الكيان الصهيوني وعقدة الاعتراف بشرعية الوجود

صورة من موقع مركز العودة الفلسطيني وعليها بيان صحفي للمركز بشأن قبول عضويته في لجنة المنظمات غير الحكومية بالأمم المتحدة( (الجزيرة)
الجزيرة


على مدى أكثر من عشر سنين ولغاية كتابة هذه السطور، يمر المسافرون إلى المدن الأوروبية المختلفة انطلاقا من ثاني مطارات برلين "شونفيلد" عبر ممر يوزع على سبع بوابات صعود إلى الطائرات، ما يزيد عن عشرين إعلانا ترويجيا كبير الحجم تدعو للاشتراك في جريدة يومية تسمى "ويلت كومباكت" الداعمة لإسرائيل.

الملفت هنا هو تثبيت المضمون لذات المنتج الإعلامي بخبرين يتكرران في كل اللوحات، مصحوبين بصور محترفة لشخصيات معروفة ذات وزن سياسي ثقيل وضعت صورها بطريقة يختلط فيها الوجه الحقيقي بوجه طفولي، كالرئيس الأميركي السابق جورج بوش والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وبابا الفاتيكان السابق الألماني بنديكت السادس عشر.

الشاهد هنا أن أحد العنوانين هو "ميركل: على حماس أن تعترف بإسرائيل"، وفي تفصيله ينقل عن صانع السياسة الأول في الدولة "إذا لم تعترف حماس بإسرائيل ستقطع ألمانيا المساعدات عن السلطة الفلسطينية".

باعتبارها عضوا في لجنة الـ19 التي تعنى بقبول العضوية في طور الاعتماد النهائي من المجلس، تستخدم إسرائيل كل الأدوات الدبلوماسية بشكل مباشر وغير مباشر مع حملات إعلامية في عواصم العالم، في وجه تثبيت حق العوة، مع إبراز خطر اعتماد عضوية مركز العودة على وجود الدولة العبرية

فالرسالة إذن أن "دولة إسرائيل" تبحث عن اعتراف من حركة حماس الفلسطينية المصنفة ضمن القانون الأوروبي بأنها "إرهابية"، بل وتظهر إسرائيل مستجدية بطريقة تتطلب دعما غير محدود من رموز عالمية نافذة. فإلى أي حد تقود تلك الجهود إلى زيادة الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني؟

في 25 أبريل/نيسان الماضي عُقد مؤتمر فلسطينيي أوروبا الثالث عشر في العاصمة الألمانية أيضا. وكان من أهم أهداف هذا التجمع الذي يشارك فيه الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، التأكيد على التمسك بحق العودة، وأن بُعد الجغرافيا وتقادم الزمن لا يعنيان ضياع الحقوق.

شنت كل الصحف التابعة لدار نشر للصحيفة المذكورة آنفا، حملة تحريضية على منظمي المؤتمر كادت تحول دون انعقاده. ومما استخدمته التركيز على شعار مركز "العودة" الفلسطيني مؤسس المؤتمر والذي يعبر عن نفسه بخارطة فلسطين التاريخية.

ركزت الدعاية التحريضية على أن منظمي المؤتمر يستخدمون "خارطة دولة إسرائيل" كأنها تخص الشعب الفلسطيني، وهم بذلك لا يعترفون بوجود "دولة إسرائيل". وأصبح المؤتمر الشعبي الأهلي الفلسطيني مطالبا بالإجابة على سؤال صريح "هل تعترفون بدولة إسرائيل؟ وماذا تقصدون بالخريطة؟".

يتجلى المشهد وضوحا في ذات القضية في المعركة الدبلوماسية التي تدور رحاها منذ خمس سنوات في أروقة مباني الأمم المتحدة في نيويورك، بل ويتعدى ذلك إلى ردهات وزارات الخارجية في العديد من دول العالم المعنية. وعنوان المحاولات الإسرائيلية هو منع ذات المركز الفلسطيني المنادي بحق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا من مدنهم وقراهم عام 1948، من أن يحصل على العضوية الاستشارية في الأمم المتحدة كمنظمة غير حكومية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي المؤلف من 54 دولة، والذي يتم انتخابه دوريا.

