تركيا ومأزق المنطقة الآمنة بسوريا

GAZIANTEP, TURKEY - JULY 30: Turkish tanks and howitzers are deployed in Karkamis district of Gaziantep, at Syria borderline for security after the clashes with Turkish soldiers and Daesh terrorists, in Turkey, on July 30, 2015.
غيتي إيميجز

الجدوى الإستراتيجية
تضارب التصريحات
معوقات جيوستراتيجية

ما بين تصريحات رسمية تركية تؤكد اتفاق أردوغان وأوباما على تفاصيل إقامتها، وأخرى أميركية تنفي حدوث أي شيء من هذا القبيل؛ تبرز علامات استفهام متسائلة عن مصير المنطقة "الآمنة" أو "العازلة" التي تلح أنقرة في إنشائها، وما يمكن أن يتمخض عن الجدل بشأنها من تداعيات تهم الداخل التركي وتطال العلاقات التركية الأميركية.

الجدوى الإستراتيجية
رغم إلحاح أنقرة على إقامتها، يصعب القول إن فكرة "المنطقة العازلة" أو "الآمنة" كانت طرحا تركيا خالصا، فبينما حظيت بقبول فرنسي وتفهم بريطاني، كما نصحت بها دوائر إستراتيجية أميركية؛ كانت المعارضة السورية تلح في طلب إنشاء تلك المنطقة منذ وقت مبكر من عمر الثورة السورية.

وهو ما بدا جليا خلال مليونية نوفمبر/تشرين الثاني 2011، والتي عرفت بـ"جمعة الحظر الجوي مطلبنا"، ثم في مليونية أخرى تلتها في يناير/كانون الثاني 2012 حملت اسم "جمعة المنطقة العازلة".

بيد أن التداعيات السلبية الخطيرة التي تمخضت عنها الأزمة السورية في الآونة الأخيرة في الشمال والجنوب السوريين، قد أكسبت فكرة المنطقة العازلة أو المنطقة الآمنة طابعا إقليميا بعدما صارت مطلبا ملحا من قبل تركيا شمالا والأردن جنوبا.

التداعيات السلبية الخطيرة التي تمخضت عنها الأزمة السورية في الآونة الأخيرة في الشمال والجنوب السوريين، قد أكسبت فكرة المنطقة العازلة أو المنطقة الآمنة طابعا إقليميا بعدما صارت مطلبا ملحا من قبل تركيا شمالا والأردن جنوبا

وقد بدأت تركيا تروج لهذا الطرح منذ شروع نظام الأسد في أعماله العدوانية لقمع الثورة السورية عام 2011 ودفعه بأكراد سوريا لإقامة كيان مستقل لهم على الحدود السورية التركية في ما بعد، ردا على دعم أنقرة للثورة، ثم عادت وألحت أنقرة لإقامتها في ديسمبر/كانون الأول 2014، حينما تضمنت شروطها الأربعة للمشاركة في الحرب على "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية)، عن إعلان منطقة حظر جوي، وإقامة منطقة آمنة، متوخية من وراء ذلك بلوغ حزمة أهداف:

أولها، توفير ملاذ آمن للاجئين السوريين الفارين من قصف الطائرات، وصواريخ سكود، وبراميل الأسد المتفجرة وأسلحته الكيميائية، إلى حين تمكينهم من العودة إلى أراضيهم، الأمر الذي من شأنه أن يوقف تسلل المسلحين، ويخفف من تدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا، ويقلص العبء عن كاهل دول الجوار التي باتت إمكاناتها عاجزة عن استيعاب قوافل اللاجئين.

وثانيها، تمكين الحكومة السورية المؤقتة من تقديم خدماتها على أوسع نطاق في الداخل السوري، سواء من خلال تشكيل قاعدة خلفية للثوار وملاذ آمن للمنشقين من عسكريين ومدنيين، والهاربين من بطش النظام، أو تشكيل قاعدة مهمة للتموين والاستراحة والتخطيط وإسعاف المصابين والجرحى عبر فرض مناخ ملائم لعمل المؤسسات الثورية والمنظمات الإغاثية والجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني كافة.

وثالثها، مساعدة الفصائل الثورية على الانضواء تحت لواء مؤسسة عسكرية وطنية واحدة ذات محددات واضحة تساعدها على تحرير ما تبقى من الأراضي السورية توطئة للخلاص من النظام الأسدي.

تضارب التصريحات
خلافا لما ظهر عقب توقيع الاتفاق النووي الإيراني الغربي، من توافق ظاهري بينهما حول "المنطقة الآمنة"، اتسمت التصريحات بين أنقرة وواشنطن بهذا الخصوص بتناقض لافت.

ففي حين كشف فريدون أوغلو، وكيل وزارة الخارجية التركية، أن أردوغان اتفق مع أوباما على تفاصيل المنطقة الآمنة بشمال سوريا والتي أضحى إعلانها "مسألة وقت لا أكثر"، نفت وزارة الخارجية الأميركية من جهتها أية روايات تركية بهذا الصدد، مؤكدة أن الحوارات الإستراتيجية بين الجانبين منصبة على كيفية تقويض "داعش"، حيث تتطلع واشنطن إلى منطقة "خالية من مقاتلي التنظيم وليس منطقة "آمنة"، كما لا يرى التحالف الغربي ضرورة لمثل هذه المنطقة التي ستحول دونها صعوبات عديدة.

