هل فشل الغرب في إدارة العالم؟

NEW YORK, NY - AUGUST 28: The United Nations Security Council (UNSC), meets about the ongoing Ukrainian-Russian conflict on August 28, 2014 in New York City. Russia continues to move troops and men into Ukraine to arm Ukrainian separatists. (Photo by Andrew Burton/Getty Images)
غيتي إيميجز


فجع العالم بنتائج الحرب العالمية الأولى التي خلفت أكثر من 37 مليون قتيل، حينها هرع فقهاء القانون الغربي لتعزيز وتثبيت ما بات يعرف اليوم "بالقانون الدولي" تمهيدا لإرساء السلام والأمن العالمي، والحفاظ على نسل البشرية والروح الإنسانية.

اعتقد فلاسفة القانون من دول مركزية غربية في صناعة القانون أنه لا سبيل لتعزيز القانون الدولي إلا من خلال تجذير فكرة "توحيد القوانين" دوليا، وتسويق الحاجة الدولية إلى فك عزلة التشريعيات المحلية من أجل عالم أفضل وأكثر إنسانية وحرية وعدالة.

لقد أصبح العالم اليوم قرية واحدة وفق تعبير مارشل ماكلوهان، ولذا لم تعد البشرية تحتمل النتائج الفظيعة لهذا التصدع في البنية القانونية التشريعية العالمية المفضية إلى الشقاق والحروب، وقد باتت اليوم بأمس الحاجة إلى رأب الصدع بين القوانين المحلية ودمجها في قانون دولي واحد مشترك وفق إطار "وحدة النظم القانونية" من شأنه الإسهام في تعزيز السلام والتفاهم بين الدول، ووأد الصراعات والحروب، ونشر القيم الإنسانية المشتركة المتمثلة في الحرية والعدالة والعيش الكريم.

تصحو البشرية اليوم على أكبر انحدار وتردّ أخلاقي غير مسبوق، إذ كرس القانون الدولي الغربي أعلاه تشظي فكرة التعايش بين الأمم والشعوب عن طريق نشر الموت والقتل، وتفشي الفقر والجوع، والتفنن في ابتكار أساليب التحقيق والتعذيب

وفي سبيل تحقيق ذلك، انطلقت ماكينة صناعة التشريع الدولي ابتداء نحو "توحيد المصدر المرجعي" بحيث تنهل التشريعات الدولية فقط من عائلات وأسر قانونية محددة تضم فرنسا وألمانيا وأميركا. ولم يكن هذا التحيز في النبع التشريعي يجري مواربة، كلا بل تم ذلك صراحة ووفق شعار بالغ في الشوفينية والفوقية (أوروبا القوانين) تكريسا للتفوق العرقي للشمال و"الإمبريالية الغربية المتعجرفة" -وفق تعبير مايكل شوير- ضد الجنوب.

تصحو البشرية اليوم على أكبر انحدار وترد أخلاقي غير مسبوق، إذ كرس القانون الدولي الغربي أعلاه تشظي فكرة التعايش بين الأمم والشعوب عن طريق نشر الموت والقتل، وتفشي الفقر والجوع، والتفنن في ابتكار أساليب التحقيق والتعذيب، وتغذية الصراعات العرقية والدينية والإثنية عن طريق نشر السلاح وتشجيع صناعته وبيعه ودعم شركات التسليح رسميا بمليارات الدولارات سنويا، لتجني تلك الشركات التجارية في النهاية أرباحا فلكية على حساب أرواح وآلام وتهجير الفقراء والمعوزين.

هذا إضافة إلى نشر الإرهاب المنظم الرسمي والمؤسسي عبر تشكيل فرق موت نظامية وإطلاق يدها في العالم الضعيف لتغير على القرى الفقيرة في الليل تقتلهم وترهبهم وتنتهك أعراضهم باسم الإرهاب وغيره، ناهيك عن تبني مليشيات متوحشة مسلحة ومدربة للخطف والقتل والابتزاز حول العالم.

تشير منظمة "غالوب" العالمية إلى أن أكثر من خُمس سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر المدقع، ووفق آخر إحصاء أجرته حديثا شمل نحو 131 دولة حول العالم، يعيش 22% من سكان العالم على 1.25 دولار في اليوم، أو أقل.

لقد جعل الغرب أفريقيا -بمباركة القانون الدولي الضمنية- مقبرة للنفايات النووية العالمية الأوروبية والأميركية، حيث دفع الفساد والعمالة الملتصقة بالحكومات الأفريقية تارة والفقر والعوز تارة أخرى نحو قبول عروض استقبال عشرات الآلاف من الأطنان التي تتكدس فيها النفايات النووية الأجنبية تنقلها بواخر بحاويات ضخمة.

