انكماش النخبة السياسية المصرية

السيسي: هجمات سيناء تمت بدعم خارجي

فقر نخبوي
عسكرة النخبة
ظاهرة عالمية

كشفت كل من ثورة يناير/كانون الثاني 2011 والموجة الثورية التصحيحية الملحقة بها في نهاية يونيو/حزيران 2013 وما تمخضتا عنه من استحقاقات سياسية مصيرية، عن فقر مدقع وانكماش لافت في النخبة السياسية المصرية بشتى مكوناتها ومختلف مشاربها السياسية والفكرية.

فقر نخبوي
يتجلى انكماش النخبة المصرية في ملامح شتى، من أبرزها:

أولا: غياب الكوادر والكفاءات المؤهلة لتحمل المسؤولية، سواء لنقص في تلك الكوادر أو لهجرة بعضها إلى الخارج، أو لامتناع بعضها الآخر عن قبول المناصب، الأمر الذي اضطر السلطات الحالية إلى تعيين عدد من نواب المحافظين وسكرتيري عموم المحافظات محافظين في حركة المحافظين الجديدة، استنادا إلى خبرتهم الطويلة في العمل بالإدارة المحلية.

وقد تفشت بعد الحراك الثوري ظاهرة عزوف العديد من الشخصيات العامة عن تولي الوزارات أو قبول المناصب الرسمية التي تخول الاضطلاع بمهام صعاب وجسام لإعادة بناء البلاد سياسيا واقتصاديا وأمنيا خلال المرحلة الانتقالية، حتى إن كثيرين صاروا يتباهون برفض وزارات ومناصب حكومية تنفيذية رسمية عرضت عليهم غير مرة.

وقبل أيام، أكد وزير التنمية المحلية أن عشرة محافظين طالبوه بالتدخل لدى رئيس مجلس الوزراء لإعفائهم من مناصبهم -قبل إعلان حركة المحافظين الجدد- بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد عقب ثورتيْ ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، وعدم وجود اعتمادات مالية لتحقيق مطالب المواطنين.

ثانيا: فشل النخبة السياسية المصرية في سلسلة الاختبارات التي تعرضت لها، كثورة يناير التي سبقها الشارع إلى تحريكها بينما أخفقت هي في إدارتها واستيعابها وابتكار الآليات الكفيلة باستكمال مسيرتها وإنجاحها، فعلى خلاف الأدوار والمهام التي رسمها علماء الاجتماع السياسي الذين تناولوا النخبة والصفوة بالدراسة والبحث (من أمثال أفلاطون وسان سيمون وموسكا وباريتو وروبرت دال)، افتقرت النخبة المصرية إلى المبادرة والإبداع مكتفية بردود الأفعال التي لم ترْق إلى مستوى الحدث.

خلاف الأدوار والمهام التي رسمها علماء الاجتماع السياسي الذين تناولوا النخبة والصفوة بالدراسة والبحث، افتقرت النخبة المصرية إلى المبادرة والإبداع مكتفية بردود الأفعال التي لم ترْق إلى مستوى الحدث

ثالثا: عجزت النخبة السياسية عن استغلال الفعل الثوري لتحقيق حلم الديمقراطية المزمن والمستعصي عبر وضع البلاد على طريقها الصحيح، بعدما ظهر بجلاء أن تلك الديمقراطية لم تكن تمثل أولوية قصوى بالنسبة لهذه النخبة، التي تخلت عنها تحت وطأة ضغوط متنوعة وذرائع من قبيل محاربة الإرهاب واستعادة هيبة الدولة وإنعاش الاقتصاد. ومن ثم لم تتورع عن الاعتراف بعجزها عن خوض الاستحقاق البرلماني، بل والمطالبة بإرجائه إلى أجل غير مسمى جراء عدم جاهزيتها له.

