ثلاثة ملفات مؤجلة تنتظر الحسم

هل تتحد أيدي القوى الوطنية من جديد؟

لا نستطيع في مصر أن ندخل مطمئنين إلى العام الجديد ما لم نطهّر الجراح التي خلفها العام الذي سبقه.

(1)

شجعني على إطلاق هذه الدعوة أن الرئيس عبد الفتاح السيسي أعطى إشارتين مهمتين في حديثه إلى رؤساء الصحف القومية الثلاث (الذي نشر يوميْ 29 و30 ديسمبر/كانون الأول 2014). الأولى دعا فيها إلى ترميم الجراح قائلا: كفانا عنفا وتمزقا. والثانية تحدث فيها عن أنه طلب من وزير الداخلية إجراء مراجعة شاملة للمقبوض عليهم لإطلاق سراح الأبرياء منهم.

صحيح أن هذا الكلام قيل في سياق حديث مطول حول الآمال المعقودة على العام الجديد، إلا أنني اعتبرت أن ما قيل ينم -في حده الأدنى- عن إدراك للملفات العالقة المرحّلة من عام 2014، والتي تحتاج إلى مراجعة ترفع المعنويات وتعيد إلى كثيرين شعورهم بالثقة والأمل في العام الجديد.

وإذ توفِّر لنا مثل هذه الرسائل على اقتضابها بصيصا من الأمل نتعلق به، إلا أن ذلك البصيص لا يلبث أن ينهزم ويخبو بممارسات تتم على أرض الواقع، تبدو وكأنها تمضي في اتجاه معاكس تماما.

ذلك أنه في 31 ديسمبر/كانون الأول (بعد يوم واحد من نشر الحوار) أطل علينا جرح جديد حين أعلن رئيس جامعة الأزهر أنه تم فصل أكثر من خمسين طالبا من الجامعة اتهموا بإثارة الشغب، وفي اليوم التالي مباشرة -الذي هو أول أيام العام الجديد- نشرت الصحف أن مجلس الوزراء وافق على تعديل قانون الجامعات بما يجيز فصل عضو هيئة التدريس في ثلاث حالات هي: التحريض على العنف والشغب، وممارسة الأعمال الحزبية، والإقدام على أي فعل يزدري شرف وظيفته أو يمس نزاهة وكرامة مهنته.

لا أستبعد أن يكون مجردَ مصادفة تزامنُ مثل هذه الإجراءات مع نهاية عام واستهلال عام جديد، إلا أن المرء يُعذر إذا انتابته الحيرة والبلبلة جراء ذلك، بما يسحب من رصيد تفاؤله بالعام الجديد، وهو ما يضعنا أمام أحد خيارين: فإما أن نستسلم للهزيمة فنكتئب ونغرق في مستنقع اليأس والتشاؤم، وإما أن نقاوم ونصرّ على التعلق بأسباب التفاؤل بمواصلة دق الأجراس والإلحاح على تطهير الجراح لتصويب المسيرة واستعادة العافية.

وللأسف فإن الاستسلام لليأس أصبح أكثر أمانا في حينٍ يظهر فيه أن مقاومته قد تكون باهظة التكلفة، لأن بيننا أصواتا عالية ومنابر مؤثرة يريحها ويسرها إبقاء الجراح مفتوحة كما هي، غير مكترثة بما قد يخلفه ذلك من تقيحات ومرارات تصيب الوطن بعاهات يصعب البرء منها

وللأسف فإن الاستسلام لليأس أصبح أكثر أمانا في حينٍ يظهر فيه أن مقاومته قد تكون باهظة التكلفة، لأن بيننا أصواتا عالية ومنابر مؤثرة يريحها ويسرها إبقاء الجراح مفتوحة كما هي، غير مكترثة بما قد يخلفه ذلك من تقيحات ومرارات تصيب الوطن بعاهات يصعب البرء منها.

(2)

رغم أن المصارحة في محاولة مقاومة اليأس والتشاؤم لا تخلو من مغامرة، فإنه لا مفر منها. ذلك أنه لا أحد يستطيع أن يقلل من أهمية الجهد الذي بذله آخرون لتسليط الأضواء على تحديات العام الجديد وملفاته، سواء ما تعلق منها بالاقتصاد والطاقة والمياه أو ما خص الانتخابات التشريعية التي هي من مكملات خريطة الطريق التي سبق إعلانها في يوليو/تموز 2013.

