فزاعة انهيار السلطة وعقم الخيارات الفلسطينية

تحديات في طريق السلطة الفلسطينية

انهيار السلطة فزاعة وهمية
مأزق فتح
مأزق حماس
القيادة الموحدة وصفة للفشل

النغمة الإسرائيلية الجديدة حول قرب انهيار السلطة الفلسطينية، وتمسك الرئيس محمود عباس بها كإنجاز وطني، وطبيعة الدور الأمني الذي تطلبه إسرائيل من السلطة لإنهاء انتفاضة القدس، ينكأ من جديد المأزق المزمن للسياسة الفلسطينية وعقم الخيارات الفصائلية التي أورثت الفلسطينيين دوام الخلاف والانقسام.

انهيار السلطة فزاعة وهمية
بدا لافتا في الآونة الأخيرة تصاعد النغمة الإسرائيلية بشأن قرب انهيار السلطة الفلسطينية، وهو ما تجسد في تصريحات صريحة صادرة عن أعلى المستويات السياسية والعسكرية والأمنية داخل "إٍسرائيل"، وما تلاها من اجتماعات سياسية ونقاشات أمنية إزاء السلوك الإسرائيلي بشأن مؤشرات تداعي وانهيار السلطة والسيناريوهات اللاحقة.

الضغط والتهديد الإسرائيلي لا يتعلق بأي اتجاه نحو السماح بانهيار السلطة، أو العمل على انهيارها، فلذلك مخاطره الكبرى ولا يمكن لإسرائيل احتمال وقوعها، وإنما يتعلق بتخويف قيادة السلطة وشن حرب نفسية عليها

إن أكثر ما يلفت النظر في السلوك الإسرائيلي الجديد بشأن موضوع حل السلطة أو انهيارها، أن إسرائيل قد تولت إطلاق الحديث هذه المرة بعد أن تقوقعت في مربع الحذر منه طيلة الفترات الماضية، في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس محمود عباس تمسكه بالسلطة كإنجاز وطني وعدم السماح بحلها أو انهيارها بعد أن حذر من ذلك مرات عديدة في مفاصل ومنعطفات سابقة.

ولعل في انتفاضة القدس الخبر اليقين، إذ إن شدة وطأة الانتفاضة على الاحتلال، حكومة وجيشا وأمنا واقتصادا واجتماعا، وضعف استجابة السلطة للمطالب والدعوات الإسرائيلية الملحة للتصدي الكامل لمظاهر الانتفاضة وتجييش القوة الأمنية الفلسطينية لإنهائها، وما قاده ذلك إلى هستيريا إسرائيلية في مواجهة الانتفاضة وتداعياتها العميقة، كل ذلك اضطر حكومة الاحتلال ومؤسساتها الأمنية والعسكرية للانتقال من مربع الدعوة والمطالبة إلى مربع الضغط والتهديد المباشر الذي يمس وجود السلطة وكيانها وشخص رئيسها الذي ناقشت حكومة الاحتلال مسألة خلافته بجدية، وبحثت الأسماء الكفيلة بوراثته سياسيا خلال المرحلة المقبلة.

لكن الضغط والتهديد الإسرائيلي لا يتعلق –بحال- بأي اتجاه نحو السماح بانهيار السلطة، أو العمل على انهيارها، فلذلك مخاطره الكبرى ومحاذيره العظمى التي تتحاشاها إسرائيل ولا يمكن لها احتمال وقوعها، وإنما يتعلق بتخويف قيادة السلطة وشن حرب نفسية عليها، وبحث أمر استبدال الرئيس عباس الذي لا ترى فيه الشخص الأنسب لقيادة السلطة وحماية الأمن الإسرائيلي وإدارة الوضع الفلسطيني الداخلي في المرحلة القادمة.

ومما يبدو فإن الضغط والابتزاز الإسرائيلي قد آتى أكله، بدرجة أو بأخرى، حيث رفعت السلطة مستوى التنسيق الأمني بشكل ملحوظ في الأيام الأخيرة، ووسعت من دائرة تعاونها مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وفقا لتأكيدات صادرة عن العديد من المصادر الفلسطينية والإسرائيلية.

مع ذلك، فإن الرضا الإسرائيلي عن أداء السلطة أمنيا لا يرقى إلى مستوى الكمال، فالسلطة لم تنكر في خطابها السياسي الرسمي حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وعزت الانتفاضة الراهنة إلى حجم جرائم الاحتلال، وامتنعت عن تلبية الطلب الإسرائيلي بوقف التحريض، مما يعني أن الضغط الإسرائيلي على السلطة سوف يبقى مستمرا وملحا حتى تلبية كامل المطالب الإسرائيلية، متوسلا بقضايا ذات علاقة بالسلطة وامتيازاتها الكثيرة.

مأزق فتح
تبرز إشكالية فتح أساسا في ضبابية الأدوات والوسائل النضالية التي ينبغي اعتمادها في إطار برنامجها الوطني إثر فشل المفاوضات كأداة لتحقيق الأهداف والحقوق الوطنية الفلسطينية.

