لحين تسمية الأشياء بأسمائها

أصيب شابان فلسطينيان على الأقل برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي أثناء مواجهات اندلعت خلال الساعات الماضية في مخيم قلنديا للاجئين شمالي مدينة القدس المحتلة.

 

ما يجري في فلسطين من جرائم بحق الإنسانية يظهر تواطؤا دوليا وصل حدّ ابتداع جرائم جديدة تمارس بصورة ممنهجة، وحدّ قبول تغيير المسميات والتعريفات القانونية المتفق عليها عالميا، والذي هو أخطر تحايل يجري في العالم لتبرير الظلم، بينما يتساءل العالم عن منابع التطرف.

والأسوأ الذي لا يُسأل عنه هو هذا "التطبيع" المتنامي مع كافة أشكال العنف الممارس علانية على مجاميع بشرية من مواطني دول جوار أوروبا، والذي لم يعتبر إرهابا وتطلق كل أجهزة الإنذار ضده إلا حين امتد بعضه لعقر دار الأوروبيين. والإشارة الوحيدة النزيهة -جاءت عابرة ومتسللة قبل احتوائها- هي لبعض من فرضوا مشاركتهم في مسيرة "كلنا شارلي" ممن لا تختلف سجلات ممارساتهم عن ممارسات المتطرفين الإسلاميين، بل تفوقهم خطرا لكونها ممنهجة وممأسسة.

وبما يقارب الغباء في درجة الكذب على الذات، يجري القفز عن حقيقة أن ما استنفر العالم الآن ليست جرائم القتل الجمعي الذي جرى للعاملين في الصحيفة الفرنسية -التي انفضّ عنها قراؤها الفرنسيون ذاتهم بعد ذلك- ولا حتى  تفجيرات باريس التي استهدفت مدنيين أبرياء في مراكز ثقافية. فمثل هذه الجرائم ارتكبت من قبل ومن بعد في أوروبا وفي أميركا من قبل أفراد -أو ما تسمى "ذئاب منفردة"- من مختلف الأصول العرقية والخلفيات الأيديولوجية والدينية، وبعقد نفسية مختلفة لم يفهم الأطباء النفسيون أغلبها ولم يفسروها.

الحديث عن مأساة اللاجئين لأوروبا هربا من أشكال قصوى من العنف جعلتهم يجازفون بوضع أطفالهم في "قوارب الموت"، ظل مجزوءا وانتقائيا في تطرق ساسة أوروبا له، ويركز على عنف المتطرفين الإسلاميين

ما بث رعب البشرية واستنفر العالم -تتقدمهم كبريات دُوله- هو أنه باتت لجماعة أو نوع محدد من التطرف ما يمكن تسميته "دولة"، على غياب بعض أهم أسس الدولة عنها، فكيف يجوز بعد ذلك -منطقيا- أن يُغفل إرهاب آخر له فعلا "دولة" (وأكثر من دولة حقيقة) ويجلس مندوبوها في الأمم المتحدة؟!  

فحتى الحديث عن مأساة اللاجئين لأوروبا هربا من أشكال قصوى من العنف جعلتهم يجازفون بوضع أطفالهم في "قوارب الموت"، على صدق الشعوب الأوروبية في تناوله، ظل مجزوءا وانتقائيا في تطرق ساسة أوروبا له، ويركز على عنف المتطرفين الإسلاميين. وقبلها جاءت إشارات محدودة تُكرّر بعض ما كشفته ثورات الربيع العربي من عنف أنظمة عربية في دفاعها عن سلطاتها المطلقة وريع فسادها، وحيث أمكن التستر على مثلها أسهم ساسة الغرب في إعطاء شهادات زور للأنظمة. 

وحين صعد "اللجوء" الشعبي ليصبح العنوان الرئيسي والمؤشر الأكثر مأساوية على حقيقة ذلك العنف، على اختلاف مصادره واختلاف الساسة في ما بينهم، لا حديث عن اللجوء الفلسطيني المتصل منذ أكثر من ثلثي قرن وليومنا هذا، والذي جلّه تهجير قسري بمجازر واعتقالات وتعذيب وأحكام جائرة، أو حتى السجن مفتوح الأمد دون حكم، وإن قبلت إسرائيل الإفراج عن ضحاياها تشترط تهجيرهم. 

