة

المشاركة التركية
ما بعد المعركة
التعويل الوهمي

أصر المسؤولون الأتراك على المشاركة في معركة الموصل منذ بدء التحضيرات لها، لكن إصرارهم قابله رفض من طرف مسؤولين في حكومة بغداد أطلقوا تصريحات مناهضة لتركيا ولوجودها العسكري بالعراق، ووصل الأمر بهم إلى حد اعتبار القوة العسكرية المحدودة الموجودة في معسكر بعشيقة قوة احتلال.

وفي ظل عدم وضوح وتذبذب الموقف الأميركي الذي انحاز إلى الطرف المعارض للمشاركة التركية في البداية، حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من أنه في حال رفض المشاركة التركية فلدى بلاده خطة (ب) وإذا فشلت فلديها خطة (ج)، وتزامن إعلانه مع تحليق طائرة رئيس أركان الجيش التركي فوق المحيط الأطلسي في طريقه إلى واشنطن للمشاركة في اجتماعات رؤساء أركان جيوش التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

المشاركة التركية
ويبدو أن المناقشات بين الأتراك وقيادة التحالف الدولي على ضوء المقترحات التي قدمها رئيس الأركان التركي، أفضت إلى مشاركة الطيران التركي في المعركة، لكنها مشاركة محدودة، إضافة إلى مشاركة متطوعي كل من "الحشد العشائري، و"الحشد الوطني"، الذين يتراوح عددهم بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل، من متطوعي أهالي محافظة نينوى على اختلاف انتماءاتهم، دربتهم القوات التركية الموجودة في معسكر بعشيقة القريب من مدينة الموصل، وتم إعداد القسم الأكبر منهم، والإشراف عليهم من قبل أثيل عبد العزيز النجيفي محافظ نينوى السابق، فيما بقيت مشاركة القوة التركية في بعشيقة معلقة.

وهي بالمناسبة قوة صغيرة العدد وليست قوة قتالية هامة، يمكنها تقديم الإسناد والدعم اللوجستي، لكن المسؤولين العراقيين المعروفين بولائهم لإيران وتنفيذهم لأجندتها، كانوا يمانعون في مشاركة كل من الحشد الوطني والحشد العشائري، ويرفضون أي مشاركة تركية، مباشرة أو غير مباشرة في المعركة.
ويخشى المسؤولون الأتراك بشدة من مفاعيل خطة معركة الموصل وما بعدها، ولم يخفوا استياءهم من الأخطاء التي ترتكبها واشنطن في إعدادها وتوزيع الأدوار فيها، معتبرين أن من شأنها إشعال فتيل الصراعات المذهبية في العراق والمنطقة.

وتعتقد أنقرة أن لديها مسوغات قانونية لمشاركتها في معركة الموصل، فهي طرف في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، ويخولها ذلك حق نشر قواتها في العراق لمحاربته من دون الحصول على موافقة حكومة بغداد، كما تستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2249 عام 2015، بوصفها إحدى الدول المتضررة من هجمات تنظيم الدولة الذي استهدف مدنها وحدودها الجنوبية خلال العامين الماضيين، إضافة إلى أن اتفاقية أنقرة 1926 ومعاهدة لوزان 1923، تعطيان الحق لتركيا في تأمين حدودها بالتدخل العسكري في العراق أو سوريا.

لذلك وضعت القيادة التركية الخطة "ب" التي يسميها الكاتب التركي عبد القادر سلفي "صيغة البشمركة"، وتتضمن عملية مشتركة ما بين القوات التركية وقوات البشمركة بناء على دعوة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني للمساندة وفقا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وفي حال عدم حصول ذلك ستلجأ تركيا إلى الخطة (ج)، التي تقوم على مبدأ مشابه لعملية درع الفرات في شمال سوريا، من خلال توجيه قوات الحشد الوطني، أو ما يعرف بقوة "حراس نينوى" التي يقودها أثيل النجيفي، دعوة لتركيا من أجل دعمها للتوجه نحو مدينة الموصل.

ما بعد المعركة
وإن كانت القيادة الأميركية قد أجرت تحضيرات كبيرة لمعركة الموصل، وحشدت حوالي مئة ألف مقاتل على الأرض، إضافة إلى أكثر من مئة قاذفة ومقاتلة في الجو، فإن الأهم هو الإعداد والتخطيط لما بعد هذه المعركة، خاصة في ظل التنافس المحلي والإقليمي على الموصل، الذي قد يحول المعركة إلى نكسة إستراتيجية، من خلال نشوب سلسلة من الحروب التي ستدمر الموصل وما حولها، لذلك تخشى تركيا من تكرار ما حدث في الفلوجة والرمادي وتكريت وجرف الصخر وغيرها في الموصل، فما سمي بـ"التحرير" ألحق الدمار بهذه المدن وشرد سكانها.

وماتزال أحداث الفلوجة ماثلة في أذهان أهل الموصل وغيرهم، حين طوقت ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية هذه المدينة ثم دخلتها، بالرغم عن كل ما قيل عن اقتصار دورها على البقاء خارج المدينة، وقامت بارتكاب جرائم وفظاعات بحق سكانها المدنيين الفارين من القصف تفوق كثيرا ما ارتكبه تنظيم الدولة بحقهم. وحتى الآن لم يعد إلى مدينة الفلوجة إلا ما يقارب الخمسمائة شخص من سكانها، الذين كان يزيد عددهم عن الثلاثمائة ألف شخص قبل "التحرير"، لذلك فتخوف تركيا من تكرار ذلك في الموصل له وجاهة، خاصة وأن لا أحد من حكومة بغداد أو من التحالف الدولي يستطيع منع ميليشيات الحشد الشعبي من تكراره في الموصل.