لكن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته من سكوت أغلب الأصوات على ملف الحريات العامة الذي هو أحد أهم الملفات المرحّلة من العام السابق. ذلك أن التراجع في مستوى الحريات أصبح حقيقة لا يستطيع أن ينكرها كل ذي عينين، وللأسف فإن القانون أصبح أحد أخطر الأساليب التي استخدمت للتضييق على الحريات وليس ضمانها أو حمايتها.

وإذا كنا قد قرأنا في اليوم الأول من العام الجديد خبر تعديل قانون الجامعات بما يجيز فصل أعضاء هيئة التدريس، فإن تلك الخطوة تعد حلقة في المسلسل المحزن الذي توالت حلقاته الأخرى على مدى العام، وكلها تمضي في ذات الاتجاه الذي يضيّق على المجتمع ويحاصره، فقد فوجئنا مثلا باستعادة إجراءات الطوارئ بغير إعلان. وهو ما أعادنا إلى وضع أسوأ من قانونها الذي سقط.

إذ المعلوم أن الطوارئ تعلن لمواجهة ظرف استثنائي ولأجل يفترض أن ينتهي بانتهاء ذلك الظرف، إلا أن تعديل مدة الحبس الاحتياطي وجعله مفتوحا لأجل غير معلوم وليس للمدة التي حددها القانون، يفرض الوضع الصادم الذي صرنا إليه، إذ بمقتضاه أصبح الاستثناء قاعدة، ومن ثم فإننا انتقلنا من وضع سيئ إلى وضع أسوأ، وصرنا كمن تجنب حفرة ليقع في بئر!

تعديل قانون الإجراءات الجنائية وإطلاق مدة الحبس الاحتياطي صدر به قرار جمهوري من المستشار عدلي منصور في شهر سبتمبر/أيلول عام 2013، وفي الشهر التالي مباشرة صدر قانون تقييد التظاهر الذي طُعن فيه لمخالفته الدستور، وكان له دويه في أوساط الشباب الذين أصبحوا ضحاياه في وقت لاحق.

في الاتجاه ذاته صدرت قوانين أخرى في عام 2014، أحدها تعديل المادة 78 من قانون العقوبات الخاصة بالتمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية. وهو التعديل المعيب والعجيب الذي قيد الحصول على التمويل النقدي والدعم المادي وأية أشياء أخرى (سُمي في معرض انتقاده "قانون الأشياء الأخرى"!). وعاقب المخالفين بعقوبة تصل إلى الإعدام على جرائم غامضة مثل الإخلال بالسلم العام. وهو ما اعتبر محاولة لتكبيل النشاط السياسي والمدني وتضييق مساحة العمل العام.

وفي هذا الإطار صدر قانون توسيع اختصاص القضاء العسكري بحيث فرض ولايته على كل مساس من جانب أي أحد بالأماكن الحيوية، من الطرق والكباري (الجسور) إلى محطات المترو والجامعات. وليس بعيدا عن ذلك الإنذار الذي تم توجيهه إلى منظمات حقوق الإنسان واستهدف إخضاعها للموافقات الأمنية وتحكم السلطة في أنشطتها. وفي الطريق أيضا قانون الكيانات الإرهابية الذي يشكل سيفا مصلتا على رقاب أي نشاط عام لا ترضى عنه السلطة. وإذا أضفنا إلى القائمة تعديل قانون الجامعات السابق الذكر فإن الصورة تصبح أكثر وضوحا.

الشاهد أننا صرنا إزاء حزمة قوانين مكبلة للنشاط العام وتمثل عبئا ثقيلا على ملف الحريات العامة التي كان إطلاقها على رأس أهداف ثورة 25 يناير 2011. وترتب على ذلك مثلا أن سبع منظمات حقوقية مصرية انسحبت من المشاركة في الاستعراض الدوري لملف حقوق الإنسان في مصر (الذي نظمه في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بجينيف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة).

وأعلنت هذه المنظمات أنها أقدمت على ذلك لكي تتجنب الابتزاز والانتقام من جانب السلطات الأمنية. وفي أعقاب ذلك نقل مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان جميع برامجه الإقليمية والدولية من مصر إلى تونس بحثا عن الأمان، وذكر في بيان أصدره أنه أقدم على تلك الخطوة بسبب ما أسماه "التهديدات المتواصلة على منظمات حقوق الإنسان في ظل إعلان الحرب على المجتمع المدني".