رابعا: الخلل البنيوي والفكري لدى النخبة السياسية المصرية، والذي تجلى في عجزها عن هندسة عمل سياسي رصين وفعال ومتوازن. فما إن تسنت لها المشاركة في إدارة الدولة -بعد طول إقصاء- حتى طفقت تتبنى خطوات سياسية وتصوغ قوانين منافية للدستور، الأمر الذي تمخض عن سيل من الأحكام القضائية التي قضت بعدم دستورية البرلمان والدستور وعدد من القوانين والتشريعات.

خامسا: إخفاق النخبة السياسية في تأطير علاقة تكاملية بينها وبين الجماهير، إذ انتقلت من الاستعلاء وممارسة الوصاية قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 إلى تزلف الشارع وممالأته بعدها، ثم ما لبثت أن عادت إلى الاستعلاء مرة أخرى بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، حيث عاودت احتقار الشارع وتملق الجيش والسلطة الجديدة طمعا في استرضائها واغتنام عطاياها. الأمر الذي عزز أزمة الثقة بين النخبة والجماهير.

وعديدة هي العوامل التي أدت إلى ذلك الانكماش في النخبة السياسية المصرية، ولعل أهمها:

تجفيف نظام مبارك لمنابع التجنيد السياسي طوال عقود؛ فإلى جانب التدهور الممنهج في أنظمة التعليم والتدني الفاجع في منظومة القيم والتربية وغياب إستراتيجية واضحة لبناء الشخصية، عمد الرئيس المخلوع (حسني مبارك) وحزبه المتداعي إلى إقصاء كافة القوى السياسية من شتى المشارب الفكرية والإيديولوجية.

كما آثروا الانفراد بالسلطة وتأبيد استحواذهم عليها، بل واحتكار دور الحكومة والمعارضة في آن بغية سد السبل أمام ولوج أية قوة سياسية أخرى دائرة النظام السياسي، سواء عبر أروقة السلطة أو من خلال منابر المعارضة، الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى منع دوران النخبة السياسية، بمعنى انفتاحها أمام دخول عناصر جديدة إلى صفوفها وعدم انغلاقها على أعضائها، فضلا عن تقويض فرص إعداد صف ثان وثالث من الكوادر والقيادات التي يمكن الاعتماد عليها في إدارة شؤون البلاد، واستكمال عملية التحول الديمقراطي والبناء المؤسسي للجمهورية الجديدة.

ونتيجة لذلك، استسلمت الوسائط السياسية (من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وجمعيات أهلية) للوهن والتبعية والاختراق المتواصل من قبل أجهزة النظام الأمنية، حتى تحولت بمرور الوقت إلى كيانات تعوزها الفاعلية وتفتقر إلى الكوادر المدربة الجاهزة والراغبة في تحمل المسؤولية، إضافة إلى ارتضائها طوال عقود لعب دور المعارضة الشكلية والمستأنسة فقط من دون جاهزية لتداول السلطة وتجشم مغامرة الحكم، لا سيما بعدما أدت الثورة إلى ضياع هيبة الوزراء مع تعاظم المسؤوليات وتفاقم الأزمات، وازدياد حدة النقد للمسؤولين مع ارتفاع سقف حرية التعبير وكذا توقعات الجماهير من حكومات زمن الثورة.

وقد زادت من وهن الطبقة السياسية أيضا هشاشة نخبة الثورة بالتزامن مع إقصاء الإسلاميين، وسعي رموز نظام مبارك للعودة إلى المشهد السياسي بطرق شتى، مستغلين حالة الفراغ السياسي وتعاظم قدراتهم التنظيمية والمالية والدعائية، إضافة إلى تهيئة دستور عام 2014 الأجواء لعودة نظام ما قبل الثورة إلى المشهد السياسي، حينما أزال القيود القانونية والدستورية التي تكبل تلك العودة، إذ لم يتضمّن أيّة نصوص متعلقة بالعدالة الانتقالية أو بتقييد عودة رموز نظام مبارك.