ولم تقم حكومة بغداد بأي مسعى لإعادة إعمار المدن والمناطق التي دمرتها الحرب على تنظيم الدولة، كما لم تحاسب أيا من أفراد الحشد الشعبي الشيعي الذين ارتكبوا انتهاكات وجرائم بحق سكانها، إضافة إلى عدم سعيها لاتخاذ التدابير اللازمة لعودة النازحين إلى مدنهم ومناطقهم، الأمر الذي يكشف مدى عدم اكتراث هذه الحكومة بمصيرهم وحياتهم، إضافة إلى أن القوى السياسية الشيعية المتحكمة بقرارها وتوجهاتها، تعمل على زيادة التوترات المذهبية في العراق، الأمر الذي ينبئ بأنه حتى ولو تم القضاء على تنظيم الدولة (داعش)، فإن كيانات أخرى شبيهة له ستنبعث من جديد.

والأدهى من ذلك كله هو أن قيادة التحالف الدولي أوكلت للحشد الشعبي مهمة الذهاب إلى منطقة تلعفر التي تسكنها غالبية تركمانية، حيث حذرت تركيا من نزوح مليون شخص إذا لم يتم إعداد خطة محكمة لعملية تحرير الموصل، والأخذ بعين الاعتبار التركيبة الديمغرافية للمدينة، ولا شك في أن قسما كبيرا منهم سيتوجه نحو تركيا، الأمر سيؤثر عليها وعلى أوروبا أيضا.

كما حذرت تركيا أيضا من المفاعيل السلبية في حال دخول الميليشيات الشيعية إلى تلعفر، وما يستتبع ذلك مع عمليات تغيير ديموغرافي، خاصة وأن أحد قادة هذا الحشد، قاسم الخزعلي، اعتبر أنها تخوض معركة الموصل "ثأرا وانتقاما من قتلة الحسين، لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد"، الأمر الذي يكشف مرجعيات هذه الميليشيات، وهدفها من المعركة، خاصة وأن ما يقارب نصف مليون تركماني كانوا يعيشون في تلعفر وما حولها قبل سقوطه بيد تنظيم الدولة عام 2014.

وترى أنقرة أن هدف ميليشيا الحشد الشعبي هو تنفيذ مخطط إيران في استكمال حزامها المذهبي الشيعي الواصل بين إيران وسوريا مرورا بالعراق، عبر تلعفر والموصل، وذلك بالتعاون مع حليفها حزب العمال الكردستاني (بي كا كا)، المتواجد في بعض مناطق وجبال سنجار، حيث إن هذا الحزام سيسهم في تزويد نظام الأسد في سوريا بالميليشيات المذهبية العراقية والإيرانية، وفي دعم هذا النظام ومده بالمعدات العسكرية واللوجستية.

إضافة إلى أن تركيا تخوض حربا دامية مع مقاتلي حزب العمال الكرستاني الذي تعتبره منظمة إرهابية، ويتخذ من مواقعه في العراق مراكز للهجوم على تركيا، كما أن حكومة بغداد تغض الطرف عن تواجده ونشاطه، ولم تعامله مثلما عاملت منظمة مجاهدي خلق المناهضة لنظام الملالي في إيران.

التعويل الوهمي
ولا شك في أن الإدارة الأميركية تدرك جيدا مفاعيل معركة الموصل وما بعدها، إلا أنها لا تكترث بخطورة هذه المفاعيل على العراق وتركيا وسوريا، بل والمنطقة كلها، لأن المهم بالنسبة إليها هو توظيف هذه المعركة كإنجاز تضعه في سجل الرئيس باراك أوباما قبل مغادرته البيت الأبيض، وأن تدخلها في حسابات الانتخابات الأميركية، كنصر يمكنه أن يضيف نقاطا إضافية لصالح المرشحة الديمقراطية هيلاي كلينتون، عله يزيد من حظوظ فوزها بالانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.

وبالرغم من كل مفاعيل وإرهاصات معركة الموصل، فإن التعويل الأميركي والإيراني على هزيمة تنظيم الدولة هو مجرد وهم، لأنه ليس جيشا نظاميا كي تخاض ضده المعارك ويهزم فيها، ولا يهمه كثيرا التمسك بالأرض، بل هو أقرب إلى حالة تمرد واستجابة خاطئة على ممارسات خاطئة ومظالم وانتهاكات مرتكبة، تستلزم بالأساس معالجة سياسية لاجتثاث أسباب القهر والاضطهاد بحق الناس البسطاء، بمعنى أن الخلاص من التنظيم ومقاتليه، يستلزم حلا سياسيا ينهي الظروف والأسباب التي أفضت إلى ظهوره وانتشاره الكبير، وقد تفضي المعارك العسكرية إلى اختفاء أو ذوبان عناصر التنظيم، لكنه اختفاء في انتظار انبعاث جديد في شكل قد يكون أكثر تطرفا وجذرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.