تونس.. تشتت المعارضة أم تجاور الأزمنة السياسية؟

Tunis, -, TUNISIA : Unemployed Tunisian graduates hold signs including one that reads "Employment, freedom and social equality" (C) as they shout slogans during a demonstration in Tunis on September 29, 2012 to demand jobs and call for the resignation of the ruling government led by the Islamist Ennahda party. AFP PHOTO / FETHI BELAID
إحدى مظاهرات التي تؤكد على مطالب الثورة في العدالة الاجتماعية - رويترز

مشروع قانون المصالحة
الموقف من قانون المصالحة
معارضة أم معارضات؟

شهدت العاصمة التونسيّة يوم 12 سبتمبر/أيلول 2015 ثلاث مسيرات في شارع الثورة ردّا على قانون المصالحة الاقتصاديّة الذي تقدّمت به رئاسة الجمهورية إلى مجلس نواب الشعب. واعتبرت عديد القوى السياسية وجانبٌ من منظّمات المجتمع المدني مشروع القانون انقلابا على قانون العدالة الانتقاليّة وتعطيلا لهيئة الحقيقة والكرامة الدستوريّة عن أداء دورها الدستوري في المحاسبة والمصالحة.

وكان منتظرا أن يكون للمعارضة تحرّك مشترك ما دام السبب واحدا, غير أن شارع الثورة شهد ثلاث مسيرات تعاقبت تباعا في مشهد شديد الإيحاء.

مشروع قانون المصالحة
كان التلويح بفكرة المصالحة كما يراها مرشح المنظومة القديمة باجي قايد السبسي، منذ الدور الثاني من الانتخابات التشريعيّة (21 ديسمبر/كانون الأول 2014)، بعدم رضاه عن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السيدة سهام بن سدرين الحقوقيّة، وبإشارته إلى انتفاء شرط الاستقلاليّة عنها واحتجاجه بصعوبة أن تكون بن سدرين محكّمة في محاسبة القديم وقد كانت، في يوم من الأيّام، من خصومه وضحيّةً من ضحاياه.

يبدو أنّ فوز المنظومة القديمة المفاجئ في الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة كان وراء استعجالها "إغلاق الملفّات نهائيّا وطيّ صفحة الماضي"

وينسى مرشح القديم يومها، ورئيس تونس اليوم، أنّ هيئة الحقيقة والكرامة هيئة دستوريّة أفرزها مسار طويل من التدقيق والتمحيص وتنخُّل سِيَر المترشحين في المجلس الوطني التأسيسي. وهي ليست منظّمة حقوقيّة تدافع عن المتاح من الحقوق.

ويبدو أنّ مشكل السياسيين المنحدرين من تجربة "لجان تفكير التجمع" المنحل لم يتخلّصوا من قياس الحياة السياسيّة الجديدة التي انبثقت مع انتفاضة المواطنين الاجتماعية الجذرية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 على تجربة ستين سنة من الاستبداد والفساد.

ويلتقي السبسي وصحبه، في هذا، مع عدد من قوى اليسار من الأحزاب والمجتمع المدني على اعتبار أنّ تشكيل هيئة الحقيقة والكرامة قام على أساس المحاصّة الحزبيّة، في إشارة إلى الترويكا صاحبة الأغلبيّة المطلقة في المجلس الوطني التأسيسي.

وقد ورد هذا المعنى صريحا في بيان المجلس الوطني الأخير للرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان بتاريخ 13 سبتمبر/أيلول 2015 عند تذكيره "بالإخلالات العديدة التي رافقت تشكيل هيئة الحقيقة والكرامة مثل المحاصصة الحزبيّة وإقصاء أطراف مدنيّة".

والقانون كما ورد في ديباجة المشروع لا يعدو أن يكون "إقرارَ تدابير خاصة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام". وكأنّه بهذه التدابير يتخطّى قانون العدالة الانتقاليّة المصادق عليه في المجلس الوطني التأسيسي. ويبدو أن فوز المنظومة القديمة المفاجئ في الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة كان وراء استعجالها "إغلاق الملفّات نهائيّا وطيّ صفحة الماضي" (وردت العبارة في مشروع قانون المصالحة).

