إسرائيل وإعادة رسم خارطة المنطقة

الجيش الإسرائيل في حالة تأهب في الجولان

السعودية وإيران
مصالحة تركيا
الدور المصري
مهاجمة الفلسطينيين

سيولة غير معهودة تشهدها تطورات المنطقة العربية، لا تمنح صانع القرار فرصة إعداد تقدير موقف على نار هادئة، بل إنها قد تدفع دولها إلى اتخاذ مواقف وسياسات قد لا تكون متفقا عليها لدى دوائرها المغلقة، بما فيها إسرائيل التي ترى في تصاعد الخلافات بين دول المنطقة مخاطر قد تتحول إلى فرص في لحظة من اللحظات، وعلى هذا الأساس تحاول البحث عن مصلحة هنا، وفرصة هناك.

السعودية وإيران
المستجد الأهم والأخطر في تطورات المنطقة وفق ما تراه دوائر صنع القرار الإسرائيلي، يتمثل في التدهور التدريجي الحاصل في علاقات الدولتين الأكبر على ضفاف الخليج العربي، ممثلتين في السعودية وإيران، اللتين يبدو أنهما بصدد دخول نفق طويل من التوتر السياسي والدبلوماسي، ولا أحد يعلم هل سيترجم ذلك إلى سلوك ميداني تصعيدي بينهما بصورة مباشرة، أم الاكتفاء باستمرار "حروب الوكالة" في سوريا واليمن والعراق.

لا تخفي إسرائيل قلقها من التمدد الإيراني الحاصل في المنطقة، ونفوذها المتنامي على عدة عواصم عربية، ووصولها أخيرا إلى مشارف حدودها الشمالية في قلب الجولان السوري المحتل

وبعيداً عن الدخول في تفاصيل الخلاف القائم في منطقة الخليج العربي، فإن التزام تل أبيب الصمت تجاه التطور الخطير في علاقات الرياض وطهران، لا يعني أنها لا تشعر بالارتياح وهي ترى الدولتين الكبريين تعيشان قطيعة سياسية، وربما أكثر من ذلك، مما يمنح إسرائيل فرصة الظهور بمظهر الدولة القومية المتماسكة التي تمثل يهود العالم، والقادرة على إدارة خلافاتها وتبايناتها بصورة هادئة.

لا تخفي إسرائيل قلقها من التمدد الإيراني الحاصل في المنطقة، ونفوذها المتنامي على عدة عواصم عربية، ووصولها أخيرا إلى مشارف حدودها الشمالية في قلب الجولان السوري المحتل، وأعلنت تل أبيب غير مرة أن الحرس الثوري الإيراني باتت له قواعد عسكرية تشرف على إسرائيل من جبال الجولان الشاهقة، مما جعلها تعيد تعريف الجولان كجبهة عسكرية قتالية أسوة بلبنان وغزة، ولذلك ربما ترى في أزمة إيران مع السعودية فرصة لانشغال إيراني بقضايا جانبية على حساب تفعيل جبهة الجولان، أو هكذا على الأقل تفكر إسرائيل.

أما السعودية فلا تخفي إسرائيل تحفظها على سياستها الخارجية، لاسيما عقب تولي الملك سلمان مقاليد الأمور، وقيامها ببعض الخطوات الدبلوماسية التي أثارت قلق تل أبيب، سواء على صعيد تصالح السعودية مع حماس، أو فتح صفحة جديدة مع تركيا، وما يقال عن حالة البرود في العلاقة السعودية مع حليفتها الأوثق في مصر، وابتعاد الرياض عن السياسة المتساوقة مع الإدارة الأميركية.

مصالحة تركيا
تشير الكثير من التقديرات الإسرائيلية إلى أن المصالحة مع تركيا تقترب رويدا رويدا، وإن كانت بخطى بطيئة، في ظل اتفاق الطواقم الفنية على الكثير من التفاصيل المتعلقة بشروط المعلنة لإتمام المصالحة، لاسيما تعويضات الضحايا الأتراك، ورفع الحصار عن غزة، ولم يتبق سوى موافقة الزعيمين المقيمين في أنقرة وتل أبيب للتوقيع النهائي على هذه المصالحة، لطي صفحة استمرت أكثر من خمس سنوات من القطيعة شبه الكاملة.