وبدوره، قال نواه بونزي، كبير محللي شؤون سوريا في مجموعة الأزمات الدولية: إن تركيا تستخدم عبارة "منطقة آمنة"، لكن المسؤولين الأميركيين لم يستخدموا هذا التعبير، إذ لا تزال واشنطن غير مستعدة بعد لاتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف الهجمات الجوية التي يشنها النظام السوري.

من جانبه، أكد الأمين العام للحلف الأطلسي أنه لم يناقش إقامة منطقة حظر طيران أو منطقة آمنة داخل سوريا، خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع وزير خارجية تركيا بإسطنبول مؤخرا، كما لم تكن تلك المسألة مطروحة من الأصل على جدول أعمال الحلف، خصوصا أن كثيرا من الدوائر الأمنية الأوروبية ما زالت تؤكد استمرار تورط أنقرة في عملية تمرير المسلحين إلى سوريا رغم إعلان أنقرة انخراطها الفعلي في الحرب على "داعش".

معوقات جيوستراتيجية
متنوعة هي الركائز التي يرتكز عليها الموقف الأميركي الرافض لإقامة منطقة آمنة شمال سوريا. فقد أرجع أغا سيشكين، المحلل التركي هذا الموقف الأميركي إلى انزعاج واشنطن بشأن مَن سيسيطر على الأرض إذا تم طرد تنظيم "داعش"، لا سيما أن القوى المقاتلة المؤثرة على الأرض هي جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة وجيش الإسلام، فيما يبقى الجيش السوري الحر غير قادر على الاضطلاع بدور حيوي في هذا المضمار. وبالتالي، تخشى واشنطن من أن تهيمن جماعات تابعة لتنظيم القاعدة على المنطقة العازلة تحت مظلة جوية تركية.

المنطقة الآمنة لا يكون هدفها فض الاشتباك بين الطرفين المتنازعين في منطقة معينة، بل يكون هدفها الأساسي حماية مجموعة بشرية لا تستطيع حماية نفسها من خلال توفير التدخل الإنساني عبر ممرات آمنة لصيانة حقوق الإنسان، وتقديم المساعدة الإنسانية

وبدوره، لفت الناطق باسم الخارجية الأميركية مارك تونر، إلى تحديات لوجيستية تتعلق بإقامة مثل هذه المنطقة على الحدود التركية أو الأردنية، مثل طريقة حمايتها عسكريا، فضلا عن الكلفة المادية ومستويات المشاركة التي قد توفرها دول التحالف حال الشروع في إقامتها.

وعلاوة على ما سبق، يستند التردد الأميركي حيال إقامة "منطقة آمنة" في سوريا إلى حزمة اعتبارات، أهمها:

– غياب الغطاء الشرعي الدولي، فمن المعروف أن إقامة مناطق "آمنة" أو "عازلة" يستوجب موافقة مجلس الأمن الدولي، وهو ما تفتقده الحالة السورية حتى الآن على الأقل.

فبينما لا يتجاوز المجتمع الدولي موقف واشنطن بهذا الخصوص، يؤكد نظام الأسد رفضه إقامة منطقة عازلة بمحاذاة الحدود مع تركيا، معتبرا أن المحاولات التركية لإقامة منطقة "عازلة" على الأراضي السورية تشكل انتهاكا سافرا لمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، كما لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه.

والأهم، أنه لم يصدر أي قرار من مجلس الأمن الدولي يدعم هذا المقترح حيث حاولت تركيا الحصول على دعمه في عام 2012، ولكنها فشلت بسبب الاعتراض الروسي.

– الخلط المفاهيمي، حيث يشكل الخلط السائد بين الأطراف الدولية المختلفة حول المنطقتين "العازلة" و"الآمنة" معوقا جوهريا. فرغم أن الاثنتين تتطلبان قرارا من مجلس الأمن، وتستوجبان فرض حظر جوي ووجود قوات كثيفة ومحترفة على الأرض، فهناك فروق في القانون الدولي ما بين المناطق العازلة وتلك الآمنة.

فـالمنطقة العازلة يتم فرضها أثناء النزاعات المسلحة، وبالاتفاق بين الأطراف المتحاربة أو المتنازعة لتحييد هذه المنطقة من الاشتباكات وحفظ الأمن على الحدود ومنع تسلل الإرهابيين، ومنع أعمال التهريب، وغيرها من الأمور الأمنية الحدودية. وقد تُفرض المنطقة العازلة من قبل مجلس الأمن أو عبر تحالف دولي، كما حدث عندما تكون تحالف دولي في عام 1990 ضد العراق بعد غزوه للكويت.

