أبعاد الحملة التركية على "الإرهاب" وأسبابها

DIYARBAKIR, TURKEY - JULY 23: Turkish security forces take measures after armed attack to police, leaving one police killed and other wounded in Diyarbakir's Sehitlik district, Turkey, on July 23, 2015.
غيتي إيميجز

اتخذت تركيا خلال الأيام الماضية إجراءات أمنية وعسكرية جديدة تمثلت بقصف مواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق ومواقع تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سوريا، إلى جانب القيام بحملة اعتقالات واسعة في الداخل التركي طالت نحو ألف شخص حسب التصريحات الرسمية.

وتزامن ذلك مع الموافقة التركية للولايات المتحدة على استخدام قاعدة "إنجرليك" الجوية في جنوب البلاد لشن غارات على تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، الأمر الذي اعتبرته واشنطن انخراطا تركيا مع التحالف الدولي في الحرب ضد تنظيم الدولة.

حقيقة الأمر أن تلك التطورات المتلاحقة يمكن ردها إلى عدة أسباب واعتبارات فرضتها الظروف الداخلية الدقيقة ومقتضيات "الأمن القومي" التركي، وعلاقة ذلك بالتحولات الإقليمية على صعيد خارطة المصالح والنفوذ، فقد شهدت الأراضي التركية خلال الأيام الماضية سلسلة من الهجمات الدامية بدأها تنظيم الدولة بتفجير انتحاري في مدينة سروج بولاية شانلي أورفا أودى بحياة ٣٢ شخصا تبعته اتهامات كردية للحكومة التركية بزعامة حزب العدالة والتنمية بالتقصير الأمني وعدم العمل بصورة جادة ضد تنظيم الدولة، وهي اتهامات رفضها بولند أرينج نائب رئيس الوزراء ووصفها "بالدنيئة".

الحكومة التركية – ومن خلال ربطها ملف التعاطي مع حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة بذات السوية والتوقيت والأسلوب- تحاول فرض إرادة سياسية تمنع "الكردستاني" من الاستفادة من مجريات "الحرب على الإرهاب"

غير أن حالة الاحتقان الناتجة عن مجزرة "سروج" تفجرت بين الحكومة والأكراد على شكل اشتباكات متفرقة بين أفراد من الجيش التركي وعناصر من حزب العمال الكردستاني، ترافق ذلك مع إطلاق الأخير سلسلة اغتيالات بحق الشرطة التركية ومدنيين بدعوى تعاونهم مع "داعش".

لذا وجدت الحكومة في هذه الإجراءات -حملة مكافحة "الإرهاب"- فرصتها ليس في إحراج حزب الشعوب الديمقراطي وتقليص حجم قاعدته الشعبية فحسب، بل في إضعاف حزب العمال الكردستاني في معاقله بجبال قنديل، وتذكيره بأن الحكومة لا تفتقد الإرادة السياسية كي تخوض مواجهات جديدة في حال دعت الضرورة.

كما أن من شأن التحرك التركي وانخراطه في التحالف الدولي ضد "داعش" حرمان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وجناحه العسكري (وحدات حماية الشعب) من الحصول على مكاسب سياسية من وراء تنسيقه مع قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة.

يضاف إلى ذلك أن الاتفاق الأميركي التركي بشأن السماح باستخدام قاعدة "إنجرليك" يتضمن في أحد بنوده -كما أوردت صحيفة "حرييت" التركية- موافقة أميركية على إقامة تركيا منطقة حظر للطيران فوق أجزاء من شمال سوريا، وبالتحديد في المنطقة الواقعة بين مدينتي مارع وجرابلس السوريتين على طول تسعين كلم وبعرض يتراوح بين أربعين وخمسين كلم في عمق الأراضي السورية، وهي المنطقة الفاصلة بين ريف عين العرب (كوباني) وريف عفرين، مما يعني ذلك منع حصول الوحدة الجغرافية بين المناطق الكردية في سوريا، واحتواء الطموحات الكردية حول إقامة نظام حكم ذاتي أو كيان كردي شبه مستقل.

لن تذهب تركيا في حربها إلى النهاية، ولن تصل بالحرب إلى نقطة اللاعودة، سواء ضد تنظيم الدولة أو ضد حزب العمال الكردستاني، ليس لأنها ذات كلفة كبيرة، بل لأن المشهد السياسي مقدم على انتخابات مبكرة

الواضح أن الحكومة التركية ومن خلال ربطها ملف التعاطي مع حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة بذات السوية والتوقيت والأسلوب تحاول فرض إرادة سياسية تمنع "الكردستاني" من الاستفادة من مجريات "الحرب على الإرهاب" وبقائه مثل أغلب القوى الكردية المسلحة والمتحالفة مع الغرب، حيث تقتصر مهمتها على تقديم خدمات أمنية على الأرض دون مقابل سياسي واضح.

