الأكراد وأزمة السياسة التركية

Supporters of Kurdistan Workers' Party (PKK ) gather during a rally as part of Nowruz, or Kurdish New Year, celebrations in Diyarbakir, Turkey, 21 March 2015. Nowruz, which means 'new day' in Kurdish, marks the arrival of spring. The jailed leader of the separatist Kurdistan Workers Party (PKK), Abdullah Ocalan, called PKK to convene congress to discuss laying down arms.
وكالة الأنباء الأوروبية

أخذت المسألة الكردية أهمية كبيرة لدى حزب العدالة والتنمية منذ توليه السلطة قبل ثلاثة عشر عاما، بل كان الحزب يباهي بتأسيس قواعد للمصالحة الداخلية ليس مع الأكراد فقط وإنما مع كل القوميات التي ظلمت في العقود الماضية، أو التي لم تأخذ حقوقها كاملة، أو التي انتقصت في الحقوق الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية منذ تأسيس الجمهورية.

وقد كانت رؤية التأسيس لدى أتاتورك تتمثل في إقامة الدولة القومية التركية التي لا تعترف بالقوميات الأخرى على الأراضي التركية حرصا على وحدة البلاد في مواجهة الدول الاستعمارية التي عملت على تقسيم تركة الدولة العثمانية إلى دويلات كثيرة، بما يمثل رفضا لفكرة تقسيم تركيا إلى دول عديدة كما حصل في الوطن العربي باتفاقية سايكس بيكو 1916.

مع ظهور الحركة الإسلامية وأحزابها "العلمانية" بعد عام 1970 ومع تأسيس "الحزب الوطني" بزعامة نجم الدين أربكان على الساحة السياسية التركية، أصبحت الأصوات الكردية الدينية من الأصوات المحسوبة على أحزاب نجم الدين أربكان المتوالية

ولذلك أصرت الحكومة التركية في اتفاقية لوزان عام 1921 على وحدة واستقلال الأراضي التركية على أساس قومي لا يقبل التعدد ولا التقسيم، ولم يقبل أتاتورك فكرة التعددية السياسية، ورفض تأسيس أحزاب سياسية غير حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه هو وحكم به البلاد منفردا منذ العام 1923.

امتدت هذه المرحلة السياسية التي لا تعترف بحزب آخر ولا تؤمن بالتعددية السياسية ولا القومية ولا الثقافية ولا غيرها من عام التأسيس 1923 إلى عام 1949، حيث تم إقرار التعددية السياسية وسمح بتأسيس أحزاب سياسية، فتم تأسيس الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس، وخاض انتخابات عام 1950 وحقق فوزا كبيرا أخرج حزب الشعب الجمهوري من السلطة بعد سبعة وعشرين عاما من الانفراد بها.

شكل حزب عدنان مندريس حكوماته طوال عقد الخمسينيات من القرن الماضي حتى وقوع الانقلاب العسكري عام 1960، وأُطيح بالحزب الحاكم وتولى سليمان ديميريل دفة القيادة طوال العقد التالي، حيث تابع سياسة مندريس في تخفيف القيود الدينية والثقافية على الشعب التركي، ولكن دون الاعتراف بالحقوق القومية لغير الأتراك.

ورغم وجود نحو أربعين مجموعة عرقية وسياسية متنوعة، فقد كان الحديث عن الحقوق القومية محظورا بالقانون والتطبيق، وكان التكلم بغير اللغة التركية في الأماكن العامة محظورا ومخالفا للقانون وتترتب عليه عقوبات وغرامات، أما إصدار صحف أو عقد اجتماعات عامة باللغات القومية غير التركية ومنها الكردية فهو ممنوع ومجرم قانونيا، بيد أن حقبة السبعينيات أظهرت أهمية وضرورة الحديث عن الحقوق القومية، ولكن دون أن يجرؤ أحد الأحزاب أو السياسيين على تعديل القوانين القومية على الرغم من إقرار التعددية السياسية منذ عقود.

مع ظهور الحركة الإسلامية وأحزابها "العلمانية" بعد عام 1970 ومع تأسيس "الحزب الوطني" بزعامة نجم الدين أربكان على الساحة السياسية التركية، أصبحت الأصوات الكردية الدينية من الأصوات المحسوبة على أحزاب نجم الدين أربكان المتوالية: ملي نظام، والسلامة، والرفاه، والفضيلة، فكان طبيعيا أن تكون المسألة الكردية على جدول برامج حزب العدالة والتنمية في مرحلة صعوده وتأسيسه عام 2001 حيث شاركت العديد من الشخصيات الكردية في مرحلة التأسيس.