الموقف من قانون المصالحة
اعتبرت دوائر عدّة أنه ما كان لرئاسة الجمهوريّة أن تبادر بمثل هذا القانون، لأنّه جعل من مؤسسة الرئاسة الجامعة للتونسيين جهة في الصراع القائم في مرحلة انتقاليّة موسومة بمخاطر داخليّة وخارجيّة. وقد كانت عمليّتا باردو ( 18 مارس/آذار 2015) وسوسة (26 يونيو/حزيران 2015) الإرهابيتين اختبارين أكّدا فشل رئاسة الجمهوريّة في أن تمثّل كلّ التونسيين.

وكان الخلط بين المطالب الاجتماعيّة المشروعة ومخاطر الإرهاب الحقيقيّة صورة من عجز السبسي وفريقه عن الخروج من منطق الخطاب الانتخابيّ، فكانت تصريحات الرئيس المناهضة لحملة "وينو البترول" الشبابية مقسّمة للصفّ ومُضعفة للإجماع المطلوب حول الدولة في حربها على الإرهاب.

وفي الجهة المقابلة، كانت الشبيبة المدعومة من بعض الأحزاب المنحدرة من مدرسة المقاومة الاجتماعيّة المدنيّة تربط ربطا وثيقا بين مقاومة الإرهاب ومقاومة الفساد. وتعتبر المطالبة بالشفافيّة في موضوع الثروة والحوكمة الرشيدة في موضوع التسيير، دعما لمناعة الدولة ومعطى إستراتيجيّا في مقاومة الإرهاب وتوفير شروط الانتصار التاريخي عليه.

قانون المصالحة بسلبياته كان من بين أسباب تقسيم التونسيين، فضلا عمّا مثّله من خرق للدستور، وإضعاف لثقة المواطن في الدولة، وعدول عن المعلوم بالضرورة من تقاليدها وثقافتها

ظهر قانون المصالحة على هذا النحو، فكان من بين أسباب تقسيم التونسيين، فضلا عمّا مثّله من خرق للدستور وإضعاف لثقة المواطن في الدولة وعدول عن المعلوم بالضرورة من تقاليدها وثقافتها.

تعدّدت مواقف الأحزاب المكوّنة للائتلاف الحاكم (نداء تونس، وحركة النهضة، وحزب أفاق، والاتحاد الوطني الحر)، وتطوّرت بحسب تقلّبات المشهد السياسي واتساع نطاق المناهضة الشعبيّة لمشروع القانون.

فإذا كانت حركة النهضة دعت إلى المصالحة بمعناها الواسع واعتبرتها ترجمة لمفهوم التوافق الذي انخرطت فيه منذ انطلاق الحوار وما رافقه من تغيّر في ميزان القوى لفائدة الثورة المضادّة، فإنّها، مع تزايد الضغط الشعبي، أرادت مسك العصا من الوسط، فدعت إلى تنقيح قانون المصالحة لإزالة تعارضه مع الدستور وأكّدت ضرورة أن تكون هيئة الحقيقة والكرامة هي الجهة الوحيدة الدستوريّة المعنيّة بالقانون إشرافا وتنفيذا في ضوء قانون العدالة الانتقالية.

ويبدو موقف الجبهة الشعبية متوتّرا بين قواعدها الرافضة لقانون المصالحة وقيادتها ممثلة في أمينها الذي دعا، من قصر قرطاج بعد لقائه برئيس الجمهوريّة، إلى إجراء تعديلات على القانون.

وأمّا الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعيّة فقد اتفقت على رفض قانون المصالحة، معتبرة أنّ الخلاف ليس بين من يريد المصالحة ومن يعارضها، مثلما يروّج الإعلام الرسمي، وإنّما التعارض بين مصالحة مغشوشة تخرق الدستور وتكافئ ناهبي المال العام ومصالحة حقيقيّة على قاعدة قانون العدالة الانتقاليّة وفي إطار هيئة الحقيقة والكرامة الدستوريّة. في حين طالبت الشبيبة بسحب مشروع القانون وبفتح اشتباك حقيقي على قاعدة دستور الثورة واستحقاقات الانتفاض الديسمبري.

معارضة أم معارضات؟
رفضت وزارة الداخلية، في أوّل الأمر، الترخيص للمسيرة يوم 12 سبتمبر/أيلول 2015. وبرّرت قرارها بحالة الطوارئ وما يصحبها من منع للاجتماع والتظاهر. وأعلنت عن إغلاق شارع الثورة إلى غاية 14 سبتمبر/أيلول 2015 متحجّجة بوجود تهديدات إرهابيّة قد تستهدف المتظاهرين.