غير أن تأثير الحملة التركية الحالية لا ينحصر فقط في الحالة الكردية، بل يتجاوزها ليشمل الحالة السورية، فثمة تساؤلات جوهرية حول تلك الإجراءات العسكرية والضربات التي توجهها تركيا لتنظيم الدولة، وعن إمكانية اعتبار ذلك انقلابا على سياستها السابقة القائمة على أولوية محاربة نظام الأسد.

حقيقة الأمر أنه يمكن رد التحرك التركي هذا إلى محاولة أنقرة تحصين مكانتها في سوريا بعد الاتفاق النووي الإيراني، وخشيتها من إقدام طهران على دعم نظام الأسد بفاعلية أكثر في المستقبل القريب، مما يستوجب فرض وقائع جديدة في الشمال السوري تبدأ بإضعاف تنظيم الدولة وإنهاء سيطرته على المناطق المحاذية للحدود التركية وفرض منطقة حظر جوي تكون قاعدة انطلاق لقوات المعارضة السورية "المعتدلة" بغية توسيع نطاق سيطرتها على الشمال السوري.

وعلى ذلك، لا يستبعد أن يكون وراء التحول في تغير أسلوب التعاطي التركي مع تنظيم الدولة وصوله مع الجانب الأميركي إلى تفاهمات إستراتيجية حول الوضع السوري بعد سنوات من اختلاف الرؤى والإستراتيجيات في كيفية التعاطي مع هذا الملف الشائك، وتأثيره على مستوى وسبل دعم المعارضة السورية "المعتدلة" وتعزيز دور وحدات حماية الشعب الكردية، وتنظيم الدولة على الأرض.

في المقابل، ثمة قراءة أخرى مغايرة حول أسباب الحملة التركية على "الإرهاب"، إذ يرى البعض أن إجراءات الحكومة بزعامة حزب العدلة والتنمية وفتحها ثلاث جبهات متزامنة (عسكرية وأمنية) والحديث عن تهديدات للأمن القومي ما هي إلا خطوات مدروسة تستثمر في الانفعالات من أجل تهيئة الأجواء الانتخابية لصالحه، والتأثير على مزاج الناخب التركي بعد الاستثمار في جملة الأحداث الراهنة.

النهج السياسي الذي يتبعه حزب العدالة يتنافى مع مبدأ الحرب والعسكرة، لذا ليس من المعقول أن يندفع ذات الحزب إلى إعادة صفحة المواجهات المسلحة مع "الكردستاني"، تلك المواجهات التي بدأت منذ ١٩٨٤ وراح ضحيتها أكثر من أربعين ألف مواطن

ويهدف ذلك لإظهار حزب العدالة كقوة وحيدة قادرة على إدارة المصالح التركية في هذه المرحلة الدقيقة، وإظهار معارضي الحزب بمظهر الضعيف والمنقسم أثناء الأزمات، على اعتبار أن كل المؤشرات تدل على ذهاب تركيا إلى خيار الانتخابات المبكرة التي يتأمل حزب العدالة من خلالها تحقيق أغلبية برلمانية.

كذلك يرى هؤلاء أن محاربة تنظيم الدولة في هذا الوقت ستزيد من الرصيد الانتخابي لصالح حزب العدالة والتنمية، إذ سيقطع هذا الإجراء الطريق أمام الاتهامات الداخلية والخارجية حول دعم وتغاضي الحكومة عن نشاط "الجهاديين"، والذي تسبب في تصويت بعض التيارات السياسية التركية بالانتخابات الماضية في يونيو/حزيران ٢٠١٥ ضد حزب العدالة والتنمية.

واقع الحال أن تركيا لن تذهب في حربها إلى النهاية، ولن تصل بالحرب إلى نقطة اللاعودة، سواء ضد تنظيم الدولة أو ضد حزب العمال الكردستاني، ليس لأنها ذات كلفة كبيرة، بل لأن المشهد السياسي مقدم على انتخابات مبكرة تستوجب إبقاء التفاعلات السياسية والأمنية في الداخل التركي تحت سيطرة الدولة والحكومة، إلى جانب إدراك القيادة التركية أن مصلحة بلادها تكمن في الابتعاد عن المستنقع السوري والاكتفاء بدعم بعض الفصائل المعارضة هناك.

مهما يكن فإن النهج السياسي الذي يتبعه حزب العدالة والتنمية يتنافى مع مبدأ الحرب والعسكرة، لذا ليس من المعقول أن يندفع ذات الحزب إلى إعادة صفحة المواجهات المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، تلك المواجهات التي بدأت منذ ١٩٨٤ وراح ضحيتها أكثر من أربعين ألف مواطن.

كما لا يعقل أن يستغني حزب العدالة عن إنجازات ملموسة حققها عبر التفاوض من زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وعجزت عن تحقيقها الأحزاب والحكومات التركية السابقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.