وقد مثلت تلك الشخصيات الكردية إحدى الروافع الأساسية لحزب العدالة والتنمية إلى السلطة والحكم عام 2002، وكذلك في الانتخابات وتشكيل الحكومات التالية الثلاث لهذا الحزب، وقد بلغ نواب حزب العدالة والتنمية من أصل كردي أكثر من ثمانين نائبا في البرلمان التركي، أي أن الأكراد وجدوا في العدالة والتنمية الحزب الذي يضمن لهم حقوقهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والهوية الحضارية التي يحملها هذا الحزب.

بينما كان التيار القومي المنغلق عن الأكراد عبر التاريخ الحديث وبالأخص طوال القرن الماضي ينتمي أغلبه إلى الاتجاه اليساري والشيوعي والاشتراكي الموالي للاتحاد السوفياتي حتى بعد سقوطه، مع بعض الفروقات البسيطة.

بدأ حزب العمال الكردستاني حزبا شيوعيا ماركسيا متشددا، ثم خفف من هويته الماركسية مطلع التسعينيات، ولكنه ورغم مشاركته (أي التيار الكردي اليساري) للكثير من تيارات اليسار التركي وأحزابه مثل حزب الشعب الجمهوري والحزب العمالي (IP)، وحزب العمل (EP)، وحزب السلطة الاشتراكية (SIP)، وحزب الحرية والتضامن (ODP)، والحزب الكمالي الاشتراكي الديمقراطي (SHP)، وحزب العمل الشعبي (HEP)، وحزب الديمقراطية (DEP)، فإنها كانا على طرفي نقيض في تركيا.

كان المأمول أن يكون الأكراد من أكثر القوميات التركية التي تساند حزب العدالة والتنمية في مسيرته السياسية القادمة، وبالأخص أن أردوغان اعتبر قضية المصالحة الداخلية قضيته الأساسية منذ وصوله للسلطة

بل أكثر من ذلك أطلق حزب العمال الكردستاني حربا إرهابية منذ عام 1984 على الدولة التركية وأغلب أحزابها في ذلك الوقت هي أحزاب يسارية، ولكنها كانت أحزابا قومية متشددة للقومية التركية مما جعلها أحزابا وحكومات معادية للقومية الكردية وأحزابها.

ولما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 أخذ بتنفيذ وعوده الانتخابية ومنها الانفتاح على كل مكونات المجتمع التركي بكل قومياته وإثنياته وتياراته الفكرية والسياسية ومذاهبه الدينية وطوائفه الكثيرة، وكان تنفيذ هذه الوعود على شكل حزم قانونية يصدرها البرلمان التركي، ومحورها الأساسي تطوير الحياة الديمقراطية في تركيا في كل مجالاتها، ولذلك سميت بالحزم الديمقراطية، وقد بلغت عشر حزم ديمقراطية. وقد كان أعضاء حزب العدالة والتنمية في البرلمان بمن فيهم أعضاؤه من أبناء القومية الكردية، في مقدمة البرلمانيين الذين يدافعون عن هذه الحزم الديمقراطية والحقوق القومية.

وخلال السنوات الثلاث عشرة الماضية التي حكم فيها حزب العدالة والتنمية -وكلها باستثناء عام واحد كانت بزعامة رجب طيب أردوغان– تحقق الكثير من المطالب والحقوق لأبناء القومية الكردية، ولغيرهم من أبناء القوميات الأخرى أيضا، حتى تمكن صلاح الدين ديمرطاش وهو زعيم حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) من أن ينافس على رئاسة الجمهورية أمام أردوغان عام 2014، أي أن حزب العدالة والتنمية قدم للأكراد من الحقوق ما لم يقدمه حزب تركي آخر في التاريخ الكردي والتركي الحديث.

ولذلك كان من المأمول أن يكون الأكراد من أكثر القوميات التركية التي تساند حزب العدالة في مسيرته السياسية القادمة، وبالأخص أن أردوغان اعتبر قضية المصالحة الداخلية قضيته الأساسية، وناشد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في أكثر من مناسبة أن يواصلا معا مسيرة المصالحة الداخلية، قائلا له: "لقد بدأنا مشوار المصالحة معا وعلينا أن ننهيه معا".

