جريمة باريس.. الصدمة والتداعيات

People gather in front of a memorial along a police cordon set-up close to the Bataclan concert hall on November 15, 2015, two days after a series of deadly attacks. Islamic State jihadists claimed a series of coordinated attacks by gunmen and suicide bombers in Paris on November 13 that killed at least 128 people in scenes of carnage at a concert hall, restaurants and the national stadium. AFP PHOTO / MIGUEL MEDINA

فرنسا صديقة العرب
فرنسا وربيع العرب
قادم التدخل الفرنسي
حدود المناورة

قد لا يسمح التلاحق السريع للأحداث في فرنسا منذ الهجوم الإرهابي الكبير الذي شهدته باريس يوم الجمعة 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري باستيفاء العناصر المكونة للحدث والمسببة له، لكن تداعيات الحادث على المشهد السياسي الفرنسي داخليا وخارجيا ستكون حتما كبيرة وعميقة.

لعل بوادر هذا التغيير تلمس على الأرض اليوم من خلال ردة الفعل العسكرية الفرنسية المباشرة على الحادث بتوجيه حاملة الطائرات الفرنسية شرق المتوسط من أجل المشاركة في قتال تنظيم الدولة الإسلامية الذي أعلن مسؤوليته عن الجريمة التي شهدتها باريس.

حاملة الطائرات الفرنسية هذه تحمل اسم الرجل الذي أرسى دعائم "السياسة العربية" لفرنسا والتي لا تزال قائمة إلى اليوم بعد رحيله.

فرنسا صديقة العرب
منذ نهاية مرحلة الاستعمار العسكري المباشر خلال أواسط القرن الماضي وتحديدا بعد استقلال الجزائر 1962 أرسى زعيم التحرير الفرنسي الجنرال شارل ديغول (1959-1969) أسس مرحلة جديدة من العلاقات العربية الفرنسية التي ستتواصل من بعده وإلى اليوم، وهي علاقة تتميز -رغم ما عرفته من الهزات والانتكاسات أحيانا كثيرة- بأنها نجحت في تجاوز طبيعة العلاقة الصدامية المتردية التي كانت تصل فرنسا بالعرب قبل تصفية الإرث الاستعماري مع استقلال الجزائر.

التقارب الفرنسي الروسي يوحده العامل الجيوسياسي التوسعي، خاصة بعد الجفاء الذي شهدته العلاقات الفرنسية الروسية على إثر ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وهو جفاء وصل إلى حدود إلغاء صفقات كبيرة بين البلدين، على رأسها صفقة حاملة الطائرات التي بيعت للنظام الانقلابي في مصر بعد أن رفضتها روسيا

بعد رحيل الجنرال عن السلطة عقب أحداث 1968 الشهيرة لم تخرج السياسة الفرنسية عن الخط الذي رسمه لها الأب المؤسس حيث حافظ خلفه جورج بومبيدو (1969-1974) ثم فليري جيسكار ديستان (1974-1981) على نفس الاتجاه.

وهو خيار غذاه عامل محوري تمثل في بروز العرب كقوة نفطية أساسية، خاصة على إثر الأزمة النفطية الكبرى سنة 1973 والتي أوجبت على الغرب إعادة تقييم العلاقات الدبلوماسية السياسية، والاقتصادية الإستراتيجية مع العرب ككل.

لكن الرئيس الديغولي جاك شيراك (1995-2007) يعتبر أفضل الشواهد الفرنسية على ترسيخ العلاقات بين العالم العربي وفرنسا، خاصة بعد رفضه المشاركة في الحرب الأميركية على العراق خلال القرن الماضي وما جابهه من مصاعب في الداخل الخارج بسبب موقفه من القضية الفلسطينية ومن الاحتلال الصهيوني للأرض العربية.

فرنسا وربيع العرب
أول المعطيات المنهجية في قراءة الموقف الفرنسي تتمثل في ضرورة التمييز داخل المشهد السياسي الفرنسي بين تيارات وقوى واتجاهات مختلفة لا تعبر كلها عن نفس الرؤية ولا تحكمها نفس المصالح ونفس شبكات التأثير، أي أن الحديث عن الموقف الفرنسي من هذه القضية أو تلك لا بد أن يأخذ في الاعتبار السياق السياسي والتيار المسيطر هذه المرحلة أو تلك رغم وجود ثوابت وطنية تقع عامة في سقف أعلى من السقف الحزبي الضيق.

فعلى الرغم من المآخذ العديدة التي قد يسجلها البعض على الدور الأوروبي عامة والفرنسي تحديدا خلال انفجار الثورات العربية -خاصة مع الثورة التونسية- فإن هذا الموقف قد شهد تعديلات عديدة خلال الموجة الانفجارية الأولى أو خلال التداعيات المتتالية التي أعقبتها.