كان من شأن الانكماش النخبوي بمصر أن أسفر عن تنامي عدم الاستقرار الحكومي على نحو ظهر في ارتفاع معدل التغيير في الحكومة والوزراء، حيث تم توزير ما يربو على 150 سياسيا وأكاديميا في مدة لا تتجاوز 40 شهرا، مما يشي بعدم الاستقرار السياسي والافتقار إلى الكوادر والكفاءات السياسية والإدارية

وكان من شأن ذلك الانكماش النخبوي أن أسفر عن تنامي عدم الاستقرار الحكومي على نحو ظهر في ارتفاع معدل التغيير في الحكومة والوزراء، حيث تم توزير ما يربو على 150 سياسيا وأكاديميا منذ حكومة الفريق أحمد شفيق -التي جاءت مع بدايات ثورة يناير- وحتى حكومة المهندس إبراهيم محلب الحالية، وهي الفترة التي لا تتجاوز 40 شهرا، مما يشي بعدم الاستقرار السياسي والافتقار إلى الكوادر والكفاءات السياسية والإدارية.

عسكرة النخبة
ربما تعاني أغلبية دول العالم الثالث من تراجع نخبها السياسية المدنية في مواجهة صعود النخب العسكرية، أو ما يطلق عليه في علم الاجتماع السياسي "النخب المتحولة"، أي التي انتقلت من الخدمة في الجيوش إلى العمل السياسي، سواء جراء انقلابات عسكرية أو ثورات شعبية رفعتها إلى سدة السلطة أو من خلال اعتزالها العمل العسكري وانخراطها في العمل السياسي، الأمر الذي يمهد السبيل أمام تلك النخب العسكرية لتعاطي السياسة بل وتصدّر سدة السلطة.

ومثلما فتح ضعف النخبة المدنية المصرية الباب على مصراعيه أمام هيمنة النخبة العسكرية على السلطة طوال عقود منذ ثورة يوليو 1952، أفضى وهن النخب الثورية المدنية حاليا -بالتزامن مع تعثر الأداء السياسي لنخبة الإسلام السياسي- إلى إعادة النخبة العسكرية إلى صدارة المشهد السياسي مجددا، رغم تواضع مستوى تسييسها هذه الأيام مقارنة بمثيلتها قبل عقود ستة خلت.

وربما لم تكن مصر بدعا من دول المنطقة في هذا الصدد، فقد عزز إخفاق الإسلام السياسي (بشقيه السني والشيعي) وضعف النخب العلمانية الدورَ السياسي للنخب العسكرية على المستوى الإقليمي.

ففي تركيا على سبيل المثال، بدأ الجيش مؤخرا يتأهب لاستعادة دوره السياسي -الذي توارى عدة سنوات بسبب مساعي وجهود رجب طيب أردوغان لإبعاده عن السياسة- بعدما جنح هذا الأخير لنسف ثمار تلك الجهود عبر الاستعانة بالعسكر في مواجهة المعارضة السياسية العلمانية والحركات الإسلامية المنافسة له، خصوصا جماعة فتح الله غولن.

وقد شهدت إيران ردة مماثلة حسب الباحث والكاتب الإيراني كريم ساجد بور الذي أكد -في مقال له نشرته صحيفة" لكسبريس" الفرنسية أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول المنقضي- أن إيران لم تعد أوتوقراطية دينية بقدر ما صارت أقرب إلى نظام استبدادي عسكري، خصوصا بعدما تفاقم وزن قوات الحرس الثوري -على الصعيدين الاقتصادي والسياسي- على حساب دور الحوزة الدينية.

وعلاوة على ما سبق، يلاحَظ أنه كلما اقتربت الدولة العربية جيوستراتيجياً من إسرائيل زاد حضور المكون الأمني والعسكري للعملية السياسية في هذه الدولة، ومن ثم لم يكن مستغربا وجود أدوار محورية للنخب العسكرية في مصر ودول المشرق العربي (سوريا والعراق والأردن) على خلاف الحال في دول المغرب العربي، كتونس مثلا التي تسنى لها أن تخطو خطوات وثابة على طريق التحول الديمقراطي، بعد أن كان لها السبق في إطلاق شرارة الحراك الثوري العربي.

