بيلدربيرغ.. حكومة العالم الخفية

The Interalpen-Hotel Tirol, venue of the Bilderberg conference, is pictured on June 14, 2015 near Telfs, Austria. The Bilderberg group, which brings together international leaders from politics, high finance, business and academia holds its highly exclusive annual meeting in a luxury hotel in the Austrian Alps. AFP PHOTO / CHRISTIAN BRUNA
غيتي إيميجز

مخاض أوروبي
مجرد حوار أطلسي؟
ممارسة الحكم الخفي

انعقد اللقاء الثالث والستون لمنظمة بيلدربيرغ، التي توصف بحكومة العالم الخفية، بمشاركة 140 شخصية من 22 بلدا، في الفترة 11-14 يونيو/حزيران 2015 في منطقة تيلفس النمساوية.

وحسب الصحف الرسمية فقد كانت العناوين الرئيسية التي بحثها المؤتمر هي: الذكاء الاصطناعي، الأمن الشبكي، مخاطر الأسلحة الكيميائية، القضايا الاقتصادية الراهنة، الإستراتيجية الأوروبية، العولمة، اليونان، إيران، الشرق الأوسط، حلف شمال الأطلسي، روسيا.

هذه عناوين قضايا مطروحة علنا في منتديات عالمية أخرى معروفة، فلم السرية المطلقة التي تحاط بها في "بيلدربيرغ"؟ ولم حظر أي وجود إعلامي، وعدم نشر حصيلة ختامية أو توصيات أو ما شابه ذلك مما يستهدف كسب التأييد عادة؟ وكيف يمكن التوفيق بين "السرية" وبين نفقات الإجراءات الأمنية الضخمة على حساب دافعي الضرائب في البلد المضيف، كما أظهر سؤال نيابي في فيينا (يوم 8/6/2015) احتجاجا على تلك النفقات؟

مخاض أوروبي

صاحب الفكرة هو البولندي ريتينجر الذي أسس بعد الحرب "الحركة الأوروبية"، فحصلت على دعم من المخابرات الأميركية ومن اللجنة الأميركية من أجل أوروبا موحدة، واستقال عام 1952 من الحركة، ليؤسس "المنظمة" التي عرفت لاحقا باسم بيلدربيرغ
في عام 1954 نشأت المنظمة أو "مؤتمر بيلدربيرغ" كما سمت نفسها لاحقا، وتزامن تأسيسها سرا (انكشف بعد عشرة أعوام تقريبا) مع تأسيس تجمعات مشابهة علنا، مثل منتدى ميونيخ للشؤون الأمنية -لشؤون الأسلحة سابقا- ومنتدى دافوس أو المؤتمر الاقتصادي العالمي.

القاسم المشترك هو عقد لقاءات دورية غير رسمية لنخب مختارة من أصحاب النفوذ للتأثير على صناعة القرار عالميا.. في حين أن تجمعات أخرى تحاط أنشطتها بالسرية، مثل "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك، وما يسمى دار تشاثام (Chatham) في لندن. والقاعدة الأساسية هنا هي: "من حق المشاركين استخدام ما يحصلون عليه من معلومات، شريطة عدم بيان ارتباطها بشخص أو مواصفاته، ممن أدلى بها في اللقاءات".

 
هذا عنصر واحد للسرية التي تحيط بمنظمة بيلدربيرغ، ويعرضها لحملات نقد شديدة منها وصمها بحكومة العالم الخفية، وكانت لقاءاتها نصف سنوية، وأصبحت سنوية منذ عام 2009. وتقول عن نفسها إن لقاءاتها مجرد "لقاءات سنوية لمدة ثلاثة أيام صبغته تعميق الحوار بين أوروبا وأميركا الشمالية".. ولهذا تقتصر الدعوة على شخصيات من دول حلف شمال الأطلسي، من أصحاب الاطلاع على معلومات من "العيار الثقيل" أو من "صناع القرار" السياسي والعسكري والاقتصادي والفكري والإعلامي.

