ثلاث دلالات لاعتقال منصور والإفراج عنه

أحمد منصور يتحدث للعشرات من المصريين والعرب الذين انتظروا خروجه أمام سجن موابييت البرليني. الجزيرة نت
الجزيرة

تمثل حادثة اعتقال الزميل أحمد منصور مقدم البرامج في قناة الجزيرة والإفراج عنه حادثة بالغة الدلالات لا تتعلق بمنصور نفسه أو بالجزيرة، بل بمجمل الاشتباك السياسي الدائر في المنطقة ككل، وليس بمصر وحدها.. فما هي أهم هذه الدلالات؟ وكيف يمكن توظيفها في معركة الحريات مستقبلا؟

إن أولى الدلالات هي أهمية الإعلام في عملية الإصلاح في العالم العربي، وقد بدا ذلك واضحا من حجم الاهتمام الذي أبدته الدوائر السياسية والإعلامية المقربة من سلطة الانقلاب في مصر، إذ جندت هذه السلطة كل قوتها لإتمام الاعتقال والحيلولة دون الإفراج عن منصور والحصول على قرار ألماني بتسليمه لمصر بدعوى وجود أحكام نافذة ضده في القضاء المصري.

لقد شارك في الحملة معظم الإعلاميين المقربين من السلطة، وفتحت وسائل الإعلام الفضائية والمطبوعة والإلكترونية حملة من الشماتة والابتهاج "بالإنجاز" المصري القضائي، وبالضغط لتسليم الإعلامي المعتقل لمصر، كما انضمت البيروقراطية المصرية لهذه الحملة المكثفة ممثلة بالشرطة والقضاء والنائب العام، إضافة للمستوى السياسي ممثلا برئيس الدبلوماسية وزير الخارجية سامح شكري الذي صرح بأن وزارته تعمل بكامل طاقتها للحصول على قرار بتسليم منصور للسلطات المصرية.

أولى دلالات ما جرى هي أهمية الإعلام في عملية الإصلاح في العالم العربي، وقد بدا ذلك واضحا من حجم الاهتمام الذي أبدته الدوائر المقربة من سلطة الانقلاب في مصر، إذ جندت هذه السلطة كل قوتها لإتمام الاعتقال والحيلولة دون الإفراج عن منصور وتسليمه لمصر

والحقيقة أن هذا الاهتمام لا يتعلق بشخص المعتقل وهويته ومؤسسته فقط، ولكن بمجمل الحرب التي تشنها سلطة الانقلاب على الإعلام منذ اليوم الأول لعزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، حيث أوقفت هذه السلطة كافة القنوات المعارضة وقتلت واعتقلت عددا من الصحفيين والمصورين المصريين والعرب والأجانب، ومنعت ظهور أي صوت معارض في وسائل الإعلام المصرية.

بل وصل الأمر إلى محاربة وتشويه بعض الأصوات الليبرالية التي كانت شريكة في 30 يونيو فقط بسبب إظهارها معارضة محسوبة ومتواضعة لممارسات السلطة وللأجواء الاستبدادية والفاشية التي تعمل على بنائها باطراد كبير، وشملت هذه الأسماء شخصيات لها وزن مصري وعالمي مثل علاء الأسواني وعمرو حمزاوي وغيرهما.

إن تعاطي السلطات المصرية مع قضية اعتقال أحمد منصور يعيد تأكيد أهمية الإعلام في معركة الإصلاح في المنطقة العربية، علما أن الإعلام المساند للثورات المضادة ساهم بقوة في إعادة عقارب الساعة للوراء في ساحات مهمة مثل مصر وتونس، مما أدى إلى حصول انتكاسات كبيرة في هذين البلدين ووضع حد لإمكانية تحقيق نقاط إضافية لصالح الثورة فيها.