وبطبيعة الحال فإن اختيار الأدوات النضالية ينعكس، بالتالي، على مجمل السلوك التنظيمي والحياة الوطنية، فما كان سائدا زمن المفاوضات والالتزامات الأمنية (التنسيق الأمني) من أدوات لا ينبغي له الاستمرار في ظل المرحلة الراهنة التي تشهد استخفافا إسرائيليا غير مسبوق بالحقوق الفلسطينية.

المقاومة الشعبية تشكل الأداة النضالية التي روجت لها قيادة فتح طيلة المرحلة الماضية، لكنها لم تستطع، أو لربما لم ترغب، في إنزالها منزل التطبيق الواقعي على امتداد ساحات ومساحات الوطن مع ما يستلزمه ذلك من ثمن وكلفة وتضحيات، لتبقى المقاومة الشعبية أقرب ما تكون إلى الجانب الشعاراتي الذي تستثنى منه الفعاليات المبعثرة أيام الجمع وفي بعض المناسبات قرب الجدار الفاصل ومناطق التماس.

أما المقاومة المسلحة فهي غير مطروحة ضمن الأجندة الفتحاوية الراهنة، كونها تتناقض مع مبرر وأسس وجود السلطة التي تشكل فتح حاميها الأكبر وعمودها الفقري.

وحين اندلعت أحداث انتفاضة القدس وقفت فتح وكذلك حماس وبقية الفصائل موقف المتفرج، إذ لم تبلغ نسبة الإسهامات الفصائلية في ميادين المواجهة شيئا معتبرا، وبدا أن فتح تعمل على استثمار وتوظيف نتائج الانتفاضة لأهداف سياسية بحتة تتصل بمحاولة إحداث حراك سياسي إقليمي ودولي تستعيد به السلطة ماء وجهها، ويُعاد فيه تموضع المسيرة التفاوضية على أسس جادة أكثر قبولا للطرف الفلسطيني.

وحتى اللحظة تقف فتح موقف المحتار أمام سيرورة الأحداث، فلا هي تحلت بالشجاعة المقترنة بإعادة النظر في أدواتها الكفاحية، من حيث حسن توجهها النضالي، سواء عبر اعتماد أسلوب المقاومة الشعبية قولا وعملا، أو المشاركة الفعلية في انتفاضة القدس، ولا هي خطت خطوة باتجاه المصالحة الفلسطينية الداخلية عبر عقد الإطار القيادي المؤقت وحل كافة ملفات المصالحة العالقة بما فيها العمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية.

بل إن فتح عجزت عن التصالح مع مكوناتها الداخلية عبر عقد مؤتمرها العام السابع الذي تأجل لأسباب داخلية.

لذا، فإن غياب الحسم الفتحاوي على كافة الجبهات، الداخلية والخارجية، يضعف من قوة فتح وفعاليتها الوطنية، ويغري بها الاحتلال الغاشم، ويجعلها في موقع الاستقبال لمجريات وتطورات الأحداث دون أي مبادرة لإعادة صياغة الواقع أو صناعة الحدث بما يخدم الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

يتجسد مأزق حماس  في إصرارها على الجمع بين النقيضين: الحكم والمقاومة، وتشوّش رؤيتها الإستراتيجية والتكتيكية، مما جعل سلوكها أقرب ما يكون إلى العشوائية المفتقرة إلى الرؤية الواضحة

مأزق حماس
يتجسد مأزق حماس أوضح ما يكون في إصرارها على الجمع بين النقيضين: الحكم والمقاومة، وتشوّش رؤيتها الإستراتيجية والتكتيكية، مما جعل سلوكها أقرب ما يكون إلى العشوائية المفتقرة إلى الرؤية الواضحة ودقة الحسابات السياسية والوطنية.

ترفع حماس شعار وبرنامج المقاومة بكافة أشكالها، لكنها عمليا لا تمارس المقاومة إلا في إطار ضيق يتعلق بالدفاع عن النفس في قطاع غزة، ولا تبدو قادرة على ممارستها بأريحية في الضفة الغربية بفعل المنع المباشر من قبل أمن السلطة، في وقت تحجم عن أي تفكير يتعلق بتنفيذ أي عمل مقاوم داخل أراضي الـ48 لأسباب وحسابات موضوعية.

في المقابل، تعطي حماس أولوية للحكم، وتوهم نفسها بأن استمرار سيطرتها على قطاع غزة بمثابة إنجاز إستراتيجي ومكسب تاريخي ينبغي عدم التفريط به، وتعتقد أن غزة تشكل نقطة انطلاق المشروع الوطني نحو النصر والتحرير.

من هنا فإن حماس تتردد كثيرا في التعاطي مع دعوات المصالحة كونها ترى فيها مدخلا لعودة السلطة لحكم القطاع، وتضع رؤية تضمن لها الشراكة الكاملة في الحكم والإدارة رغم فقدانها العديد من أوراق القوة التي امتلكتها في الماضي، وتحاول الاستقلال بنموذجها في غزة وتخفيف وطأة الحصار المفروض عليها.