وتعود مركزية "العلاقات الأطلسية" إلى النشأة الأولى للمنظمة عقب تأسيس الحلف مع بداية الحرب الباردة، بعد مخاض عسير، خاضته الرغبة الأوروبية في دعم العلاقات بين جانبي الأطلسي على خلفية خروج الدول الأوروبية للتو من سلسلة حروب متوالية منذ قرون، وتنعكس هذه الولادة الأوروبية في انعقاد المؤتمرات بنسبة "الثلث" في أميركا الشمالية، والثلثين في الدول الأوروبية الأطلسية، ومنها تركيا (عامي 1959 و1975).

صاحب الفكرة "جوزيف ريتينجر" البولندي، وأصبح لاحقا أول سكرتير للاتحاد الأوروبي، فحمل لقب "الأب الروحي للاتحاد"، وكان في شبابه قسيسا كاثوليكيا ومن الطبقة الأرستقراطية، وكون في المنفى -أثناء الحرب العالمية الثانية– شبكة علاقات مكثفة مع كبار المسؤولين، مثل تشرشل ودالاس، واتهم أثناء الحرب بأنه "جاسوس الفاتيكان" بعد اقتراحه على رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك كليمنصو تشكيل دولة ملكية أوروبية بإدارة اليسوعيين.

 
وأسس ريتينجر بعد الحرب "الحركة الأوروبية" فحصلت على دعم مالي أميركي، عبر "المخابرات المركزية" و"اللجنة الأميركية من أجل أوروبا موحدة"، واستقال عام 1952 من الحركة، ليؤسس "المنظمة" التي عرفت لاحقا باسم بيلدربيرغ.

وقد بذل جهودا كبيرة لعب فيها رئيس المخابرات المركزية الأميركية بيديل سميث دورا رئيسيا، حتى تمت الموافقة على المشاركة الأميركية والكندية والتوافق على شخصيات ألمانية، فتبنى الأمير الهولندي بيرنهارد الدعوة إلى المؤتمر الأول في فندق "بيلدربيرغ" ببلدة أوستربيك الهولندية عام 1954.

غابت آنذاك مشاركة شخصيات من بعض دول الحلف، ولكن شهد عام 1989 قفزة رئيسية في المشاركة مع نهاية الحرب الباردة وتجدد التنبؤات أو المخاوف من انتهاء وجود الحلف نفسه بسبب "انتهاء مهمته" واقعيا.

مجرد حوار أطلسي؟
هذه الصورة "الرسمية" عن نشأة المنظمة اهتزت مع غياب ما يؤكد الحفاظ على الدوافع الأولى لصاحب المبادرة، وتضاعفت الشكوك بسبب سرية تعاطي المنظمة مع صناعة القرار عالميا. وفي المقابل يصعب الجزم بشأن التكهنات حولها، إذ تعتمد على مؤشرات عامة، ولا توجد دراسات موضوعية قاطعة.

لا ريب في تأثير "التوجه السياسي" على تكوين الأجهزة، فعند النظر مثلا في من ينتسب إلى تركيا -وهي عضو في الحلف- لا نجد أحدا ممن تصدروا المشهد السياسي والاقتصادي من حزب العدالة والتنمية عبر السلطة المنتخبة، ولكن نجد شخصيات من حزب الشعب الجمهوري ومقربين منه

من المؤشرات في اتجاه "حكومة خفية":
1- المشاركة من جانب كبار المسؤولين حاليا أو سابقا، من مؤسسات مالية كبرى وشركات عالمية ومنظمات دولية، مثل دويتشه بنك (آشلايتنر) والمصرف المالي العالمي (فولفنزون) واتحاد شركات إيرباص (إندرس) والاتحاد الأوروبي (باروسو) وشركات لاتسارد (كينيث) ومايكروسوفت (موندي) ومنتدى دافوس (شفاب)، ومن قادة حلف شمال الأطلسي (كلاس وكارينغتون).. وغيرهم.