أما المنطقة الآمنة، فهي منطقة محددة يتم فرضها بموجب قرار من مجلس الأمن بناء على توصيات لجنة حقوق الإنسان التابعة لمجلس حقوق الإنسان، لتكليف دولة أو أكثر بتنفيذ هذا القرار بالقوة.

وبالتالي فإن المنطقة الآمنة لا يكون هدفها فض الاشتباك بين الطرفين المتنازعين في منطقة معينة، بل يكون هدفها الأساسي حماية مجموعة بشرية لا تستطيع حماية نفسها من خلال توفير التدخل الإنساني عبر ممرات آمنة بغية حماية المدنيين وصيانة حقوق الإنسان، وحماية الأقليات وتقديم المساعدة الإنسانية.

وفي مسعى منه لتقليص التداعيات السلبية لهذا الخلط المفاهيمي على مقترح المنطقة الآمنة، طالب وزير الخارجية التركي مؤخرا المجتمع الدولي بعدم الخلط بين المنطقة الآمنة التي تدعو إليها بلاده، وتلك العازلة العسكرية التي لم تطالب بها أنقرة.

– ارتفاع كلفة تطهير المنطقة الآمنة من مقاتلي "داعش"، حيث تخضع المنطقة المعنية الآن لسيطرة التنظيم، الذي يتوقع ألا يتنازل عنها بسهولة، وحتى لو أُجبر على الانسحاب منها، فمن غير المحتمل أن يخليها من دون تطبيق سياسة الأرض المحروقة بحيث يجعلها غير صالحة للسكن قدر المستطاع، وذلك على غرار تجربة مدينة كوباني التي تقطنها أغلبية كردية، حيث زرع الداعشيون المنسحبون الألغام والشراك الخداعية، و زرعوا المتفجرات داخل الجثث، حتى أصبح ما يقرب من 70% من المدينة غير صالح للعيش فيه.

تبقى حصيلة أنقرة من الصفقة التي أبرمها أردوغان مع أوباما منحصرة في إطلاق يد تركيا بقدر وحتى حين، لملاحقة مقاتلي حزب العمال داخل تركيا وخارجها، مقابل سماح أنقرة باستخدام قواعد جوية تركية في ضرب معاقل "داعش"

– صعوبة إقناع اللاجئين بالعيش في المنطقة الآمنة، فمن بين مليوني لاجئ سوري مسجلين في تركيا، لا يعيش سوى مئتي ألف فقط داخل مخيمات اللاجئين، بينما تتوزع الغالبية العظمى منهم على المدن التركية. ويستبعد متين شوراباتير، رئيس مركز أبحاث اللجوء والهجرة بأنقرة، موافقة اللاجئين السوريين على المغامرة والعودة للعيش في المنطقة الآمنة المرتقبة مشددا على أن ترحيل اللاجئين لتلك المنطقة يجب أن يكون طواعية، حيث لا يسمح القانون الدولي بإجبار أي لاجئ على العيش داخل مثل هذه المناطق.

– ثمة صعوبات جيوستراتيجية تتجلى في أن إنشاء منطقة آمنة يتطلب إيجاد قوات كثيفة ومدربة على الأرض، وحتى الآن لا تزال تحديات داخلية وإقليمية شتى تحول دون إيفاد تركيا قواتها إلى الأراضي السورية، خصوصا بعدما هددت إيران بتحويل الأخيرة إلى قبر للجيش التركي حالة دخوله سوريا.

هذا، في الوقت الذي يستوجب فيه إنشاء تلك المنطقة منع أية قوات للأسد أو الأكراد أو "داعش" من الدخول فيها، وهذا أمر يصعب تحقيقه على الأرض، لا سيما أن رأس الحربة في مواجهة "داعش" هم مقاتلون أكراد بالأساس، فكيف يتم منعهم بينما لا يتوقف الأميركيون وحلفاؤهم عن دعمهم سياسيا وعسكريا حتى الآن، كما رفضت واشنطن مطلب أنقرة اعتبار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري منظمة إرهابية.

وانطلاقا مما ذكر آنفا، تبقى حصيلة أنقرة من الصفقة التي أبرمها أردوغان مع أوباما عقب الاتفاق النووي الإيراني منحصرة في إطلاق يدها، بقدر وحتى حين، لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وخارجها، مقابل سماح أنقرة لمقاتلات واشنطن والتحالف الدولي باستخدام قواعد جوية تركية في ضرب معاقل "داعش" بسوريا والعراق.

وبينما تستطيع خصوصية العلاقات "الإستراتيجية" بين أنقرة وواشنطن امتصاص أية توترات عارضة قد تطفو على السطح جراء افتضاح وهمية اتفاق أردوغان وأوباما حول تفاصيل المنطقة الآمنة بشمال سوريا، سيكون على أردوغان وحكومة حزب العدالة تحمل تبعات هذا الأمر على الصعيد الداخلي في وقت تستعد فيه البلاد لانتخابات برلمانية مبكرة، طالما راهنوا عليها لترميم شعبيتهم واستعادة احتكارهم المنفرد لمقاليد السلطة في البلاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.