وباعتبارها عضوا في لجنة الـ19 التي تعنى بقبول العضوية في طور الاعتماد النهائي من المجلس، تستخدم "إسرائيل" كل الأدوات الدبلوماسية بشكل مباشر وغير مباشر مع حملات إعلامية في عواصم العالم، وتستعين بحلفاء، وتنصب أفخاخا. وعِماد هذه الحملات: اللاجئون وحق عودتهم، وأخطار اعتماد عضوية مركز "العودة" على وجود "الدولة العبرية".

أي دولة هذه التي نجحت في أخذ اعتراف واضح من الأمم المتحدة سريعا بُعيد قيامها، وتملك ترسانة أسلحة نووية، ويأتيها المدد البشري والمادي من أنحاء المعمورة، ثم تجدها تملأ الدنيا صراخا وعويلا في طرح مسألة الاعتراف بها وطلب العون العالمي والضغط على هؤلاء "المساكين اللاجئين الفلسطينيين" والمنتشرين في العالم لكي يعلنوا صراحة ودون لبس اعترافهم بالدولة التي اغتصبت أراضيهم.

يزداد الغضب والهستيريا الصهيونية ويخرج عن كل الأعراف والبروتوكولات عندما يجد نفسه يخسر في الحالتين أعلاه، حيث فشل في منع انعقاد مؤتمر فلسطينيي أوروبا الثالث عشر الذي اختار له شعارا "فلسطينيو أوروبا والمشروع الوطني الفلسطيني" في العاصمة برلين.

أحد دوافع الحراك الصهيوني هو تنظيم مركز العودة مؤتمرات للفلسطينيين في أوروبا تنادي بحق العودة. وبدلا من أن ينكفئ المركز ويرتعد من التصنيف الإسرائيلي، نجده يمضي في برامجه كأن شيئا لم يكن، بل ويذهب بعيدا لكي يحاول أخذ عضوية في الأمم المتحدة

وانقلب السحر على الساحر، حيث حقق المؤتمر نجاحا باهرا في ما يمكن تصنيفه بالمستوى الإستراتيجي، وترسخ تيار العودة الشعبي في القارة الأوروبية، وحقق مؤشرات عالية في كافة المجالات، وأهمها حضور الرواية الفلسطينية في الإعلام الألماني، ومضامين تمسك فلسطينيي أوروبا بحق العودة، وحقهم القانوني والإنساني والسياسي في التعبير عن آرائهم وأفكارهم بل والعمل على تطبيقها.

ثم يفشل ممثلو الكيان فشلا ذريعا في الحالة الثانية بعد أسابيع قليلة من انعقاد مؤتمر برلين، حيث تقتنع 12 دولة من لجنة الـ19 الخاصة بالمنظمات غير الحكومية في جلسة انعقادها أول الشهر الجاري، بالتصويت بـ"نعم" لإعطاء مركز العودة الفلسطيني -ومقره لندن– عضوية استشارية كاملة ضمن لوائح المنظمات غير الحكومية في المنظمة الدولية الأعلى شأنا.

وتجد الصين وجنوب إفريقيا والسودان وباكستان وتركيا وموريتانيا وكوبا وفنزويلا وغينيا وإيران وأذربيجان أحقية للمركز ضمن القوانين المعمول بها في أن يحوز هذه المرتبة. وتنتهي الدولة الصهيونية وحيدة معزولة مع الولايات المتحدة وأورغواي في التصويت الرافض لمنح المركز الذي تأسس عام 1996 في العاصمة البريطانية، بينما امتنعت روسيا والهند واليونان وتغيبت بوروندي.

لم تكتف الدول الداعمة برفع اليد، بل بررت معظمها وبشكل معلن تصويتها، وهذا يعني الوعي الكامل بالحالة والموقف، وأن كل الحجج الإسرائيلية وكل الضغط داخل أروقة الأمم المتحدة وخارجها وصل حد نشر مقالات تحريضية على صفحة "فوكس نيوز" على الشبكة العنكبوتية، مفادها ربط مركز "العودة" بالإرهاب والعنف، ونعته بأنه لا يعترف بدولة "إسرائيل". كل ذلك لم يحل دون أن يعتمد المركز في المرحلة شبه النهائية.