يطول بنا الحديث إذا تطرقنا إلى قرائن تراجع مؤشر الحريات العامة في مصر، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل بين تلك القرائن دلالة وقف حلقات باسم يوسف (البرنامج)، ومنع مسلسل "أهل الإسكندرية" لبلال فضل الذي اضطر إلى مغادرة البلاد والإقامة في نيويورك، كما لا نستطيع أن نغفل دلالة اختفاء وجوه عدد من الإعلامين المحترمين

يطول بنا الحديث إذا تطرقنا إلى قرائن تراجع مؤشر الحريات العامة في مصر، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل بين تلك القرائن دلالة وقف حلقات باسم يوسف (البرنامج)، ومنع مسلسل "أهل الإسكندرية" لبلال فضل الذي اضطر إلى مغادرة البلاد والإقامة في نيويورك، كما لا نستطيع أن نغفل دلالة اختفاء وجوه عدد من الإعلامين المحترمين مثل ريم ماجد وحمدي قنديل ويسري فودة وأمثالهم، وهو ما يعد تعبيرا عن ضيق الصدر حتى بالأنصار الذين كانوا ضمن الذين خرجوا في 30 يونيو، فما بالك بحظوظ المخالفين.

(3)

بعد ملف الحريات العامة العالق، يأتي ملف المصالحة الوطنية الذي لم يفتح منذ عام 2013 وحتى الآن. وكان الحرص على تحقيق تلك المصالحة أحد بنود "خريطة الطريق" التي قدمها الفريق آنذاك عبد الفتاح السيسي في البيان الذي ألقاه في الثالث من شهر يوليو/تموز في ذلك العام. وفيه أعلن عزل الدكتور محمد مرسي من منصبه الرئاسي، وكان من بين الإجراءات التي دعت إليها الخريطة: "شكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات".
 
ولم يقف الأمر عند حدود تعطيل ذلك النص وتجميده طوال ثمانية عشر شهرا حتى الآن، وإنما أصبح مصطلح المصالحة بحد ذاته محل استنكار من جانب المنابر الإعلامية وأغلب النخب وحتى الأحزاب السياسية، ومن ثم فإن الدعوة التي أطلقتها خريطة الطريق حوّلها الاستقطاب والخطاب الإعلامي الملوث إلى فكرة مستهجنة ومصطلح خادش للنقاء السياسي.
 
والمدهش في الأمر أن السهام المسمومة أصبحت تتسارع في الانطلاق بمجرد ذكر الكلمة. وقبل التعرف على شروط المصالحة وبنودها التي قد تتم لصالح الطرف الغالب والأقوى، ومن المفارقات في هذا الصدد أن الرئيس التونسي الجديد باجي قايد السبسي قال -في أول خطاب له بعد حلفه اليمين الدستورية- إنه لا مستقبل لتونس دون مصالحة. وقد أبرزت بعض الصحف المصرية تلك العبارة على صفحاتها الأولى صبيحة اليوم الأول من شهر يناير/كانون الثاني الحالي، وفى حين وردت العبارة على لسان الرجل -الذى هو سياسي مخضرم ومحنك- فإن نقيضه تماما صار العنوان الحاكم للوضع القائم في مصر، إذ غدت الممارسات مستلهمة طوال الوقت شعار: لا مستقبل دون مخاصمة!، وهو شعار يستبطن دعوة إلى الإبادة السياسية وترحيبا بالإبادة غير السياسية.
 
أدري أن مجرد الإشارة إلى المصطلح يعرض صاحبه للاتهام والتجريح من جانب مليشيات الإبادة السابقة الذكر، لكنني أزعم أن تجاهل الملف يعد من قبيل دفن الرؤوس في الرمال، فضلا عن أن الإبقاء على الوضع الراهن كما هو لا يعد حلا للإشكال، ولكنه يظل مصدرا دائما لتهديد الاستقرار والسلم الأهلي، أما الادعاء بأن باب الحديث في الموضوع قد أغلق وعلى كل طرف أن يدبر حاله بعد ذلك، فهو يعد نوعا من العبث والحمق السياسي، لأن المشروعات التي تنطلق من رؤية فكرية أيا كان رأينا فيها لا تشطب بقرار ولا تقتل بمدرعة، ولا يتم إعدامها بحكم محكمة مهما بلغ جبروتها.
 