لم يكن عبد الله أوجلان ضد هذا التوجه التصالحي، ورسالتاه الأخيرتان في عيد النيروز عام 2014 وعام 2015 تؤكدان على مصداقيته في السير في هذه المصالحة، ولكن أطرافا أخرى من الأكراد تريد أن تقطف ثمار ما تم التوصل إليه بين أردوغان وأوجلان.. وتعتبره مجرد بذور وليس ثمارا للمصالحة، وأنه نقطة بداية وليس خطوات في طريق المصالحة، ولذلك يتجاهلون اتفاق المبادئ الذي وقع في ديسمبر/كانون الأول 2013، والذي نص على خروج مقاتلي حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى جبال قنديل في شمال العراق إلى حيث أتوا من قبل.

فهؤلاء المقاتلون الذين أصبح يطلق عليهم مصطلح قنديل، أخذوا يصنعون من أنفسهم قيادة أخرى منافسة لأوجلان أولا، وصاحبة الحق في التفاوض على المصالحة الداخلية، وبحكم سيطرتها على خلاياها القتالية المسلحة في جنوب شرق تركيا، أي في ديار بكر وما حولها، فإنها تستطيع أن تهدد باستخدام العمليات الإرهابية لتحقيق مطالبها، وكأن الأكراد نكثوا أول اتفاق لهم مع الحكومة التركية، أي نقضوا اتفاق المبادئ بالتخلي المبدئي عن العمليات الإرهابية والانسحاب إلى جبال قنديل كشرط لبدء عملية المصالحة.

وهكذا أصبح عبد الله أوجلان الذي مثل الاتفاق المبدئي الأول وباركه لا يمثل الأكراد طالما هو لا يستطيع منعهم من العمليات الإرهابية، وبذلك ظهرت في الساحة السياسية الكردية أطراف أخرى أكثر تطرفا من عبد الله أوجلان السجين، ومنها طرف قنديل.

ينبغي على الحكومة التركية القادمة أن تطالب الأكراد وقد دخلوا البرلمان رسميا بأن يوثقوا انتماءهم الوطني للجمهورية التركية، وأن يكونوا عامل وحدة واستقرار للجمهورية التركية، وعامل تقدم وازدهار للاقتصاد التركي

ومع بروز حزب ديمقراطية الشعوب وما حققه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة 7/6/2015، ودخوله البرلمان التركي بثمانين نائبا فقد أصبح طرفا كرديا ثالثا ممثلا للقومية الكردية، يفاوض أو يفرض رؤية كردية ثالثة للحل السياسي الداخلي، وبذلك أفرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة صورة خطرة على المجتمع التركي، وهي عدم تصويت الأكراد لحزب العدالة والتنمية أولا، وعدم دخول النواب الأكراد البرلمان التركي ممثلين عن حزب العدالة والتنمية بأعداد كبيرة كما كان في الماضي ثانيا.

ومن شأن هذا أن يخلق فصلا بين النواب الأتراك والنواب الأكراد، فصلا أكثر تباعدا من الماضي، وكأن الدعم الذي قدمه حزب العدالة والتنمية للأكراد في السنوات الماضية قد انقلب عليه، مما يعني أن الأطراف الكردية الثلاثة (طرف عبد الله أوجلان، وطرف قنديل، وطرف حزب الشعوب الديمقراطي) ستكون أحد أسباب التوتر السياسي في الساحة الكردية، فما أعطي لهم من حقوق، أو ما حققه بعضهم من مكاسب في العقود الماضية -كما يفضل البعض قوله- استغله بعضهم في إبعاد الحل السياسي السلمي بين القوميات التركية، وهو خطر لا ينبغي تجاهله.

ولكن ما هو أخطر من ذلك هو استغلاله من أطراف خارجية من الدول المعادية لتركيا، فقد تستغل الدول المعادية أو المنافسة لتركيا أحد الأطراف الكردية الثلاثة في تعطيل حياتها السياسية المستقرة، أو تهديد الأمن الداخلي بالعودة إلى العمليات الإرهابية والاغتيالات والتفجيرات الإجرامية، وأخيرا استغلال حزب الشعوب الديمقراطي وزعيمه ديمرطاش في عرقلة مشاريع البرلمان التركي تحت التهديد بالمناكفات السياسية أو التهديد بالعصيان المدني حتى تحقيق المطالب المستجدة وغيرها.

لذلك ينبغي على الحكومة التركية القادمة أن تطالب الأكراد وقد دخلوا البرلمان رسميا بأن يوثقوا انتماءهم الوطني للجمهورية التركية، وأن يكونوا عامل وحدة واستقرار للجمهورية التركية، وعامل تقدم وازدهار للاقتصاد التركي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.