وأمام إصرار المجموعات الشبابيّة والأحزاب على الخروج رفضا لقانون المصالحة ودفاعا عن حق التظاهر المهدَّد والمضمون دستوريا، تراجعت الوزارة وأعلنت أنّها ستتولّى حماية المسيرات.

أمام إصرار المجموعات الشبابيّة والأحزاب على الخروج رفضا لقانون المصالحة ودفاعا عن حق التظاهر, تراجعت وزارة الداخلية وأعلنت أنّها ستتولّى حماية المسيرات

ويبدو أنّ هذا القرار كان سببا فيما روي عن الأمين العام لنداء تونس من حماس هدّد فيه بالنزول لحماية المتظاهرين، في حين كان شقّ آخر من نداء تونس بزعامة حافظ السبسي ابن رئيس الجمهوريّة يعلن مساندته الكاملة لقانون المصالحة.

من خلال الاستعدادات ليوم التظاهر، تبيّن أن المعارضة المُجمِعة على رفض قانون المصالحة لم تتوصّل إلى توحيد تحرّكها ميدانيّا. وكانت الجبهة الشعبيّة الراغبة في أن تظهر بصورة القاطرة التي تقود المعارضة، بعد أن فشلت في أن تكون طرفا في الائتلاف الحاكم، سببا في تشتيت قوى المعارضة حين أصرّت على استبعاد حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة لكونه من مكوّنات الترويكا سابقا. وظهرت بصورة المعارضة الوظيفيّة لقطع الطريق أمام معارضة عضويّة بصدد النشوء.

ورغم القبول الضمني للأحزاب المسمّاة ديمقراطيّة اجتماعيّة باستبعاد حزب المؤتمر، فإنّ الجبهة قرّرت أن تكون برفقة حزب المسار (الحزب الشيوعي سابقا) ذي الهوى الفرنسيّ القديم والمشارك غير المعلن في الائتلاف الحاكم بوجوه عديدة معروفة بولائها له ومنها وزيرة الثقافة.

وقرّرت خمسة أحزاب وهي الحزب الجمهوري والتحالف الديمقراطي (منشق عن الجمهوري) وحركة الشعب (ناصري) والتيار الديمقراطي (منشق عن المؤتمر) وحزب التكتّل، الخروج في مسيرة واحدة.

وقرّر حزب المؤتمر أن يكون في مسيرة الشبيبة الثوريّة المنضوية تحت حملة "ما نيش مسامح" (لن أسامح) التي تعتبر أنّه لا مصالحة إلاّ بعد المحاسبة وهذا هو مضمون شعارها "السماح في المحكمة".

كان الحضور الجماهيري في المظاهرات الثلاث ضعيفا نسبيّا، رغم ما رافق الاستعدادات من تغطية إعلاميّة كبيرة في وسائل الإعلام المختلفة. فكانت ثلاث مظاهرات بثلاثة أزمنة سياسيّة مختلفة ولكنّها متجاورة. وفي تجاورها عنوان مثير من عناوين أزمة السياسة في تونس، أزمة الدولة والمجتمع.

ذكّرت مسيرة الجبهة بشعاراتها بمرحلة السبعينيّات. وكان من بينها شعار ينعت السبسي بالعمالة ويطالبه بالرحيل. وغلبت الأيديولوجيا على الشعارات ومنها شعارات أواخر السبعينيات الموجهة إلى الإسلاميين. وبدا غير جدّيِ احتجاج الجبهة على قانون تقدّم به من كان شريكها في جبهة الإنقاذ، وهي من يسّر عودته ومنع محاسبته.

وكثّفت مسيرة الأحزاب معارضة جيل الثمانينيّات، وقد غلبت فئة الكهول على المشاركين فيها، وظهر من بينهم وجوه من رموز الحركة الطلابيّة والنقابيّة في نهاية الحقبة البورقيبيّة. وتمثّل الأحزاب، باستثناء حركة الشعب، الحركة الديمقراطيّة الاجتماعيّة وما عرفته من تقلّبات.