ولا يمكن التعذر بكون هذا التهجير لشعب واحد حدثا قديما، فهو ليس قديما بل هو متواصل ليومنا هذا، مما يجعل جرمه مضاعفا وجرحه النازف أكثر خطرا. والآن تحديدا، توسع دارسون وصحفيون غربيون في البحث عن أسباب العنف والتطرف إلى حد فتح مواجع قديمة بالحديث عن مظالم الاستعمار الأوروبي للعالم العربي، ونقدر لهم هذا. ولكن ذلك الاستعمار انتهى قبل ثلثي القرن، وتقريبا كل العرب ممن أعمارهم دون الخمسين لم يشهدوا شيئا من جرائم الاستعمار البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي الذي حتم ثورات التحرير.

وهنا يتوسع بعض الكتاب الغربيين قليلا، فيشيرون إلى ما يمكن علاجه -ونشكرهم مضاعفا لهذا- وهو ما خلفه ذلك الاستعمار من أنظمة جائرة فاسدة لتسهيل استمرار مصالحه. وأبرز وأهم إقرار بمسؤولية الغرب هذه (كونه صادرا عن رئيس القوة الدولية الكبرى وكونه استبق المحللين الحاليين الذين تكاثروا بعد ظهور داعش) جاء في خطاب تنصيب أوباما بداية عام 2009، حيث أيد -جزئيا- مشروعية إقرار هذه المسؤولية، وهو أول من أقرّ أيضا "بخطأ" (بينما هو بالأحرى جريمة كبرى) أميركي وأووربي أحدث أثر فعلا في ظهور داعش، وهو حصار العراق وشن حرب احتلالية شرسة عليه وإعدام الرئيس صدام حسين.  

ولكن العجيب -وهو في الحقيقة ما سيفشل أي سعي جاد لاستئصال عنف التطرف- أنه لا حديث عن العنف "الإسرائيلي" في ذات المحيط الإستراتيجي الذي تغرف منه داعش الأتباع والمؤيدين، والذي لا يختلف في مجمله وتفاصيله عن عنف داعش.

فهو مثله عنف معلن، ويجمع مثله جرائم الحرب والاحتلال لجرائم تطرف ديني بذات قدر تطرف داعش، ويتجلى بذات السوية الأخلاقية للدواعش، وله "دولة" لا تسهّل ممارسته فقط، بل وتشارك فيه حكومةَ وأجهزة أمن وقضاء، وهو إرهاب ضد مدنيين (كامل الشعب الفلسطيني) من كافة الأعمار على امتداد أربعة أو خمسة أجيال، وصولا للأطفال والرضع، بل إن ذلك العنف تجاوز الفلسطينيين ليصل -قديما منذ بدايته وحديثا- لأغلب الشعوب العربية، وفي مقدمتهم الأردنيون واللبنانيون والسوريون والعراقيون والمصريون.

لو أمكن لواحد بالمئة من ضحايا إسرائيل في كل هذه الدول التقدم بشكاوى لمحاكم غربية، لأصبحت ما تسمى إسرائيل أقرب لجزيرة قراصنة لا يجرؤ قادتها على مغادرتها

ولو أمكن لواحد بالمئة من ضحايا إسرائيل في كل هذه الدول التقدم بشكاوى لمحاكم غربية، لأصبحت ما تسمى إسرائيل أقرب لجزيرة قراصنة لا يجرؤ قادتها على مغادرتها. وبالفعل، وبمجرد تسجيل قضية واحدة ضد تسيبي ليفني (وهي التي تعدّ معتدلة!)، وأخرى ضد نتنياهو، شهدنا كيف اضطرا لإلغاء رحلات عمل لأوروبا، وكيف لاذا بحصانة مؤقتة استصدراها لرحلة رسمية. وهذا الإرهاب الصهيوني جلبه للمنطقة -تحديدا- البريطانيون والفرنسيون، واقتطعوا له أرضا وأعانوه على إقامة "دولة" عليها، سجلوها له في الأمم المتحدة. 

