اغتيال ثورة

Egyptian demonstrator wave the national flag and shout slogans during a protest in Alexandria on January 25, 2013. Huge crowds are expected to demonstrate in Egypt on the second anniversary of the revolution that ousted Hosni Mubarak and brought in an Islamist government, as political tensions simmer and economic woes bite. AFP PHOTO/STR
الفرنسية


الأحداث الجسام التي تعيشها مصر منذ فترة طويلة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن القوى الثورية في هذا البلد قد أخطأت عندما لم تواصل مسار ثورتها حتى إنهاء حالة التبعية للولايات المتحدة وإسقاط نهج كامب ديفد.

وحادت تلك القوى عن طريق الصواب لأنها لم تسع نحو فض الشراكة الإستراتيجية بين قادة الجيش المصري والبنتاغون، تلك الشراكة التي ورطت مصر في مستنقع التبعية لواشنطن ومثلت تهديدا بالغ الخطورة للأمن القومي المصري، وهو الأمر الذي ظهر جليا في أعقاب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.

وجانب الصواب تلك القوى أيضا عندما دبت خلافات وانقسامات حادة بينها فور تنحي الرئيس الأسبق مبارك تتعلق بأولوية صياغة دستور للبلاد قبل العملية السياسية أم بعدها، وهو الخلاف الذي استثمره المجلس العسكري، وأصدر تعديلاته الدستورية الشهيرة بمباركة جماعة الإخوان والتيار الإسلامي.

شكلت تعهدات المجلس العسكري لواشنطن ضمانة للمجلس تتيح له التدخل بالشؤون السياسية للدولة حال إخلال القيادة السياسية المنتخبة من قبل الشعب بالضمانات التي قدمها المجلس العسكري للولايات المتحدة، وهو ما مهد للانقلاب لاحقا

وأدت تلك التعديلات لإذكاء جذوة الخلافات بين شركاء الثورة ومزقتهم إربا وبددت وحدتهم، واستثمر المجلس العسكري تلك الانقسامات في الانتقام من القوى الثورية عبر حملة اغتيالات وتصفيات جسدية في ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية.

وتوج المجلس العسكري بعد ذلك هذا الانتقام بانقلاب الثالث من يوليو/تموز ٢٠١٣ الذي استهدف من خلاله العمود الفقري للثورة المصرية، أعني جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها، منهيا حكم الرئيس محمد مرسي أول رئيس لمصر بعد ثورة ٢٥ يناير.

وكانت بداية الفخ الذي نصبته قوى الثورة المضادة المدعومة أميركيا وصهيونيا للقوى الثورية هي قبول تلك القوى الثورية تنازل الرئيس مبارك عن السلطة للمجلس العسكري.

وتحالف المجلس العسكري بعدها مباشرة مع الإخوان والإسلاميين، وافتعل هذا التحالف خلافا حول الدستور مع بقية القوى الثورية، وفي ظل هذا الخلاف انفردت القوى الأمنية ببقية القوى الثورية واعتدت عليها لتعمق الانقسام بين الثوار.

ولا بد أن نشير هنا إلى أن تنازل مبارك عن السلطة للمجلس العسكري وتفويض صلاحياته إليه وموافقة القوى الثورية مجتمعة على ذلك يؤكد بما لا يدع مجال للشك أن تلك القوى تحملت كل التبعات السياسية والاقتصادية والعسكرية لنظام حسني مبارك.

ولولا قبول القوى الثورية هذا التفويض لما كان وضع مصر وصل إلى ما وصل اليه الآن، ولما كانت واشنطن تمكنت مع حلفاء لها من التآمر على الثورة المصرية ودعم انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 الذي أنهى التجربة الديمقراطية بمصر، وكان من أهم أسباب تفشي عمليات العنف والإرهاب والفوضى في المنطقة الآن.

