التخريب الثقافي المتعمد في أميركا

epa02983772 A fire boat sprays water as it passes near the Statue of Liberty on Liberty Island in New York, New York, USA, 28 October 2011 during its 125th anniversary. The Statue of Liberty was a gift from France to the United States and was originally dedicated on 28 October 1886. EPA/JUSTIN LANE
وكالة الأنباء الأوروبية

كلما سمعت عن هدم الكنوز الأثرية وتحطيم المنحوتات والتماثيل بأيدي مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، تبادر إلى ذهني ذلك الهجوم الذي يشنه الساسة في الولايات المتحدة على العملية العلمية.

إن بنيتنا الأساسية العلمية -الوسيلة الأساسية التي نفهم بها العالم ونتمكن من تحديد وصد التهديدات والسعي نحو تحقيق مستقبل أفضل- تتعرض للهجوم من قِبَل المشرعين الذين يعتبرون العِلم عقبة تحول دون تحقيق أهدافهم، وهو بالتالي هدف لا بد من إزالته والتخلص منه.

لعل المقارنة تبدو مفرطة في المبالغة، فـقد يزعم المرء أن التدخل في الأفكار أو التصادم معها ليس كمثل تدمير أشياء ثمينة، وأن ترقيع المسؤولين المنتخبين للتشريعات من غير الممكن أن يقارن بمقاتلين مسلحين تتضمن أنشطتهم الأخرى بتر الأيدي وقطع رؤوس الأبرياء. وكل من يعقد مثل هذه المقارنات ربما يبدو وكأنه وقع ضحية للخطاب السياسي غير العقلاني الذي يجتاح بالفعل الحملة الانتخابية الرئاسية في أميركا.

ولكن اسمحوا لي أن أعرض التالي: في العام 2010، أشارت تقديرات لجنة العلوم التابعة لمأمورية الموارد الساحلية في نورث كارولينا إلى ارتفاع في مستويات سطح البحر قد يهدد بعض المجتمعات في المناطق الخفيضة على مدى القرن القادم.

قد يزعم المرء أن التدخل في الأفكار أو التصادم معها ليس كتدمير أشياء ثمينة، وأن ترقيع المسؤولين للتشريعات من غير الممكن أن يقارن ببتر الأيدي وقطع رؤوس الأبرياء. وكل من يعقد مثل هذه المقارنات ربما يبدو وكأنه وقع ضحية للخطاب السياسي غير العقلاني الذي يجتاح الحملة الانتخابية بأميركا

وكان رد المشرعين في الولاية بإقرار مشروع قانون قضى بمنع صناع السياسات من استخدام النتائج التي توصلت إليها اللجنة، وبالتالي تسبب ذلك في تقويض قدرة المسؤولين على الوفاء بواجبهم الأساسي المتمثل في حماية سواحل الولاية ومواردها ومواطنيها.

وعلى المستوى الوطني، أقر مجلس النواب الأميركي مؤخرا مشروع إعادة الموافقة على قانون أميركا تنافس للعام 2015، الذي يقضي بحظر استخدام البحوث التي تمولها وزارة الطاقة في رسم السياسات. والواقع أن اللغة المستخدمة في قسم يتناول الطاقة كانت مقحمة بوضوح لحماية أصحاب مصالح النفط والغاز من الاكتشافات التي يتم التوصل إليها بشأن تأثير أنشطتهم على تغير المناخ.

ولكن إذا أقر مجلس الشيوخ مشروع القانون ووقع عليه الرئيس، فإن العواقب المترتبة عليه من المرجح أن تمتد إلى ما هو أبعد من تغير المناخ، مع عجز المسؤولين عن استخدام أي بحث لوزارة الطاقة ممول بأموال دافعي الضرائب لحماية المواطنين الأميركيين.

ومن ناحية أخرى، لا يزال لامار سميث، النائب الجمهوري من تكساس الذي تولى رعاية قانون أميركا تنافس، يواصل سعيه الذي دام عامين لاستخدام لجنة مجلس النواب للعلوم والفضاء والتكنولوجيا، التي يتولى رئاستها، لتعديل عملية مراجعة الأقران وتقديم المنح في مؤسسة العلوم الوطنية، وهو ما يجعلها فعليا مفتوحة لمراجعة الكونغرس.