الإسرائيليون لديهم شبه قناعة بأن ما كان من علاقات إستراتيجية وتحالف وثيق مع الأتراك قبل العام 2010 لن يعود إلى سابق عهده في 2016، نظرا لكثير من الاعتبارات لدى الجانبين، وقناعتهم تزداد بأن "أردوغان" لم يقم بهذه "الاستدارة الاضطرارية" نحو تل أبيب إلا بعد التأزم الذي حصل مع موسكو، وهو بصدد إعادة تموضع لعلاقاته الإقليمية والدولية، فيما يبدو "نتنياهو" بحاجة إلى الاقتراب من عدوه اللدود لمصالح اقتصادية في غالبها متعلقة بحقول الغاز، وتصديره إلى أوروبا.

أنقرة وتل أبيب تقتربان يوما بعد يوم من مصالحة "مصلحية" في ضوء تفجر الموقف في المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، دون أن تتعبد الطريق بالكامل لتطبيع العلاقات، لكن إسرائيل قد ترى في عودة الدفء النسبي مع تركيا نوعاً من إدارة الوضع المتأزم في المنطقة، رغم ما يواجه "نتنياهو" من مصاعب شخصية للذهاب إلى مصالحة "أردوغان" خشية اتهامه من قبل اليمين المتطرف -شريكه في الائتلاف- بالخضوع لشروط الأخير، في الوقت الذي يستمع فيه لتوصيات من "المعارضة" بالمضي قدما في هذا الخط، ويا للمفارقة!

الدور المصري
لا يحتاج المرء كثيرا من التفكير حين يرقب ذلك التحالف المتنامي بين تل أبيب والقاهرة التي تعلم جيدا أن الجهد السياسي الذي يبذله الإسرائيليون في عواصم صنع القرار يشكل لها الغطاء الدبلوماسي الأهم على مستوى العالم، مقابل ما توفره القيادة المصرية الحالية من استقرار أمني عز نظيره في المنطقة على حدود إسرائيل، في ضوء التعاون الأمني غير المسبوق الذي تجلى كثيرا في التحليق الجوي الدوري داخل الأجواء المصرية، لاسيما في شبه جزيرة سيناء. ولم يكن ليحصل هذا لولا حالة التناغم القائمة بين دوائر صنع القرار المصري والإسرائيلي.

تبذل إسرائيل مساعي لا تخطئها العين على مختلف الأصعدة في سبيل تأمين النظام المصري الحالي، لأن فقدانه يعني انكشاف ظهر إسرائيل أمام المنطقة، وهو ما تترتب عليه خسائر إستراتيجية بعيدة المدى

تبدي إسرائيل قلقاً لا تخفيه إزاء القلاقل الأمنية التي تشهدها المدن المصرية بين حين وآخر، وترى أنها قد تضطرها لأن تخسر حليفاً يزيد في أهميته عن عهد مبارك المخلوع، وهو ما يجعلها تبذل مساعي لا تخطئها العين على مختلف الأصعدة: السياسية والأمنية، داخل المنطقة وخارجها، في سبيل تأمين النظام المصري الحالي، لأن فقدانه يعني انكشاف ظهر إسرائيل أمام المنطقة، وهو ما تترتب عليه خسائر إستراتيجية بعيدة المدى، ولذلك لا ترى إسرائيل أنها في وارد المقامرة بمستقبل هذا النظام، مهما كلفها ذلك.

وبينما تمنح الأجهزة الأمنية الإسرائيلية نظيرتها المصرية كامل الدعم الأمني واللوجستي لمحاربة ما ترى أنها تهديدات أمنية جدية على الحدود الجنوبية لإسرائيل، لاسيما على طول جبهة سيناء، لا تثق إسرائيل في أي طرف آخر يحفظ أمنها، مما دفعها لإيلاء الجبهة المصرية تعزيزات عسكرية واستخبارية جديدة.