2- لا ريب في تأثير "التوجه السياسي" على تكوين الأجهزة، فعند النظر مثلا في من ينتسب إلى تركيا -وهي عضو في الحلف- لا نجد أحدا ممن تصدروا المشهد السياسي والاقتصادي من حزب العدالة والتنمية عبر السلطة المنتخبة، ولكن نجد شخصيات من حزب الشعب الجمهوري ومن قطاعات إعلامية وجامعية أقرب إليه (سيلين سايك بوكي، وزولي أوزال، وموراي ميرت وغيرهم).

3- غموض كيفية اختيار المسؤولين، وكيفية إدارة الشؤون المالية والتنظيمية، وكيفية توزيع الصلاحيات والمهام.

4- غياب المتابعة الإعلامية، فبعض الحضور من كبار أصحاب المال في القطاع الإعلامي، يتعهدون بالحفاظ على السرية، ولم يخرقوا تعهداتهم عبر عدة عقود، وحتى جدول أعمال المؤتمر ‎لا يعلن للإعلام إلا بعد انتهائه، في شكل عناوين دون تفصيل، ولا يتلقى المشاركون في مؤتمرات سابقة (كما ذكر الأمين العام الأسبق للأطلسي كلاس في مقابلة إذاعية) سوى تقرير عن محتويات النقاش دون أسماء، علاوة على نص تفسيري منذ عام 1963.

5- غياب "دستور" أو "نظام داخلي" معلن.. إنما تظهر الهيكلية التنظيمية في أربعة مستويات:
(1) الرئاسة (حاليا الناطق باسم اتحاد شركات آكسا الفرنسية ووزير المالية الأسبق هنري دي كاستريس)، وتعمل مع الرئاسة سكرتارية ضخمة نصف أفرادها من المتفرغين.

(2) "اللجنة الاستشارية"، أبرز من فيها عضو الشرف "ديفد روكيفلر" أشهر أصحاب النفوذ المالي والمصرفي عالميا، وعضو الشرف وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسينجر، ويتولى على الأرجح تحديد قائمة المشاركين في كل مؤتمر دوري على حدة، وتوجه الدعوة رسميا باسم رئيس المنظمة وعضوي الشرف.

(3) "اللجنة التوجيهية"، وتشمل الرئاسة واللجنة الاستشارية وأعضاء آخرين، وتتولى إدارة المنظمة ولقاءاتها، وتعتبر هي "السلطة العليا" حسبما ورد في نشرة أرسلتها سكرتارية المنظمة إلى الكاتب ماركوس كلوكنر، صاحب كتاب "نخب السيطرة وحلقات النخب" الصادر عام 2007.

(4)-الأعضاء الآخرون.. وهؤلاء لا تذكر أسماؤهم ولا عددهم، والأرجح أنه يتراوح بين المئات والآلاف.

ممارسة الحكم الخفي
يمكن العودة بوصم المنظمة أنها حكومة العالم الخفية إلى ما أصبح معروفا عن مؤتمرها الأول، وشمل تحديد الموقف من "الاتحاد السوفياتي والشيوعية"، ومستقبل "المستعمرات الأوروبية"، وحركة "الاندماج الأوروبي"، ومناقشة تشكيل "مجموعة الدفاع الأوروبية" (منظمة عسكرية فقدت مفعولها لاحقا في ظل حلف شمال الأطلسي).

أما الأسلوب فيمكن استقراؤه عبر ما طرحه ريتينجر نفسه من "شروط المشاركة": أن يكون المدعو من "الشخصيات ذات النفوذ، التي تحظى بالاحترام عموما، ولديها ما يكفي من المعرفة بالمجتمعات ومن الخبرة العملية، والقادرة على استخدام نفوذها في الدوائر الوطنية والعالمية لتحقيق أهداف المنظمة"، بالإضافة إلى "مستوى عال من الصراحة وعدم تمثيل اقتناعات وطنية أو أحكام مسبقة، والمشاركة في تبني القيم الأخلاقية والثقافية الغربية".