وللأسف فلقد استغل المجلس العسكري تلك الشرعية التي منحه إياها مبارك بموافقة الثوار لكي يسوق للولايات المتحدة الإخوان والتيار الإسلامي كقوى رئيسية ثورية حليفة له مؤهلة للوصول إلى السلطة، إلى جانب تقديم المجلس العسكري حزمة من الضمانات للولايات المتحدة بالحفاظ على كامب ديفد والعلاقات الإستراتيجية بين مصر وواشنطن، وبالتالي أيقنت الإدارة الأميركية أن الثورة المصرية استهدفت الخلاص من أشخاص وليس تغيير سياسات.

وقد شكلت تعهدات المجلس العسكري لواشنطن ضمانة للمجلس تتيح له التدخل في الشؤون السياسية للدولة حال إخلال القيادة السياسية المنتخبة من قبل الشعب بالضمانات التي قدمها المجلس العسكري للولايات المتحدة.

لا يمكن لأي ضابط في الجيش المصري أن يتولى موقعا قياديا بارزا دون تلقيه التدريبات في الولايات المتحدة، وعندما وقع الانقلاب العسكري في مصر كان وزير الدفاع الأميركي يهاتف نظيره المصري يوميا بعد وقوعه

وهذا هو الذي حدث عقب تولي الرئيس محمد مرسي منصبه، فقد حرص مرسي على أن يتبنى سلام كامب ديفد باردا مع إسرائيل، وحرص على ألا يذكرها بالاسم في كل خطاباته وأحاديثه وكلماته، وعلى أن يستقبل قادة المقاومة الفلسطينية ويصلي بهم جماعة، وأعلن بوضوح رفضه للتبعية وحرصه على استقلال القرار المصري وسعيه لأن تنتج مصر ما تحتاجه من أسلحه وأدوية وأغذية، كما سعى لتنويع مصادر السلاح.

تلك السياسة من قبل الرئيس محمد مرسي جعلت الصهاينة والأميركيين يشعرون بالخوف ويضعون أياديهم في أيادي قوى الثورة المضادة بمصر، ولذلك تلاقت أجندتهم مع أجندة قادة الجيش المصري الذين سبق أن ضمنوا للأميركيين والصهاينة مصالحهم في مصر والمنطقة ونفذوا الانقلاب العسكري.

ولذلك يعتبر القادة الذين قاموا بالانقلاب في مصر أنصار الديمقراطية والرئيس الذي وقع عليه الانقلاب محمد مرسي إرهابيين، ولأول مرة في تاريخ مصر يرفع الجيش سلاحه ضد شرائح مدنية مسالمة من أبناء الشعب الرافضين للانقلاب، وتطور الأمر إلى استخدام طائرات الأباتشي وإف16 ضد أهالي سيناء.

ويصدر أهل الانقلاب بالقاهرة مزاعمهم حول الإرهاب للعالم في محاولة منهم لإضفاء شرعية تمكن قادة الانقلاب العسكري من أن يهدروا دم وحريات المصريين، لكن ما الذي جعل الجيش المصري يغير إستراتيجيته القتالية ويعطي ظهره للعدو لكي يقتل شرائح من أبناء الشعب المصري؟
من المهم أن نشير هنا إلى أن الولايات المتحدة ومنذ ٢٦ مارس/آذار ١٩٧٩ (تاريخ إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية) أمدت مصر بما قيمته 71.6 مليار دولار من المساعدات متعددة الأوجه، بما في ذلك 1.3 مليار دولار معونات عسكرية سنوية تصرف للجيش المصري منذ العام 1987 حتى الآن.

وبهذا ضمن الجيش المصري إمدادا منتظما من السلاح الأميركي دون إخلال بميزان القوى المرتبط بأمن أميركا وإسرائيل مع تبني القاهرة وجهة نظر الإدارة الأميركية لقضايا المنطقة، بالإضافة لتسهيلات لوجستية تتعلق باستخدام الولايات المتحدة الأجواء المصرية وقناة السويس.