وتعتبر صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة تحديدا في غاية الأهمية بالنسبة للاقتصاد الأميركي، إذ يشير موقع غلوبال البحثي إلى أن الصراعات والحروب في مختلف أنحاء المنطقة بمثابة "نعمة اقتصادية" للولايات المتحدة، إذ تسمح لها بلعب دورها في صناعة وبيع الأسلحة للمنطقة مما يمكنها من تحقيق أرباح طائلة. وقد بدأت شركة بوينغ ومجموعة لوكهيد مارتن فعليا فتح فروع لها في مدن الخليج العربي تحديدا حيث الإنفاق الهائل على شراء السلاح.

يشير المدير التنفيذي لليونيسيف آنتوني ليك إلى أن سنة 2014 كانت "سنة مدمرة لملايين الأطفال تحديدا.. ولم يسبق في ذاكرتنا الحديثة أن تعر ض هذا العدد من الأطفال لمثل هذه الفظائع".

يجب ألا تنسى الذاكرة الإنسانية أن حصار الغرب للعراق خلف كوارث تفوق المذابح الكبرى التي شهدها العصر الحديث، حيث أشارت مؤسسات بحثية إلى أن الحظر أدى في النهاية إلى موت حوالي 143 من كل ألف طفل عراقي، وهذه الأرقام -وفق المعدلات العالمية- لا تحدث إلا في مناطق أفريقية بالغة في التخلف.

تشير منظمة غالوب العالمية إلى أن أكثر من خُمس سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر المدقع، ووفق آخر إحصاء أجرته حديثا شمل نحو 131 دولة حول العالم، يعيش 22% من سكان العالم على 1.25 دولار في اليوم

يشير نعوم تشومسكي في أحد كتبه إلى أن الغرب من خلال القانون الدولي يرسخ تبعية وظيفة العالم الثالث ممثلة في توفير الخدمات للأغنياء، وتقديم العمالة الرخيصة لمصانعهم، وتوفير الموارد والأسواق والفرص لاستثمار شركاتهم، وتبقي دول العالم الثالث مستودعا لاستقبال التلوث وغيره من الموبقات كمكان لغسيل أموال المخدرات وغيرها من العمليات المالية القذرة وغير المشروعة، هذا فضلا عن الاستغلال المشين لثروات هذه الدول وتحويلها إلى ماخور للسياحة وقضاء المتعة الرخيصة الممنوعة.

وبينما يتعثر القانون الدولي في التدخل لإنقاذ البشرية من خطر الوجود في العراق وسوريا ومصر وغيرها من البلدان التي تتعرض لعمليات إبادة في غاية البشاعة، يلف النظام والقانون الدولي عنقه بازدواجية تسمح بحماية نظم سياسية موغلة في النازية والإجرام، حيث تغيب الجدية في مواجهة جرائم نظام الأسد البربرية وحليفه السيسي في مصر، ويتم التغاضي عن إرهاب دول ومليشيات أخرى شديدة التخلف والهمجية والبربرية.

وقد نشرت منظمات حقوق الإنسان العالمية الكثير من التقارير عن إرهاب الجماعات والمليشيات المسلحة في العراق، حيث يدعم القانون الدولي عودة هذه المليشيات لممارسة أبشع أنواع القتل والتهجير والعنف والاغتصاب وغيره بحجة محاربة الإرهاب، إذ تحتفظ هذه المليشيات بتاريخ دموي عفن، وابتكرت كل أشكال العنف وابتدعت كافة أدوات التعذيب والقتل الرهيبة، ومع ذلك وجدت تأييدا وتصفيقا في مسارح المنظمات والجمعيات الدولية.

كما قدمت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ مؤخرا تقريرا مفصلا من 528 صفحة عن برامج الاعتقال والاستجواب والتعذيب التي مارستها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ضد المعتقلين في حربها ضد ما تسميه "الإرهاب الأممي"، خاصة في سجون غوانتانامو وبغرام وغيرهما، حيث توقفت طائرات استخدمتها الوكالة في دول مختلفة ونقلت المعتقلين إلى سجون سرية تعرف باسم "المواقع السوداء".

وقد نشرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية أن التحقيق يتم وفق تكتيكات محددة، وتطبق على مراحل تبدأ بتكتيكات بسيطة وتصل إلى إغراق السجين تحت الماء، ومن جذب المعتقل من ملابسه بقوة للفت انتباهه، والضرب على البطن والكلى والوقوف لساعات، إلى العمل على إفقاد الرجل لرجولته واغتصابه، والوقوف في زنزانة باردة مع إغراقه بالماء البارد، وتكرار انتهاك عرضه واغتصابه جنسيا لمرات متتالية لتدمير نفسيته.