هناك العشرات من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني التي انضمت إلى الأمم المتحدة، وبعضها أصبح مخضرما في هذا المجال خلال العقود الماضية، فما الجديد إذن في انضمام واعتماد المركز؟

تربط المؤسسة اسمها بفلسطين والعودة إليها، وإقرار ذلك الحق (حق العودة) الذي تعتبر معظم دول العالم أنه غير عملي، فوجود هذه المؤسسة يسمح للحوار وبشكل دائم حول حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وهذا ما لا تريده إسرائيل وتعتبره خطرا إستراتيجيا عليها.

مركز العودة من جانب آخر يتحدى دولة "إسرائيل" التي تضعه على قائمة الإرهاب على خلفية قرار وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك منذ مايو/أيار 2010.

ولعله من المهم الإشارة هنا إلى أن أحد مسوغات القرار الصهيوني هو قيام المركز بتنظيم مؤتمرات للفلسطينيين في أوروبا تنادي بحق العودة. وبدلا من أن ينكفئ المركز ويرتعد من التصنيف الإسرائيلي، نجده يمضي في برامجه كأن شيئا لم يكن، بل ويذهب بعيدا لكي يحاول أخذ عضوية في الأمم المتحدة.

نعتقد أن لدى الشتات الفلسطيني المنتشر في أكثر من مئة دولة، من الإمكانات ما قد يقلب المعادلة على المشروع الصهيوني، خاصة مع نشوء أجيال متمكنة من الحضور المحلي في مواطنها الجديدة وتحافظ في الوقت ذاته على هويتها الوطنية الفلسطينية المتبلورة وبشكل قوي

وهذا يعكس ثقة بالنفس في العمل للدفاع عن الحق الفلسطيني، أدخل المنظمة غير الحكومية مساحة دولية رغم الهجوم الصهيوني، بل ويدرُس المركز الملاحقة القانونية لإسرائيل لاتهاماتها الزائفة بحقه.

من شأن الاعتماد النهائي المأمول لمركز العودة الفلسطيني أواخر يوليو/تموز القادم من قبل مجلس الـ54 في الأمم المتحدة، أن يدخل المنظمات الأهلية الفلسطينية في الخارج مرحلة جديدة من النفاذية والتأثير على مفاصل القرار بخصوص القضية الفلسطينية، خاصة إذا ما عرفنا حجم المساحة المتاحة للمنظمات غير الحكومية ذات الصفة الاستشارية في الاستفادة من خدمات الأمم المتحدة وطرح رأيها في الجلسات الرسمية، وأن يكون لها مندوبون في كافة محافل المنظمة الدولية، وتقيم أنشطة وفعاليات على هامش الجلسات.

واضح من الحدثين في برلين ونيويورك، أن أقوى سلاح يملكه الشعب الفلسطيني هو بقاؤه متمسكا بحقه وعدم التنازل عنه حتى لو انعدمت سبل القوة عنده، وأن إرادة الكيان الصهيوني واللوبي الداعم له ليست قدرا مهما بلغ من القوة والجبروت، فهو رغم كل تلك القوة والجبروت يلهث في العالم لتثبيت شرعيته ويستدعي مسألة الاعتراف به في كل لحظة ومع كل حدث.

آن الأوان لكي يعمل الفاعلون في الساحة الفلسطينية على استخراج مخزون القوة لدى الشتات الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وحسب القوانين المحلية للبلدان التي يعيش فيها وبشكل سلمي. ونعتقد أن لدى الشتات الفلسطيني المنتشر في أكثر من مئة دولة في العالم من الإمكانات ما قد يقلب المعادلة على المشروع الصهيوني، خاصة مع نشوء أجيال متمكنة من الحضور المحلي في مواطنها الجديدة، وتحافظ في الوقت ذاته على هويتها الوطنية الفلسطينية المتبلورة وبشكل قوي.

بتنا على قناعة بأن من شأن مشاريع وبرامج وطنية عملية في كل مكان في العالم يوجد به فلسطينيون، سواء في الجوانب السياسية والقانونية والدبلوماسية والإعلامية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأكاديمية أو غيرها، أن تحدث فرقا تاريخيا وإستراتيجيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.