مع استمرار هذا الوضع، قد لا يجد المصريون بُدا من المضي في مسارين متوازييْن: أولهما، إعادة بناء وهيكلة النخبة المدنية ودمقرطتها. وثانيهما، العمل على "مدْينة" النخبة العسكرية بانخراط رجالاتها في دراسة علوم مدنية فضلا عن تطعيمها بكفاءات مدنية ديمقراطية

ومع استمرار هذا الوضع، قد لا يجد المصريون بُدا من المضي في مسارين متوازييْن: أولهما، إعادة بناء وهيكلة النخبة المدنية ودمقرطتها. وثانيهما، العمل على "مدْينة" النخبة العسكرية بانخراط رجالاتها في دراسة علوم مدنية كالإدارة والاقتصاد والقانون والعلوم السياسية، فضلا عن تطعيمها بكفاءات مدنية ديمقراطية. 

ظاهرة عالمية
ليس من قبيل المبالغة القول إن "فقر النخب السياسية" المدنية قد أضحى ظاهرة عالمية بامتياز. ففي معرض إقراره بأزمة انكماش تلك النخب عالميا، أورد الكاتب والمحلل السياسي الأميركي توماس فريدمان مقولة موحية مؤداها أنه: "عبر مختلف النظم السياسية في عالم اليوم، هناك نقص خطير في المعروض من الكوادر والقادة السياسيين"؛ فقد كان الرجل يشير إلى عدم توفر الكوادر والقيادات السياسية القادرة والراغبة في تجشم معاناة المسؤولية والاضطلاع بمهام إدارة الدول والمؤسسات.

ففي أغلبية الديمقراطيات الغربية، يتجلى غياب القيادات والكوادر السياسية المتميزة، حتى إنه لم يعد هناك من خيارات أمام الناخبين سوى تجربة عناصر شابة حديثة الخبرة.

وفي إسرائيل، اضطر الناخبون مؤخرا -تحت وطأة غياب الزعامات الكبرى- للرهان على بنيامين نتنياهو رغم حماقته وفشله الذريع اللذيْن أتاحا للفلسطينيين تحقيق مكاسب دبلوماسية دولية لافتة على طريق استعادة حقوقهم المسلوبة، إذ انتخبوه لرئاسة حزب الليكود توطئة لانتزاعه ولاية رابعة ومتتالية كرئيس للوزراء، إذا فاز حزبه في الانتخابات التشريعية المبكرة المزمع إجراؤها في 17 مارس/آذار المقبل، وتشكيل ائتلاف حكومي جديد على إثرها.

وبالتوازي مع ذلك وعلى خلفية الحروب العالمية المستعرة ضد الإرهاب؛ بدأت الدول الديمقراطية تشهد تناميا لأدوار النخب الأمنية والعسكرية في صنع القرارات على الصعيدين الداخلي والخارجي, هذا في الوقت الذي يتعرض فيه العديد من دول العالم الثالث لموجة من عسكرة نظم الحكم فيها مع قيام الجيوش بانقلابات عسكرية للإطاحة بنخب مدنية والاستيلاء على السلطة بدلا منها، إذ شهدت الشهور القليلة المنقضية عددا من تلك الانقلابات في كل من تايلند، وبوركينا فاسو، وليسوتو، وصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة قبل أيام في غامبيا.

ومما استرعى الانتباه في هذا السياق، أن واشنطن -مثلما هو دأبها في مناسبات سابقة مشابهة حول العالم- لم تكن بمنأى عن جُل هذه الانقلابات، حيث وُجّهت لها اتهامات إما بالضلوع فيها أو دعمها أو على الأقل مباركتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.