إن المطلب المتواضع الذي يعيد بصيص الأمل يتمثل في الدعوة إلى الالتزام بما نصت عليه خريطة الطريق بخصوص تشكيل اللجنة العليا للمصالحة الوطنية، بشرط واحد هو أن ترفع عنها يد الأمن، ولا تشكل من المخبرين العاملين أو المنتسبين
إن المطلب المتواضع الذي يعيد بصيص الأمل يتمثل في الدعوة إلى الالتزام بما نصت عليه خريطة الطريق بخصوص تشكيل اللجنة العليا للمصالحة الوطنية، بشرط واحد هو أن ترفع عنها يد الأمن، ولا تشكل من المخبرين العاملين أو المنتسبين، بحيث تكون عضويتها ممثلة حقا للنخب الوطنية من كل الاتجاهات، كما ورد في نص خريطة الطريق.
 
وإذا قال قائل إن محاولات للمصالحة بذلت في السابق ولم تنجح، فردي أستقيه من عبرة فكرة أميركية خلاصتها أنه إذا تكرر رسوب الطلاب في الصف الدراسي فإن اللوم ينبغي أن يوجه إلى الأستاذ وليس التلاميذ. لماذا؟ لأن تكرار الرسوب يعني أنه فشل في أن يستخلص من الطلاب أفضل ما فيهم. وإذا طبقنا الفكرة على الحجة السابقة الذكر فإنها تبطلها وتشير بإصبع الاتهام إما إلى أداء السلطة والعرض الذي قدمته، أو إلى فشلها في مخاطبة الطرف الآخر المستعد للتفاهم والراغب فيه.

(4)

عودة السياسة هو عنوان ثالث الملفات العالقة والمرحّلة من العام المنصرم، وأعني بعودة السياسة إثبات حضور المجتمع ممثلا في المؤسسات المستقلة والمنتخبة لكي يمارس حقه في المشاركة والمساءلة. وفي هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن ذلك الباب ظل مغلقا منذ الثالث من يوليو/تموز عام 2013. وحتى الانتخابات التي كان مقررا لها أن تتم في نهاية ذلك العام فإنها قد تجرى في أوائل الصيف القادم (عام 2015)، ومن ثم فقد استقر في يقين البعض أن السلطة القائمة منحازة إلى الحلول الأمنية وعازفة عن الحلول السياسية، وذلك انطباع عدد من المثقفين المحترمين.

وأحدث ما قرأته في هذا الصدد مقالة للدكتور وحيد عبد المجيد استهلها بقوله إن "نظام الحكم الحالي في مصر لا يؤمن بأهمية السياسة" (المصري اليوم: 2/1). وهو معنى تردد في كتابات آخرين غير الدكتور وحيد أذكر منهم الدكاترة مصطفى كامل السيد وأحمد عبد ربه وعمرو الشوبكي وعمرو حمزاوي وآخرين ربما غابت عني أسماؤهم.

قد يرى البعض أن ذلك الأمل مشكوك في تحقيقه إذا ما تم انتخاب البرلمان المقبل، إلا أن البرلمان يظل أحد منابر المشاركة وعودته وحده لن تعيد السياسة، لأن العودة الحقيقية لن تتحقق إلا برفع سقف الحريات العامة وإلغاء وصاية المؤسسة الأمنية على مختلف مؤسسات المجتمع المدني، من أحزاب إلى منظمات حقوقية ونقابات ومجالس محلية. إضافة إلى استعادة استقلال الجامعات والقضاء والإعلام، فضلا عن فك الارتباط بين العسكر والسياسية.

إنني لا أريد أن أقلل من أهمية الملفات والعناوين الأخرى التي رشحها البعض ضمن أجندة السنة الجديدة. لكنني أتمنى أن نفرق بين ما هو ضروري للتقدم وبين ما هو عاجل لرأب التصدعات والحفاظ على قوام المجتمع وعافيته، لكي يكون مهيأ للتقدم. وأزعم أن مثل تلك الملفات العالقة التي أشرت إليها من جنس ما هو عاجل ولا يحتمل التسويف أو الانتظار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.