نيجيريا وقصة خلافتين

In this photo taken from video by Nigeria's Boko Haram terrorist network, Monday May 12, 2014 shows the alleged missing girls abducted from the northeastern town of Chibok. The new video purports to show dozens of abducted schoolgirls, covered in jihab and praying in Arabic. It is the first public sight of the girls since more than 300 were kidnapped from a northeastern school the night of April 14 exactly four weeks ago. (AP Photo)
أسوشيتد برس

خلافة الدولة "العثمانية"
خلافة بوكو حرام
ما العمل؟

لا شك أن إعلان زعيم بوكو حرام، أبو بكر شيكاو، في 24 أغسطس/آب 2014 قيام دولة الخلافة بمدينة جوزا في الشمال النيجيري يمثل نقطة فارقة في تطور الأصولية الجهادية بالغرب الأفريقي.

لقد جاء في الإعلان الذي أذيع مسجلا "أيها الناس، أنا أبو بكر شيكاو، زعيم جماعة السنة للدعوة والجهاد فيما يسمى نيجيريا. إننا لا نعترف باسم نيجيريا، لأننا في دولة الخلافة الإسلامية. وعليه فإن نيجيريا لا تعني شيئا بالنسبة لنا".

وسرعان ما ذهب بعض الباحثين إلى المقارنة بين إعلان دولة الخلافة في نيجيريا وإعلان "داعش" الخلافة في العراق وبلاد الشام باعتبارهما تعبيرا عن فكر الأصولية الإسلامية المعاصرة ولاسيما تلك المرتبطة بفكر ومنهج تنظيم القاعدة.

ترتبط دولة الخلافة الأولى في الشمال النيجيري بحركة الجهاد الإسلامي التي قادها الشيخ عثمان بن فودي (1754- 1817) فقد وجد الشيخ في مقاربته للواقع الذي يعيشه المسلمون في بلاده أن الهوّة واسعة بين هذا الواقع وبين المجتمع المثالي المنشود

على أن قلة من المهتمين والكتاب هم الذين أثاروا سؤال السيرة التاريخية وأصول الفكر الجهادي في نيجيريا وغرب أفريقيا. ولعل ذلك هو ما طرحه أستاذنا الكبير حلمي شعراوي في أطروحاته حول الفكر الجهادي في أفريقيا.

وعليه فإننا سوف نحاول في هذا المقال إبراز نوع من المقارنة عبر التاريخ بين تجربتين للخلافة الإسلامية في الشمال النيجيري، الأولى دولة الخلافة العثمانية بقيادة عثمان بن فودي والثانية إعلان خلافة بوكو حرام. فما هي أوجه الشبه والاختلاف بين التجربتين وتداعيات ذلك في المستقبل المنظور؟

خلافة الدولة "العثمانية"
ترتبط دولة الخلافة الأولى في الشمال النيجيري بحركة الجهاد الإسلامي التي قادها الشيخ عثمان بن فودي (1754- 1817). لقد وجد الشيخ في مقاربته للواقع الذي يعيشه المسلمون في بلاده أن الهوّة واسعة بين هذا الواقع وبين المجتمع المثالي المنشود.

وربما يرجع ذلك إلى أمرين رئيسيين أولهما شيوع البدع والممارسات غير الصحيحة للإسلام. وثانيا: عدم العدالة الاجتماعية. لقد أضحى الإسلام في المعتقد الشعبي العام مجرد طقوس وممارسات تبعد كل البعد عن صميم الدين. فانتشرت الخرافات والبدع، وانغمس كثير من المسلمين في ممارسات فاسدة وجاهلية. ولم تقتصر هذه الممارسات على المجال الخاص أي حياة الفرد والعائلة ولكنها امتدت لتشمل المجال العام أي في إطار المعاملات والحياة العامة.

ولم يكن هدف الشيخ عثمان وأتباعه إلا إعلاء الإيمان بالله والتمسك بالدين، وليس السلب والنهب تحت شعار الجهاد. وعليه فإنهم لم يعتمدوا على الجهاد وحده في نشر الإسلام، بل سلكوا طريق الدعوة في أغلب الأحوال، ولم يلجؤوا للجهاد بالقوة إلا عند الضرورة. لذلك كتب الشيخ عثمان إلى ملوك الهوسا يبين لهم موقفه ليكونوا على علم، وذكر لهم أنه عازم على إحياء السنة المحمدية، وإخماد البدعة الشيطانية.

وقد كان الشيخ عثمان صوفيا قادريا حيث تأثر بكتابات علماء الصوفية المالكية أمثال الإمام أبو عبد الله محمد بن الحاج صاحب كتاب المدخل، والشيخ أبو العباس أحمد الأزرق مؤلف كتاب قواعد التصوف. وكثيرا ما استشهد الشيخ عثمان بكتابات ابن عربي ليس على سبيل النقد ولكن الموافقة.