ما اقترفته وتقترفه هذه "الدولة" من جرائم متصلة -منها التهجير القسري- بدأت تمهيدا لإقامة هذه "الدولة"، ولكنها لم تنته بقيامها، بل أصبحت جزءا من سياساتها، وهدفا من قيامها وليس فقط وسيلته. ولنبين هذا نتوقف عند جريمة حديثة سيزعم أنها من فعل "مرضى نفسيين"، وليس حتى "ذئاب منفردة"، كي يعفوا من العقاب، وهي قيام مستوطنين بإلقاء قنبلة مولوتوف داخل بيت عائلة دوابشة، بما أدى إلى موت الوالدين وطفلهما الرضيع حرقا، في حين أصيب طفلهما الآخر بحروق شديدة.

ومعروف أن الفاعلين ينتمون لعصابات من المستوطنين تسمي نفسها "تدفيع الثمن"، ليس لأن الأسرة ذاتها فعلت شيئا، بل لأن هناك مقاومة في الضفة المحتلة، مشروعة في كافة القوانين والأعراف الدولية للشعوب المحتلة أرضها. فكيف باحتلال "إحلالي" لكامل الوطن يجيز للمستوطنين -وبدعم وحماية جيش الاحتلال- إخلاء البيوت من أهلها والسكن فيها؟!

وكون الجريمة "منظمة" وليست فردية، تبين في حفل زفاف لمستوطنين باحتفال المدعوين بالتلويح بالسكاكين والبنادق والزجاجات الحارقة، وتم طعن صورة الرضيع الذي جرى حرقه، مرارا وتكرارا، وهم يغنون أغنية تقتبس من توراتهم دعاء "شمشوم" أن يقويه الرب لينتقم "من الفلسطينيين"، ولرفضهم الاعتراف بوجود "فلسطينيين" رغم ذكرهم في التوراة، هم يحرفون القول هنا لتصبح "من فلسطين"! والعروس إسرائيلية سبق أن أدينت لاعتدائها على فلسطينيين، مع زوجة أحد منفذي جريمة حرق عائلة دوابشة، فحكمت عليها بـ350 ساعة "خدمة مجتمع"، أي خدمة هذه المستوطنات وهؤلاء المستوطنين!

ولبيان أن حرق الأطفال الفلسطينيين نهج إسرائيلي، أذكّر بقصة الرضيع "عمّار" الذي ألقى مستوطنون قنبلة نابالم في بيته في ثمانينيات القرن الماضي؛ ردا على انتفاضة الحجارة، أو أن الانتفاضة قامت نتيجة ممارسات كهذه، وهو رضيع فحرق بدرجة شوهته كاملا.

القصة لم تنشر في عمان، ولكنني عرفتها عند زيارتي لعائلة عربية-أميركية في سان دييغو استضافت عمّار لعلاجه في منتصف تسعينيات القرن الماضي (حين كانت حكوماتنا تروج لإسرائيل المسالمة) بعد أن قامت -ومعها الجالية العربية في المدينة- بحملة إعلامية مكنت من إجراء عدة عمليات جراحية تطوعيّة له، فقط ليتمكن من استعمال أطرافه وليس لعلاج بقية تشوهاته. 

صورة الطفل السوري الغريق "إيلان" حركت العالم لإعانة اللاجئين السوريين، ولكن أطفال فلسطين ظلوا غير مرئيين، وصورة الطفل الفلسطيني عيسى المعطي (13 عاما) وهو مقيد في فراشه بالمستشفى وقدمه مبتورة لم تحرك العالم، بل قُصد بإحداث هذه الإعاقة ونشر هذه الصورة إرسال رسالة للفلسطينيين.