الحزب اليميني الفرنسي بقيادة الرئيس ساركوزي 2007-2012 سارع إلى محاولة إنقاذ بن علي بناء على معطيات استخباراتية خاطئة وترجم ذلك بالجملة الشهيرة لوزيرة الدفاع آليو ماري "سنرسل الخبرة الفرنسية إلى تونس"، معبرة عن استعدادها لمساعدة نظام بن علي وإنقاذه من السقوط في حين كان الرأي العام الفرنسي مساندا لثورة 17 ديسمبر/كانون الأول.

أطاح سوء القراءة بالوزيرة الفرنسية، لكن فرنسا اليمينية سرعان ما وقفت موقف الحياد من الثورة المصرية قبل أن تعدل موقفها بالوقوف إلى جانب الثورة الليبية والمساعدة في الإطاحة بنظام القذافي الذي كان يستعد لدك مدينة بنغازي بالأسلحة الثقيلة.

كانت فرنسا الرسمية وحتى الشعبية منذ البداية إلى جانب الثورة السورية واقترحت فكرة مؤتمر أصدقاء سوريا، كما استقبلت وجوها بارزة للمعارضة السورية وصولا إلى أمواج من اللاجئين اليوم.

لكن تطور الثورة السورية من السلمية إلى النزاع المسلح بعد أن بدأ النظام في سحق المتظاهرين بالأسلحة والغازات المحرمة دوليا وتطور الوضع السوري إلى صراع إمبراطوري إقليمي ودولي على النفوذ في ما بعد سقوط الأسد دفعا الإليزيه إلى إعادة مراجعة موقفه بناء على تطورات الميدان ودخول لاعبين جدد إلى ساحة المعركة بشكل مباشر.

قادم التدخل الفرنسي
الرد الفرنسي على هجمات باريس كان سريعا على المستوى العسكري، حيث أرسلت فرنسا تعزيزات عسكرية لمنطقة النزاع وعلى رأسها حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول، لتساهم في العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة، خاصة في قصف معقله بمدينة الرقة السورية.

إذا كان من الصعب أن تجازف فرنسا بمصالحها في المنطقة العربية وأن تندفع في ردة فعل انتقامية ضد عدو مجهول فإن هذه العلاقة بالعالم العربي ستتأثر تأثرا بالغا بقدر تستفيد منه أبرز الكيانات المتمددة في المشرق العربي، أي
المشروعان الصهيوني والصفوي

التقارب الفرنسي الروسي يوحده العامل الجيوسياسي التوسعي، خاصة بعد الجفاء الكبير بينهما جراء ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وهو جفاء وصل إلى حدود إلغاء صفقات كبيرة بين البلدين، على رأسها صفقة حاملة الطائرات التي بيعت على إثر ذلك للنظام الانقلابي في مصر بعد أن رفضتها روسيا.

اليوم يبلغ التنسيق العسكري الروسي الفرنسي أعلى مستوياته من خلال توحيد علني لجهود الحرب العسكرية وسط تضارب للتصريحات بين رئيس الجمهورية الذي يصر على رحيل الأسد وبين وزير الخارجية الذي يلمح لإمكانية الإبقاء على النظام ورأسه في إطار صفقة روسية إيرانية فرنسية، وهو تضارب قد يفهم في إطار محاولة توسيع هامش المناورة السياسية للدولة ككل وإبقاء كامل الخيارات مفتوحة بما يمكنه من أن يصب في مصالح الدولة العليا.

في تصريحاته الأخيرة أعلن وزير الدفاع الفرنسي لودريان على موجات الأثير الفرنسي أن الحرب على تنظيم الدولة ستكون طويلة وشاملة، وأن ثلاث جبهات للحرب ستفتح من أجل "محاربة الإرهاب"، وهي الجبهة الأفريقية بمالي والساحل الأفريقي، والجبهة السورية بالمشرق العربي، والجبهة الداخلية داخل فرنسا.

هذا المستوى المرتفع لسقف الخطاب العسكري تقابله على الأرض حدود هامش الفعل والحركة لأن فرنسا لا تتحرك إلا داخل الإطار الذي يرسم حدوده حلف شمال الأطلسي، خاصة بعد انضمامها الرسمي لقيادة هذا الحلف في فترة الرئيس ساركوزي.

لكن التقارب الأخير مع موسكو عقب اعتداءات باريس، وتوحيد الجهود العسكرية بعد مرحلة الجفاء الطويلة بين باريس والكرملين يعدان إعلانا صريحا عن تحول عميق في طبيعة التحالفات والمحاور العسكرية والسياسية القديمة.

قد تدفع المعطيات الجديدة فرنسا إلى تعديل سياستها العربية التي لم تبق منها غير الصفقات والعسكرية والتجارية لتقترب من المنوال الأميركي في "الحرب على الإرهاب" وردة فعله على "أحداث الـ11 من سبتمبر" وهو الاسم الذي أطلق في الصحافة الفرنسية على الاعتداءات الأخيرة باعتبارها نسخة فرنسية عن الهجوم الأميركي.