لقد ركَّز عثمان بن فودي في أسلوبه الدعوي على استخدام أمرين مهمَّيْن: أولهما التركيز على موضوع المرأة في النموذج الإسلامي باعتبارها إحدى ركائز دعوته الإصلاحية. وقد كان الشيخ سابقا لعصره حيث عمد إلى تأليف رسالة في الحث على تعليم المرأة سماها "كتاب تنبيه الإخوان على جواز اتخاذ المجلس لتعليم النسوان" (مطبوع في سوكوتو بطريقة التصوير، دون تاريخ)، ودافع فيه عن حق المرأة في تعلم شؤون دينها.

وعليه فقد أسهمت الكثير من السيدات المسلمات في حركة النهوض تلك التي قادها الشيخ عثمان ولاسيما ابنته أسماء. أما الأمر الثاني فتمثل في استخدامه الشعر والموشحات الدينية بالطريقة الشعبية المعروفة في تلك البلاد والمحببة إلى القلوب، وقد كان الشيخ مبدعا في تأليف العديد من القصائد والموشحات ذات المضمون الأخلاقي والعلمي والإرشادي الراقي باللغات المحلية.

ومن الملفت للنظر حقا في فكر ابن فودي أنه كان يركز على البعد الاجتماعي، بمعنى أنه نظر إلى الممارسات الفاسدة وغير الصحيحة باعتبارها مفضية إلى الكفر، ورغم ذلك لم يهتم بقضية تكفير الناس. فالعقيدة عنده ليست غاية في حد ذاتها وإنما الغاية هي وجود مسلم تشكله هذه العقيدة.
ولا شك أن هذا الموقف من قضية التسامح في التعامل مع المجتمع قد أعطى بعدا إيجابيا بنّاءً لمفهوم الإيمان والكفر. فهو يرى أن عدم الإيمان تظهره الأعمال وليس النوايا أو ما وقر في القلوب.

وقد حذر مرارا وتكرارا من اتهام المسلمين بالكفر أو تكفير المجتمع كله. وتلك إحدى الخصائص المهمة التي تميز الفكر الإصلاحي لعثمان بن فودي، والتي تميزه أيضا عن بعض الحركات الإصلاحية التي ظهرت بعد ذلك في القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي نادت بجاهلية المجتمع وكفره وضرورة إقامة الدولة الإسلامية بالقوة.

خلافة بوكو حرام
يلاحظ أن هذه الخلافة الثانية في الشمال النيجيري اعتمدت على تبني رؤية ضيقة للإسلام، حيث رأت في التعليم الغربي كفرا وانحرافا عن صحيح الدين الإسلامي، ويؤدي في المحصلة النهائية إلى إضعاف المجتمع الإسلامي.

انتقلت بوكو حرام من مرحلة حرب العصابات إلى مرحلة إعلان الدولة وإقامة مملكتها الإسلامية بعيدا عن المجتمع الكافر الذي لا تعترف به. ولاشك أن اختيار جوزا، وهي مدينة حدودية بين نيجيريا والكاميرون، يعني إمكانية توسع الحركة ووصولها إلي دول الجوار الجغرافي

وعلى الرغم من اختلاف السياق التاريخي للخلافتين، فإن أيديولوجية بوكو حرام استندت إلى ثلاث ركائز. أولها: تحريم التعامل مع مؤسسات الدولة القائمة لأنها فاسدة وكافرة، فالنظام المصرفي يقوم على أساس الربا، والإسلام يحرم الفائدة. كما أن الضرائب والقوانين الوضعية الأخرى مثل قوانين الأراضي تخالف شرع الله.

أما الركيزة الثانية فتتمثل في تحريم التعليم الغربي لأنه غير إسلامي ويخالف تعاليم الإسلام. وعلى سبيل المثال السماح بالاختلاط بين الأولاد والبنات في المؤسسات التعليمية أو القول بنظرية النشوء والارتقاء التي ترى أن أصل الإنسان يرجع إلى فصيلة القرود.

وتتمثل الركيزة الثالثة في فكر جماعة بوكو حرام في الهروب من كل هذه الرذائل التي يموج بها المجتمع الكافر والهجرة إلى مواقع بعيدة ومنعزلة عن المدن.

وقد اتخذت بوكو حرام منذ عام 2009 اتجاها تصعيديا خطيرا تجاه الدولة النيجيرية "الكافرة"، ثم سرعان ما لبثت وأن أعلنت عن تكفير المجتمع نفسه وهو ما تمثل في عمليات قتل بعض الأمراء التقليديين في الشمال النيجيري واختطاف الطالبات في أبريل/نيسان 2014، والتهديد ببيعهن في سوق النخاسة، على أن إعلان الخلافة في مدينة جوزا بولاية بورنو يمثل تحولا مهما في تاريخ الصراع مع الدولة النيجيرية.