ونحن نقول ذلك، لا بد من الإشارة هنا إلى الفشل الكبير في الإعلام المؤيد للثورات لأسباب تتعلق بضعف الإمكانيات وبطبيعة المرحلة السياسية الطويلة التي سبقت قيام هذه الثورات، وما رافقها من عملية تجريف ممنهجة للتفكير والإبداع في الدول العربية الشمولية، ومنع الأصوات التي لا تدور في فلك السلطة من الدخول إلى ماكينة الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، مما حرمها من التجربة والخبرة الضروريتين لإنجاح العمل الإعلامي.

وعلى الرغم من كل هذه العوائق الموضوعية والذاتية فإن المرحلة الحالية تتطلب مزيدا من الجهد من هذه الوسائل الإعلامية المؤيدة للثورة لبناء خبرات متراكمة والمساهمة في تأسيس إعلام جاد وموضوعي ومهني، دون الانزلاق لأسلوب الإعلام المبتذل الذي تمارسه وتؤسس له معظم وسائل الإعلام القريبة من السلطات الحاكمة ومن الثورات المضادة.

الدلالة الثانية لما حدث هي أهمية الحملات الداعمة للمعتقلين والحريات في تحقيق الإفراج عن منصور، إذ واجهت ألمانيا حملة عالمية من الإدانات جعلتها تفرج عن منصور، وهو قرار سياسي تماما كما كان قرار الاعتقال سياسيا أيضا

أما الدلالة الثانية فهي أهمية الحملات الداعمة للمعتقلين والحريات في تحقيق الإفراج عن منصور، إذ ووجهت السلطات الألمانية بحملة عالمية من الإدانات على المستويات الألمانية والعربية والعالمية، مما جعلها تصدر قرارها بالإفراج عن منصور، وهو قرار سياسي تماما كما كان قرار الاعتقال سياسيا أيضا.

وقد ساهمت حملات مماثلة سابقا بتحقيق الإفراج عن معتقلي رأي وإعلاميين وناشطين آخرين من سجون الانقلاب في مصر، مثل صحفيي الجزيرة الإنجليزية وعبد الله الشامي ومحمد سلطان وغيرهم، وهو ما يدعو لضرورة تكثيف الحملات المطالبة بالإفراج عن معتقلي رأي وصحفيين آخرين لم يحظوا بمثل التغطية والدعم الذي حظي بها الإعلاميون الذين أفرج عنهم.

ونذكر هنا أن عددا كبيرا من الإعلاميين المصريين لا يزالون موقوفين في السجون المصرية، فيما حكم بعضهم بمؤبدات وأحكام عالية جدا لأسباب واهية، مع أن الجميع يعلم أنهم معتقلون بسبب عملهم ونشاطهم الإعلامي، ومن هؤلاء سامحي مصطفى وعبد الله الفخراني وهاني صلاح الدين وأحمد سبيع وآخرون، للأسف لا يعرف الكثيرون أسماءهم، بسبب ضعف الحملات المطالبة بالإفراج عنهم، وهو ما يسجل ضد المؤسسات الإعلامية الكبرى والنشطاء والمؤسسات الحقوقية التي لم تقدم الدعم الكافي لهؤلاء وتركتهم مكشوفي الظهر أمام سلطات مستبدة وقضاء مسيس وغير عادل.

أما الدلالة الثالثة فهي تتعلق بطبيعة الديناميات التي تتحرك وفقها الدول وتتخذ قراراتها بناء عليها، إذ إن السلطات الألمانية التي كان لها في السابق انتقادات أعلى صوتا ضد الانقلاب من دول أوروبية أخرى اضطرت لاتخاذ قرار الاعتقال بحسب كتاب ووسائل إعلام ألمانية وعالمية بعد زيارة السيسي لبرلين، حيث وقع الطرفان الألماني والمصري اتفاقات اقتصادية مهمة أدت إلى التأثير على القرار الألماني المثير للجدل.