حدود المناورة
إذا كان من الصعب أن تجازف فرنسا بمصالحها في المنطقة العربية وأن تندفع في ردة فعل انتقامية ضد عدو مجهول يختلف في تركيبته الحالية عن تنظيم القاعدة عندما كان متحصنا في جبال أفغانستان سنة 2001 فإن هذه العلاقة بالعالم العربي ستتأثر تأثرا بالغا بقدر تستفيد منه أبرز الكيانات المتمددة في المشرق العربي أي المشروعان الصهيوني والصفوي.

ثم إن المقاربة الفرنسية للاعتداءات الإرهابية تختلف عن المقاربة الأميركية التي تدخل في إطار التوظيف لصالح مشروع إمبراطوري استعماري يهدف إلى السيطرة على مصادر الطاقة وتأمين طرقها، هذا المشروع لا يمثل مطلبا فرنسيا رسميا أو شعبيا رغم محاولة قوى أخرى إيهام فرنسا بذلك والسعي لجرها إلى المستنقع التوسعي عبر إحياء الحلم الإمبراطوري وهو ما قد يكون الدافع الحقيقي وراء من خطط للهجمات الوحشية الأخيرة.

لكن الدرس العراقي الذي أنهك الأميركيين وفتح الباب أمام التمدد الإيراني وفجر الخلايا الإرهابية وجماعات العنف لتنتشر في كامل المنطقتين المشرقية والمغربية وتمتد ضرباتها إلى قلب أوروبا لن يشجع الفرنسيين على المغامرة المهلكة بالتورط في عمليات عسكرية طويلة المدى قد تلحق بها وباقتصادها وبصورتها في العالمين العربي والإسلامي ضررا كبيرا تكون التنظيمات الإرهابية أول المستفيدين منه.

يبقى تهديد السياسة الفرنسية العربية صادرا عن داخل الطيف الحزبي الفرنسي وتحديدا من طرف حزب الجبهة الوطنية المتطرف، وهو الذي حقق خلال السنوات الأخيرة اختراقا نوعيا في الحياة السياسية الفرنسية وأصبح المستفيد الأول من كل الأزمات التي تشهدها البلاد

هذا إضافة إلى أن هامش الحركة الفرنسي محكوم بضوابط عديدة داخليا وخارجيا ولا يعتمد على انفعالات استعراضية وعنتريات إمبراطورية كما تعبر عنهما ردود الأفعال الأميركية والروسية بل هو مضبوط أوروبيا بإطار الاتحاد الأوروبي ومحكوم أطلسيا بحلف ناتو ومقيد أساسا برأي عام فرنسي وقوى مدنية هي الأنشط في أوروبا والعالم.

لكن سياسيا يبقى تهديد "السياسة الفرنسية العربية" صادرا عن داخل الطيف الحزبي الفرنسي وتحديدا من طرف حزب الجبهة الوطنية المتطرف، وهو الذي حقق خلال السنوات الأخيرة اختراقا نوعيا في الحياة السياسية الفرنسية وأصبح المستفيد الأول من كل الأزمات الداخلية والخارجية التي تشهدها البلاد.

إن رسوخ نوعية الرد الفرنسي تجاه الصدمات متمثل في استنهاض الوحدة الوطنية ومنع كل استثمار أو توظيف سياسي لمصائب الأمة الفرنسية كما رأينا ذلك عقب اعتداءات صحيفة شارلي إيبدو الأخيرة، فوصول حزب متطرف إلى السلطة لن يمنع تغيرا جذريا وجوهريا في السياسية العربية الفرنسية في ظل أزمات اقتصادية خانقة.

هذا التوجه قد يذكيه من زاوية أخرى استمرار تشرذم الصف العربي بشكل لا يسمح بالتعويل عليه في منطق التحالفات الدولية، وهو ما استفادت منه إيران وتركيا بشكل كبير وحققتا عبره نجاحات كبيرة رغم اختلاف الوزن والفعل الإستراتيجي لكلتا الدولتين.

إذا كان من الصعب التكهن بقادم تحركات القوى العالمية على الساحة العربية فإن الثابت على الأقل هو أن الطرف الأضعف اليوم هو القوى العربية التي يتحتم عليها وجوديا توحيد الرؤى من أجل تفعيل المحاور الجديدة الآخذة في التشكل مشرقيا من أجل إيقاف النزيف المتواصل في جسد الأمة وقواها الحية.

المحور العربي التركي الجديد قد يشكل حجر الأساس لإعادة صياغة موقف عربي ثابت يدفع مصائب الغزو والتمدد ويحافظ على المكاسب الإستراتيجية للأمة بما فيها علاقاتها التاريخية مع القوى العالمية والدولية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.