ومن المؤشرات الأقوى دلالة على هذا الصعيد، ما ذكره العضو السابق في اللجنة التوجيهية، جورج ماك جي، لمؤلف كتاب عن سيرة حياة الأمير بيرنهارد: "بإمكاني القول إن معاهدة روما التي أدت إلى تأسيس الرابطة الأوروبية المشتركة، ولدت في هذه المؤتمرات".. وهي الرابطة التي أصبحت معروفة في هذه الأثناء باسم الاتحاد الأوروبي.

يرفض المحرر الإعلامي ماركوس كينابيل -وهو من مؤسسي "الإعلام البديل"- غياب التوجيه السياسي في نشأة منظمة بيلدربيرغ، ويستشهد بقول الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت "لا توجد مصادفة من وراء حدث سياسي، فعندما يقع يمكن الجزم بأنه وقع هكذا وفق ما خطط له"

ومن المؤشرات أيضا أن المشاركين في المؤتمر يتلقون في ختامه "تحليلا لمحتواه"، مع التأكيد أن عليهم العمل لتحقيق ما فيه من إستراتيجيات سياسية واقتصادية وغيرها، في مواطنهم.. وليس هذا أمرا بسيطا بمعيار "وزن" المشاركين وقدراتهم. ومثال على ذلك رؤساء المنظمة، وكانوا على التوالي: الأمير بيرنهارد الهولندي، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق دوغلاس هيوم، والرئيس الألماني الأسبق فالتر شيل، ورئيس مصرف ووربورغ البارون إيريك رول، والأمين العام الأسبق للحلف بيتر كارينغتون، وأحد أبرز رجال السياسة والمال في بلجيكا إيتيينه ديفجنون.

على هذه الخلفية يرفض المحرر الإعلامي ماركوس كينابيل -وهو من مؤسسي "الإعلام البديل"- غياب التوجيه السياسي في نشأة منظمة بيلدربيرغ، ويستشهد بقول الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت "لا توجد مصادفة من وراء حدث سياسي، فعندما يقع يمكن الجزم بأنه وقع هكذا وفق ما خطط له".

ويربط كينابل -ككثير من الناقدين سواه- بين مشاركة شخصيات بعينها في مؤتمرات بيلدربيرغ للمرة الأولى غالبا، واستلامها مناصب حساسة بعد ذلك بفترة وجيزة كالرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي فان رومبوي عام 2009، ورئاسة تسوليك للمصرف المالي العالمي عام 2007، وكذلك كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي باروسو وتريخيه وبرودي.. ويمكن تعداد المزيد ممن استلموا مناصب عليا عسكرية وسياسية ومالية بعد فترات وجيزة من حضور مؤتمرات بيلدربيرغ للمرة الأولى.

ولكن ربط التوقيت الزمني يكفي للتكهنات وترجيحها، ولا يكفي دليلا على أن المنظمة "حكومة خفية"، على الأقل حسب التصورات السائدة عن كلمة "حكومة".

ومن رافضي التكهنات تيري ميسان، من موقع فولتيير الفرنسي، فيورد ما يراه "حججا موضوعية" لنقض ما يعتبره وليد "فكر المؤامرة" أنها منظمة "تصنع الملوك"، ويقول إنها مجرد "لوب" يدعم حلف شمال الأطلسي وموقعه المهيمن عالميا.

والسؤال المطروح: أليست النتيجة واحدة، سواء وصف هذا التجمع الضخم من إمكانات النفوذ واستخدامها بأنه "لوب"، أو وصف بأنه "حكومة العالم الخفية"؟.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.