لقد وضعت الحكومة الألمانية نفسها بمواجهة حملة دولية سياسية وإعلامية وحقوقية ضخمة داخليا وخارجيا كانت في غنى عنها لأسباب قالت وسائل إعلامية ألمانية إنها ترتبط بتوقيع اتفاقية ضخمة مع الجانب المصري تزود بموجبها شركة سيمنز الألمانية مصر بمعدات غاز ومشاريع لتوليد الطاقة بواسطة الرياح بقيمة تسعة مليارات دولار، وهي اتفاقية تمت بدون طرح عطاءات بحسب وسائل الإعلام هذه، وجاءت وسط أزمة تمر بها شركة سيمنز اضطرت بسببها لإلغاء 7800 وظيفة على مستوى العالم بحسب وول ستريت جورنال، منها 1200 وظيفة من قطاع الطاقة في الشركة، وهو القطاع نفسه الذي سينفذ المشاريع التي تم التوقيع على تنفيذها بمصر.

إذا كانت دولة كبيرة مثل ألمانيا التي بلغ معدل إنتاجها المحلي في العام 2013 حوالي 3635 مليار دولار قد تأثرت بصفقة من تسعة مليارات دولار فقط واتخذت قرارا يخالف مبادئها فإن هذا يعطينا فكرة واضحة عن أهمية المصالح في تحريك الدول والتأثير على آليات اتخاذ القرارات فيها

وبحسب كبير صحافيي جريدة "فرانكفورتر أجماين" الألمانية ماركوس بيكيل، فإن اعتقال منصور تم بعد توقيع صفقة سيمنز في اليوم التالي لزيارة السيسي لألمانيا، كما أن الصحافي البريطاني المعروف روبرت فيسك كان قد أشار إلى هذه الصفقة في مقاله الناقد للسلطات الألمانية في صحيفة الإندبندنت بسبب اعتقال منصور.

وإذا صحت هذه التحليلات المشروعة في تأثير صفقة سيمنز على قرار الاعتقال فإنه يمكن القول أيضا إن الإفراج ربما يكون قد تأثر بالتصريحات التي أطلقها رئيس الوزراء التركي أحمد أوغلو والرئيس أردوغان للتنديد بالاعتقال، نظرا للعلاقات التجارية المتميزة بين أنقرة وبرلين، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وألمانيا في الأشهر العشرة الأولى من العام 2014 مثلا حوالي 27.1 مليار يورو، فيما تعتبر ألمانيا أكبر مستثمر عالمي في تركيا منذ عام 1980 بواقع 12 مليار دولار.

وإذا كانت دولة كبيرة مثل ألمانيا التي بلغ معدل إنتاجها المحلي في العام 2013 حوالي 3635 مليار دولار قد تأثرت بصفقة من تسعة مليارات دولار فقط واتخذت قرارا يخالف مبادئها الليبرالية والديمقراطية فإن هذا يعطينا فكرة واضحة عن أهمية المصالح في تحريك الدول وفي التأثير على آليات اتخاذ القرارات فيها، وهو أمر يدعو من جانب آخر إلى أهمية فهم هذه الآليات من قبل المناضلين لتحقيق الإصلاح والحريات، والمناضلين أيضا لصالح كافة القضايا القومية العربية مثل قضية فلسطين.

ومن الضرورة أن يعلموا أن طريق التأثير بالدول الكبرى لا يبنى على الأمنيات والهتافات البراقة حول دعم الحريات والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وإنما على الجمع بين العمل الشعبي والنضال السلمي القائم على الشعارات الإنسانية، وبين البحث عن امتلاك الأوراق العملية المؤثرة في الدول من خلال المصالح الحيوية لها.

قد يكون من المبكر القول إن الشعوب والحركات التحررية تمتلك حاليا الكثير من الأوراق الكافية لإحداث فرق في صناعة السياسات الدولية، ولكن هذه الحقيقة يجب ألا تدفعهم لليأس والإحباط، بل للبحث في كيفية مراكمة هذه الأوراق على قلتها، وفي بناء خطاب سياسي وإعلامي يتكلم مع العالم بلغة المصالح والاقتصاد، وليس بلغة الأمنيات والشعارات فقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.