ورغم أن ذلك تم بالتنسيق الكامل مع السلطات المصرية، لكنها تعبر عن قلق إسرائيلي حقيقي من تهديد أمني بات يداهمها بعد هدوء استمر أكثر من أربعة عقود، وتحديدا بعد انتهاء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

مهاجمة الفلسطينيين
ربما لم تكن إسرائيل في زحمة هذه الفوضى العارمة التي تشهدها المنطقة، بحاجة إلى مزيد من التوتر الأمني داخل حدودها، وأقصد بذلك اندلاع انتفاضة القدس منذ أوائل أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتأخذ منحى تصاعدياً يوماً بعد يوم، وهو ما قد يضطرها لإحداث تغييرات جوهرية في سلم أولوياتها الأمنية، بما قد يربك مخططاتها العسكرية الخاصة بمعالجة التطورات الميدانية في المنطقة بشكل عام.

يدرك الإسرائيليون جيداً أن تطورات المنطقة المتلاحقة بحاجة إلى أخذ استراحة محارب من معالجة الملف الأمني الفلسطيني الداخلي، على اعتبار أن التطورات الداخلية يمكن التعامل معها بين حين وآخر، وقد تذهب إسرائيل لترحيل هذه الأوضاع الأمنية الداخلية إلى أن ينتهي تقييمها للصورة الأمنية الكاملة في المنطقة، وتحديداً على حدودها المحيطة بها في: مصر وسوريا ولبنان والأردن.

لكن تواصل الانتفاضة الفلسطينية بصورة متلاحقة، وربما انتقالها من مرحلة إلى أخرى، من طعن السكاكين إلى عمليات الدعس، وصولاً إلى عمليات إطلاق النار، قد يدفع الإسرائيليين إلى اتخاذ قرارات دراماتيكية ميدانية ضد الفلسطينيين، بما فيها توسيع عمليات الاجتياح للضفة الغربية، والقيام بعملية "سور واقٍ" جديدة، وما قد يتخلله ذلك من إمكانية انهيار السلطة الفلسطينية، أو تفكيكها أو سقوطها، في غمرة من انشغال الإقليم العربي بملفاته الداخلية، وحروبه الأهلية.

هناك سوابق تاريخية تدفع الفلسطينيين إلى إبداء القلق والخشية من استغلال إسرائيل للتطورات الإقليمية الساخنة للانقضاض عليهم، وتثبيت حقائق جديدة على أرض الواقع في غمرة انشغال الدول الإقليمية بصراعاتها وحروبها

في الجانب الثاني من الوضع الأمني الفلسطيني، يظهر قطاع غزة الذي بات يشكل تهديدا عسكريا جديا على الأمن الإسرائيلي، وتتزايد التهديدات الإسرائيلية بشن حرب جديدة رابعة بالتزامن مع تواصل حركات المقاومة الفلسطينية لتعزيز قدراتها العسكرية، بما في ذلك حفر الأنفاق والتجارب الصاروخية والبنية التسليحية، في الوقت الذي يواصل فيه الجانب المصري إجراءاته الأمنية على حدود غزة الجنوبية.

هناك سوابق تاريخية تدفع الفلسطينيين إلى إبداء القلق والخشية من استغلال إسرائيل للتطورات الإقليمية الساخنة للانقضاض عليهم، وتثبيت حقائق جديدة على أرض الواقع في غمرة انشغال الدول الإقليمية بصراعاتها وحروبها.
 
ويمكن في هذه العجالة استرجاع ما حصل عام 1982 حين هاجمت إسرائيل الفلسطينيين في لبنان، وطردت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من هناك، في ظل انشغال العرب بالحرب الإيرانية-العراقية، بينما انتهزت تل أبيب الحرب العالمية ضد تنظيم القاعدة عام 2001 عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وذهبت في عهد "أرييل شارون" لمحاصرة الرئيس ياسر عرفات تمهيدا لاغتياله، دون أن يجد هذا الحدث الجلل ردود فعل تليق به.

أخيراً.. لا يرى الإسرائيليون واقعاً أفضل مما تحياه المنطقة العربية، من تقسيم المقسم وتفتيت المفتت ودخول الدول العربية في أتون صراعات داخلية وحروب أهلية ونزاعات دامية، وهو ما يجعلها تؤجل معالجة التهديد الإسرائيلي الأساسي لها، بحيث يتراجع رويدا رويدا، رغبة منها في التفرغ لحل مشاكلها الداخلية. وإلى حين تنتهي هذه المشاكل، تكون إسرائيل أكثر قوة وأقوى مناعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.