ففي حين نصت الأوامر الرسمية لجيش الاحتلال بإطلاق النار وقتل ملقي الحجارة الفلسطينيين، ما ينصح به صراحة الكاتب الصهيوني يعقوب عميدور في مقالة (صحيفة إسرائيل هيوم 13-11-2015) عنوانها "اجعلوهم معاقين لا أمواتا"، هو ألا يُقتل الفلسطينيون لأن هؤلاء يمجدون قتلاهم، بينما العالم يحشد ضد إسرائيل لارتفاع أعداد القتلى الفلسطينيين، ومثلها تحشد محاكماتهم. ويقول "لا توجد جنازات غفيرة للمصابين، وأسرّة المستشفيات ليست أماكن ملائمة للخطابات الرنانة والمُحرّضة.

هنا تكمن أفضلية المصاب على الميت. ويضاف إلى ذلك موضوع مهني ومفيد هو أنه يمكن التحقيق مع المصاب لمعرفة من أرسله، وإذا لم يرسله أحد يمكن معرفة دوافعه". 

والكاتب لم يبتدع هذا، هو فقط يذكر بما أمر به إسحق رابين (الذي يسيمه ساسة عرب كثر "رجل سلام") عند اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، من تكسير الأطراف بشدة لإحداث إعاقة. والطفل عيسى جرى إطلاق النار على قدمه -لحمله حجرا- برصاص "الدمدم المتفجر" المصمم لإحداث أكبر ضرر ممكن داخل الجسد، وهو سلاح محرم دوليا.

أمر إسحق رابين عند اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987 بتكسير الأطراف بشدة لإحداث إعاقة، وكذلك إحداث أكبر ضرر ممكن داخل الجسد، وهو سلاح محرم دوليا

وهذا يعيدنا لما بدأنا به مقالتنا من تلاعب بتسميات معتمدة إسرائيليا ويتم التواطؤ عليها دوليا لتغطي جرائم الإرهاب الإسرائيلي، تبدأ بتسمية جيشها، الذي تشكل من "العصابات" الصهيونية، "جيش الدفاع الإسرائيلي"! فكيف يظل هذا جيش دفاع بينما هو "محتل"؟! على الأقل لحظة تطأ قدم واحد منهم أرض الضفة الغربية أو غزة هو يصبح "محتلا" بتعريف الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، وحين يحاصر غزة أو يقصفها هو يصبح "معتديا"! وكيف يسمى المستوطنون على أرض محتلة في بيوت طرد منها أصحابها الذين توارثوها تاريخيا "مدنيون"، ليس فقط في النصوص السياسية حيث يضاف لوصفهم "أبرياء"! بل في نصوص قرارات دولية أيضا؟!

وكيف يسقط كل تعريف للطفل وللحدث من قواميس إسرائيل عند تعاملها مع الفلسطينيين، ويعود فجأة ليلصق تعريف القاصر باثنين ممن عذبوا وحرقوا أبو خضير بينما يقال إن الثالث "مضطرب نفسيا" لتبرئة الثلاثة من الجريمة البشعة. 

ويسقط الفلسطينيون في التسميات الإسرائيلية، أو يخضعون لها (وبعض رجال السلطة يتواطؤون عليها لإدانة المقاومة الفلسطينية)، بدءا بتسمية الأطفال "أسرى" كأنهم مجندون ألقي القبض عليهم في معركة بين جيشين، بينما هم حقيقة "مختطفون" من قبل جيش محتل، بل إن كل من يسمون أسرى -وتحديدا من يأخذون من مناطق يزعم أنها خاضعة للسلطة الفلسطينية- هم "مختطفون".

فالمفروض أن السلطة هي من يملك إصدار أمر الاعتقال والحجز يكون لديها، ولا يجوز تسليم مواطنيها للمحتل، ولكن حتى تسمية "السلطة" ليست سوى لعبة أخرى. لهذا، أصبح كل شاب وشابة يتحرك وحده، "خارج أي تنظيم"، ولكن حتما ضمن وعي شعبي يعرّف الأشياء بأسمائها، وهؤلاء سيلزمون العالم الذي تنادى لمكافحة الإرهاب بإعادة تعريفاته؛ فالفلسطينيون سبق أن أدخلوا في القاموس السياسي العالمي مصطلح "الانتفاضة".  

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.