ولذلك، فمنذ توقيع اتفاقية كامب ديفد وقادة الجيش المصري يتلقون تدريباتهم في الولايات المتحدة على أيدي خبراء من البنتاغون بعد أن تم طرد جيل أكتوبر من الجيش وحل محله في قيادة القوات المسلحة هؤلاء القادة الذين غسلت كوادر "سي آي أي" أدمغتهم بأفكار المارينز والتي يتعلق بعضها بأن السلام خيار إستراتيجي، وأن إسرائيل هي الصديق ومن يهدد أمنها هو العدو، وأن التطرف الإسلامي هو الخطر على المنطقة برمتها.

ولا يمكن الآن لأي ضابط في الجيش المصري أن يتولى موقعا قياديا بارزا دون تلقيه تلك التدريبات في الولايات المتحدة، ولذلك عندما وقع الانقلاب العسكري في مصر كان وزير الدفاع الأميركي يهاتف نظيره المصري يوميا بعد وقوعه، كما اعترف عبد الفتاح السيسي في إحدى المقابلات الصحفية.

ورأينا كيف تحقق حلم البنتاغون في إقناع قادة الجيش المصري بعد الانقلاب بالتركيز على شراء معدات مكافحة الإرهاب والتدريب عليها أكثر من المعدات القتالية التقليدية لأن أحد مصادر قلق البيت الأبيض هو الأمن في شبه جزيرة سيناء.

تجني واشنطن ثمار الأموال التي أنفقتها على الجيش وقادته منذ توقيع اتفاقية كامب ديفد، حيث نجحت في تغيير عقيدته القتالية لصالح الأجندة الخاصة لقادته، وللأمن القومي الإسرائيلي بعيدا عن الأمن القومي المصري

ويعد ذلك اعترافا واضحا بأن الهدف من منح مصر مساعدات عسكرية هو أن يتحول الجيش المصري عن مواجهه التحديات الإستراتيجية للبلد إلى العمل الشرطي ويبتعد عن المهام القتالية التقليدية.

ومن خلال ما سبق نستنتج أن الثورة التي حدثت في مصر يوم ٢٥ يناير/كانون الثاني ٢٠١١ أفشلتها الولايات المتحدة بالتنسيق مع القيادة العسكرية في القاهرة، مستغلة عدم وعي الثوار وحسن نواياهم.

بطبيعة الحال تتحمل واشنطن المسؤولية كاملة عن هذا التحول الخطير في العقيدة القتالية للجيش المصري، وتوجيه سلاحه لأبناء الشعب عقب ثورة يناير 2011، حتى وإن كان بين المواطنين من يخرج على القانون ويتهم بالإرهاب فلا يجوز بحال من الأحوال أن يتولى الجيش التعامل معهم بدل الشرطة، وبالعنف بدل القانون.

وهذا يعني أن واشنطن تجني ثمار الأموال التي أنفقتها على الجيش وقادته منذ توقيع اتفاقية كامب ديفد، ونجحت في تغيير عقيدته القتالية لصالح أجندة قادته الخاصة والأمن القومي الإسرائيلي وضد الأمن القومي المصري.

والخلاصة هي أن محصلة التعاون العسكري المصري الأميركي أن الجيش المصري أصبح الآن ولأول مرة في تاريخ مصر لا يتردد في توجيه سلاحه لأبناء الشعب وبكل بشاعة.

أخيرا من المهم أن نشير إلى أن أي تحركات تستهدف استرداد ثورة ٢٥ يناير وشرعيتها والمسار الديمقراطي في مصر يجب عدم التعامل معها بمعزل عن ضرورة الحرص على إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على القرار العسكري والسياسي بمصر وإسقاط كامب ديفد، ولن يتحقق ذلك إلا عبر استقلال حقيقي لمصر في شتى المجالات، مع العلم أن منطق الثورات دوما لا يحمي المغفلين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.