وبين يدي انتفاضة القدس عاشت حماس، وأيضا فتح وبقية الفصائل، على هامش الأحداث، ولم تقدم سوى إسهامات ميدانية محدودة، باستثناء التعبئة المعنوية والتحشيد الإعلامي الذي برعت فيه الحركة وحاولت بموجبه ركوب موجة الأحداث.

ولعل حماس أكثر ما تكون رهانا هذه الأيام على سيناريو إضعاف فتح والسلطة في الضفة بفعل استمرار انتفاضة القدس، وهو سيناريو غير ذي جدوى وطنيا كونه يقود إلى سيناريوهات لا تملك الحركة أي رؤية أو تصور للتعامل معها.

في ثنايا إدارة حماس لشؤون القطاع تبرز معالجاتها الخاطئة المعاكسة لرضا الجماهير الغزيّة، وخصوصا قيامها بفرض المزيد من الضرائب على الناس في ظل ظروف معيشية قاهرة وأوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة بسبب استمرار الحصار.

وتعوّل حماس بدرجة ما على الموقف التركي الذي يشترط عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل برفع الحصار عن قطاع غزة، إلا أنها لا تلقي بكامل آمالها في جعبة الموقف التركي الخاضع للمصالح القومية التركية أولا وأخيرا.

ويبدو رهان حماس أكثر ما يكون على تحقيق الاكتفاء الذاتي عبر فرض الضرائب وزيادة الجباية الداخلية, مما يتيح لها تحقيق أريحية في دفع رواتب الموظفين وتسيير الإدارات الحكومية، إلا أن ذلك يشكل –بلا ريب- سلاحا ذا حدين وذا تبعات بالغة السلبية تمس البنية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لأهالي القطاع على المدى القريب والمتوسط.

القيادة الموحدة وصفة للفشل
يتوهم البعض أن تشكيل قيادة وطنية موحدة لانتفاضة القدس كأحد الخيارات الوطنية، من شأنه أن يخرج بالانتفاضة عن نطاق العمل الفردي إلى العمل الجماعي المنظم، وأن يظلّها تحت سقف سياسي مطلبي واضح، بعيدا عن تشوش الرؤية الحاصلة بفعل دوران الأحداث خارج سياق المجرى الفصائلي الذي كان سائدا زمن انتفاضة الأقصى الماضية عام 2000.

وبلغ الوهم بالبعض حدّ الاعتقاد أن استمرار الانتفاضة من عدمه منوط باحتضانها فصائليا وصبغها بالصبغة الفصائلية الكاملة.

لكن دراسة وافية للانتفاضة الحالية، مسارا وجدوى وتداعيات، مقارنة بانتفاضة الأقصى، يكشف بجلاء عن التميّز الفريد للانتفاضة الحالية الذي منحها إكسير النجاح عبر انصباغها بالعمل الفردي البحت الذي حقق نتائج باهرة لم تكن تخطر على بال.

تناقض الرؤى الوطنية والبرامج السياسية، وانحياز كل فصيل إلى مصالحه الخاصة، تجعل من الاتجاه نحو تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة وصفة للفشل المحقق وقفزة في الفراغ

فقد أظهرت انتفاضة القدس أن غياب الهيمنة الفصائلية على مجرى أحداثها وفعالياتها شكل عنصر إسناد وإنجاح لها وضمانا لمنحها المزيد من القوة والاستمرارية، في وقت تلعب فيه الفصائل دورا سلبيا في المجتمع الفلسطيني عبر تكريسها الانقسام السياسي والجغرافي بين شقي الوطن الفلسطيني في المرحلة الراهنة.

إن الخلافات والتناحرات والصراعات الفصائلية، وتناقض الرؤى الوطنية والبرامج السياسية، وانحياز كل فصيل إلى مصالحه الخاصة وتغليبها على المصالح الوطنية الجامعة، وضعف قيم ومفاهيم التعاون والشراكة بين الفصائل، تجعل من الاتجاه نحو تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة وصفة للفشل المحقق وقفزة في الفراغ.

وبطبيعة الحال فإن الانسلاخ عن هذه الفكرة لا يحمل تجنيا على الفصائل الفلسطينية أو تقليلا من شأنها ومكانتها وتضحياتها الجليلة وإرثها الكفاحي الطويل، بقدر ما يحمل تشخيصا مرّا للواقع ضمن المرحلة الراهنة، وتوصيفا دقيقا لإمكانيات التوافق والالتقاء التي تبدو اليوم في أَضعف حالاتها فلسطينيا.

وختاما.. فإن السلطة الفلسطينية مدعوّة اليوم لمواجهة سياسة الابتزاز والقهر الإسرائيلية بكل شجاعة، والانسجام مع قرارات المجلس المركزي الفلسطيني وخطاب الرئيس عباس العام الماضي إزاء مراجعة الاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية مع الاحتلال، كما أن حماس وفتح مدعوتان إلى حسم خياراتهما الوطنية باتجاه الصالح الفلسطيني العام، وإنجاز المصالحة الفلسطينية الداخلية القادرة على توحيد الصف الفلسطيني في مواجهة العربدة والإرهاب الإسرائيلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.