وكل هذه ليست حالات تنطوي على ساسة مختلفين حول ما إذا كان من الواجب عليهم أن يتصدوا لتهديدات مثل ارتفاع مستوى سطح البحر وتغير المناخ وكيف يتصدون لها، فهي تمثل قضايا سياسية وموضوعات صالحة للمناقشة في إطار أي نظام ديمقراطي.

بل إنها في واقع الأمر أمثلة لساسة يتعمدون حجب معلومات حساسة وبالغة الأهمية تتعلق بتهديدات خطيرة، ولأسباب حزبية، إن لم تكن شخصية. فقد قرروا أن السياسة لا بد أن تقوم فقط على ما اختاروا تصديقه بالفعل، وليس على أدلة تجريبية تم التوصل إليها من خلال العملية العلمية.

وهنا يكمن الرابط بين الساسة الأميركيين وتنظيم الدولة الإسلامية، فكل من الجانبين ينخرط في عملية تدمير ثقافي تستند إلى دوافع إيديولوجية. والفارق هنا هو أن الساسة لن يعترفوا بدوافعهم الإيديولوجية. بل يعمدون بدلا من ذلك إلى تبرير مواقفهم بزرع عدم الثقة في البينية الأساسية العلمية والتي تنتج الاكتشافات التي لا تروق لهم ثم يسوقون حججا واهية حول "عدم اليقين العلمي".

وهذا لا ينطوي على قدر هائل من الخداع فحسب، بل إنه أيضا يمنع المناقشة البنّاءة لقضايا بالغة الأهمية، والأسوأ من هذا أنه يشكك في العملية العلمية والمؤسسات التي تعتمد عليها الحضارة الحديثة.

ربما ينبغي للمشاركين في المناظرة التالية بين المرشحين الرئاسيين أن يميزوا -من وجهة نظر أخلاقية- بين الساسة الذين يهاجمون العملية العلمية ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين يدمرون الآثار القديمة. وينبغي لهذا أن يدفع المناظرة إلى الأمام

بعبارة أخرى، دعنا نفترض أن تصورك الفطري الخاص لكيفية السفر يسمح لك بالانطلاق في رحلة طويلة بالسيارة من دون التزود باللوازم الأساسية مثل رافعة السيارة أو مفتاح الإطارات أو أي شكل من أشكال الخرائط أو أنظمة الملاحة. وقبل أن تغادر، قمت بمسح معلومات الاتصال الخاصة بشركات تقديم الخدمات على الطريق من هاتفك الخليوي، استنادا إلى اعتقاد لا أساس له من الصحة بأن مقدمي الخدمة هؤلاء مخادعون ويعملون لمصلحتهم الشخصية. وأخيرا، قمت باصطحاب عِدة أشخاص آخرين معك في الرحلة، من دون إطلاعهم على مدى كفاءة تجهيزاتك (أو رداءتها).

وفقا للقانون الأميركي، ترقى مثل هذه التصرفات إلى "تعريض آخرين للخطر بتهور" أو "إهمال يستوجب العقاب". ورغم هذا فإن الساسة ينطلقون في رحلات كهذه على وجه التحديد، ويواجهون قدرا بالغ الضآلة من المعارضة.

إن الحجج التي تستند إلى الحقائق، كتلك التي عرضها مقال افتتاحي صدر مؤخرا في مجلة العلوم لا بد أن تكون كافية لإرغام قادة الولايات المتحدة على تغيير نهجهم. ولكن الحقائق لا يمكنها أن تنافس الإيديولوجيا. بل إن أي معارضة -حتى عندما تدعمها الأدلة التجريبية- تُصوَّر دوما وكأنها هجوم على الإيديولوجيا (المتفوقة) التي يعتنقها الساسة، سواء كانت تحررية أو تمليها أصولية دينية.

وعلى هذه الخلفية، تبدو المقارنات الصادمة الصارخة -والتي قد تكون مهيجة- بكيانات مثل تنظيم الدولة الإسلامية، وكأنها الأمل الوحيد لفضح حجم الضرر الذي يحدثه مثل هؤلاء الساسة.

وربما ينبغي للمشاركين في المناظرة التالية بين المرشحين الرئاسيين أن يميزوا -من وجهة نظر أخلاقية- بين الساسة الذين يهاجمون العملية العلمية ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين يدمرون الآثار القديمة. وينبغي لهذا أن يدفع المناظرة إلى الأمام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.