وإذا كانت مطالب هذه الحركة سياسيّة بأفق حقوقي ديمقراطي فإنّها مع ثورة الحريّة والكرامة انفتحت على الحركة الاجتماعيّة منتبهة إلى أنّ الحكومات المتعاقبة، منذ الثورة، لم تخرج عن مهمّة تصريف الأعمال داخل المنوال التنموي الموروث عن الاستبداد.

وعبّرت مسيرة الشبيبة المدعومة من حزب المؤتمر عمّا فتحه الانتفاض الديسمبري من حراك اجتماعي مواطنيّ. وممّا لم تتوقّف عنده وسائل الإعلام أنّ حملة "ما نيش مسامح" ضمّت شبابا من الاتحاد العام لطلبة تونس (ماركسيين) وشبابا من الاتحاد العام التونسي للطلبة (إسلاميّين) و"جيل جديد" (ماركسيين) ومنظّمة سواعد (قريبة من المؤتمر) ومجموعات شبابيّة صغيرة إسلاميّة وقيادات ميدانيّة، كثير منها كان من الجبهة الشعبيّة.

ويحدث هذا الالتقاء الميداني لأوّل مرّة بعد انتخابات 2011 التأسيسيّة، ويمثّل بارقة أمل، رغم ما كان من احتكاك في تأسيس مشترك وطني فشلت الأحزاب التقليديّة في بنائه وفي خروجها مشتّتة ضدّ قانون المصالحة رغم إجماعها على مناهضته.

كان حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة الجهة الحزبيّة الوحيدة التي لم ترفع راياتها في المسيرة وقرّرت أن تسير مع الشبيبة. ويجد الموقف إجابته في طبيعة حزب المؤتمر نفسه. وقد ارتبط ظهوره بتبلور خط سياسي مقاوم يعلن لا جدوى للمعارضة في مواجهة نظام الاستبداد والفساد ويدعو إلى المقاومة المدنيّة والعصيان الشامل أسلوبا في مواجهة الدكتاتوريّة. وهل كانت الثورة التونسيّة إلاّ عصيانا مدنيّا وانتفاضا مواطنيّا اجتماعيّا قاده الهامش المفقّر؟!

يبدو المشهد السياسي التونسي على قدر كبير من التعقيد، من علاماته أن تتجاور فيه أزمنة سياسيّة مختلفة. وقد كشفت تحرّكات الشارع الأخيرة عن ازدواجيّة مضاعفة. ازدواجيّة في مستوى الحكم والمعارضة.

يبدو أنّ ما شاب انتخابات 2014 من تحيّل واسع أثّر على اتجاهاتها الحقيقيّة وعلى نتائجها النهائيّة فبدا الفرز مشوّها، وهو ما انعكس في ازدواجيّة شملت الحكم والمعارضة

كأنّ في الحكم نظامين وفي المعارضة معارضتين: نظاماً يمثّله حزب النّداء سليل التجمّع وثقافة الحزب الواحد ومعارضته عقديّة ممثّلة في الجبهة وحركة الشعب، وزمنه السبعينيّات، ونظامًا ليبراليّا محافظا تمثّله حركة النهضة (الإسلام السياسي مال يمينا) بمعارضة ديمقراطيّة اجتماعيّة وزمنه الحاضر بما يمثّله من انتقال ديمقراطي متعثّر.

وأمّا الشبيبة فهي الحراك المواطني الاجتماعي أفقاً للانتفاض الديسمبري، وهي المحاولة الفذّة للخروج من شروط المنظومة القديمة وتطوير الديمقراطيّة التمثيليّة المستهلكة إلى ديمقراطيّة تشاركيّة تجد أساسها في الباب السابع من الدستور حول الحكم المحلّي.

الازدواجيّة في الحكم والمعارضة تشير إلى انتخابات 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014 التشريعيّة. ويبدو أنّ ما شابها من تحيّل واسع أثّر على اتجاهاتها الحقيقيّة وعلى نتائجها النهائيّة، فبدا الفرز مشوّها، وهو ما انعكس في ازدواجيّة شملت الحكم والمعارضة، تفسّر تعطّل الحياة واضطراب الأداء وانهيار الاقتصاد وتدهور نسبة النموّ إلى صفر بالمائة. وكأنّهم بذلك يوفّرون الشروط المثلى لإدارة التوحّش.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.