ناهيك عن نشر الرعب من دون أي محاسبة أو ملاحقة قانونية دولية، وذلك من خلال تشكيل فرق متخصصة في القتل والخطف ضمن ما يعرف "بقوات التدخل السريع" على نسق ما تقوم به العصابات من قرصنة وقطع طريق. وقد نشرت صحيفة واشنطن بوست في أكتوبر/تشرين الأول الماضي شريطا مصورا لعملية اختطاف نزيه عبد الحميد الرقيعي المعروف باسم أبو أنس الليبي عندما عائدا من المسجد بعد صلاة الفجر في ليبيا، وفوجئ برجال مسلحين من قوة دلتا من نخبة الجيش الأميركي حيث تم نقله إلى الولايات المتحدة ليمثل أمام محكمة اتحادية.

وعلى نفس النسق، ذكرت الصحف الإيطالية أن جهاز الاستخبارات العسكرية الإيطالي "سيسمي" تعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية لخطف الإمام المصري أسامة مصطفى حسن (أبو عمر) من أمام أحد مساجد ميلانو. هذا فضلا عن عمليات خطف ممنهجة لناشطين تجري ليلا وسط العراق وأفغانستان وغيرهما، من قبل القوات الخاصة الأميركية.

وكان انتهاك هذه القوات الخاصة لأراضي باكستان وقتل أسامة بن لادن فرصة أيضا لكشف طبيعة معالجة الولايات المتحدة لقضايا الإرهاب عبر استباحة وقرصنة العالم الضعيف ودون الاكتراث بالقانون الدولي وقواعده.

كان حرمان النظم القانونية الأخرى من المشاركة في صياغة القوانين والاتفاقيات الدولية وطبعها باللون الغربي، تلميحا إلى أن الشعوب الأخرى لا تملك أي رصيد من تراث قانوني أو فقهي أو حضاري تستطيع أن تساهم به في جهود خلق قوانين عالمية مشتركة

عمل السياق التاريخي لميلاد القانون الدولي على بلورة الواقع المخزي الذي وصل إليه العالم اليوم، فقد ولد القانون الدولي سفاحا في مهده، بدلا من سعيه لخلق قواعد دولية وفق مبادئ مشتركة بين الدول والشعوب، وانطلق نحو إقناع الدول الضعيفة بموت الخصوصية الدينية والثقافية والاجتماعية وضرب كل ذلك لصالح نظام قانوني دولي "غربي" بحت.

تم ذلك من خلال فرض استيراد النظم القانونية من الخارج وترسيخ مفهوم خاص يتعلق بأن العزلة القانونية/التشريعية الوطنية في طريقها إلى التلاشي والاضمحلال والتفتت، وهو ما جعل القانون العالمي في نظر كثير من المراقبين اليوم عبارة عن منتج تفكير قانوني غربي ذي موروث مرجعي مسيحي بحت مرتبط ارتباطا وثيقا بالتقاليد القانونية الغربية.

هذا فضلا عن فرض هيمنته الغربية وترسيخ الحقبة الاستعمارية وترسيخ مفهوم اللاسيادة لدول العالم الثالث، إضافة إلى كونه يحمل في روحه رؤية مختزلة للعالم ولرفاهية التصورات الأوروبية والأميركية للتقدم والتطور وأداة لفرض الأفكار السياسية الغربية على العالم أجمع.

كان حرمان النظم القانونية الأخرى من المشاركة في صياغة القوانين والاتفاقيات الدولية وطبعها باللون الغربي الأوروبي والأميركي فقط، تجسيدا ضمنيا -إن لم يكن صريحا- إلى أن الشعوب الأخرى لا تملك أي رصيد من تراث قانوني أو فقهي أو حضاري تستطيع أن تساهم به في جهود خلق قوانين عالمية مشتركة.

وهو ما ولّد الشعور لدى العالم أجمع أن القانون الدولي ليس أكثر من مسرحية تراجيدية مؤلمة، أبطالها الأوروبيون والأميركيون على المنصة بينما بقية العالم متفرجون يبكون، إذ كرس القانون الدولي معايير وقيم وثقافة الغرب وحده، ومن خلالها فقط يسمح بالدخول إلى الأسرة الدولية من عدمه وما يشمل ذلك من الاتفاقيات التجارية والمالية المختلفة التي تمكن العالم الغربي من تسخير دول العالم الثالث لخدمة مصالحه فقط.

ومعلوم أن هذه الاتفاقيات لا تخجل حتى من إبراز التقسيم الفاشي الذي يحول البشرية إلى متمدنين وغير متمدنين، عالم متقدم وعالم آخر ثالث متخلف ورجعي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.