لقد انتقلت الجماعة من مرحلة حرب العصابات إلى مرحلة إعلان الدولة وإقامة مملكتها الإسلامية بعيدا عن المجتمع الكافر الذي لا تعترف به. ولاشك أن اختيار جوزا، وهي مدينة حدودية بين نيجيريا والكاميرون، يعني إمكانية توسع الحركة ووصولها الي دول الجوار الجغرافي.

يقول أبوبكر شيكاو "إننا في أرض الله، نطبق شريعته في إمبراطورية الإسلام. لقد أسس النبي (صلى الله عليه وسلم) أول إمبراطورية إسلامية بنحو سبعين شخصا. وعليه فلن يمنعنا أحد من إقامة إمبراطوريتنا داخل نيجيريا بالاستعانة بنحو عشرة آلاف أو عشرين ألفا أو ربما مليون شخص. إنها مشيئة الله الذي منحنا هذا النصر".

ما العمل؟
لا يخفى أن تطور حركة بوكو حرام يعكس تعقيدات السياق الاجتماعي والاقتصادي المرتبط بعملية التحول الديموقراطي في نيجيريا بعد سنوات طويلة من سوء الإدارة الناجمة عن الفساد وحكم العسكر.

كما أن بوكو حرام نفسها عبرت عن حالة من التغير المتواصل من الهجرة والعزلة إلى التمرد، ثم أخيرا إعلان الإمارة، وقد جعلها ذلك تتكيف مع الظروف المتغيرة دوما.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بإمكانيات التعامل مع جماعة بوكو حرام في الواقع النيجيري المعقد والمتشابك. إنها مسألة تتجاوز الرؤية الأمنية الضيقة وترفض الحلول التي تتبناها المؤسسة الحاكمة في نيجيريا.

إضافة إلى ذلك فإن بوكو حرام لا تمثل في جوهرها حركة احتجاجية عادية تطالب بإعادة توزيع الثروة والسلطة مثلما هو الحال بالنسبة لحركات التمرد المسلح في منطقة دلتا النيجر الغنية بالنفط.

إنها حركة إسلامية تتبنى فهما ضيقا للغاية لتعاليم الإسلام، وترفض الاعتراف أصلا بمفهوم الدولة المدنية القائمة في البلاد. فهل ثمة علاقة تربطها بالأصولية الأولى في فكر عثمان بن فودي؟

نستطيع القول، بعد أن عكفنا على دراسة الخطاب الإسلامي في غرب أفريقيا سنوات طويلة والاطلاع على كثير من المخطوطات، بوجود خيط رابط بين خطاب التكفير لدى جماعة بوكو حرام وبين بعض أطروحات الشيخ بن فودي التي تعبر عن تطور فكري فيما يتعلق بفهمه للسلطة السياسية.

نستطيع القول، بعد الدراسة والاطلاع على كثير من المخطوطات، بوجود خيط رابط بين خطاب التكفير لدى جماعة بوكو حرام وبين بعض أطروحات الشيخ بن فودي التي تعبر عن تطور فكري فيما يتعلق بفهمه للسلطة السياسية

ففي أعقاب مرحلة الدعوة والولوج إلى مرحلة الفعل الجهادي،‏ بدأ اهتمام الشيخ عثمان بالتمييز بين دار الحرب ودار الإسلام، والتمهيد للهجرة،‏ حيث‏ ألف‏ عام 1803 "مسائل‏ مهمة‏ يحتاج‏ إلى‏ معرفتها‏ أهل‏ السودان".‏ أما‏ في عام 1804‏، فقد‏ ألف‏ وثيقة‏ أهل‏ السودان وبيان‏ تحريم‏ موالاة الكفرة‏ ووجوب‏ موالاة مؤمني‏ الأمة.

يقول الشيخ عثمان في الوثيقة "فاعلموا يا إخواني أن الأمر بالمعروف واجب إجماعا، وأن النهي عن المنكر واجب إجماعا، وأن الهجرة من بلاد الكفار واجبة إجماعا، وأن موالاة المؤمنين واجبة إجماعا. وأن تأمير أمير المؤمنين واجب إجماعا وأن طاعته وجميع نوابه واجبة إجماعا، وأن الجهاد واجب إجماعا، وأن تأمير الأمراء في البلدان واجب إجماعا، وأن تأمير القضاة واجب إجماعا، وأن تنفيذهم أحكام الشرع واجب إجماعا".

وفي‏ عام‏ 1806، كتب أهم مؤلف في هذه الفترة، والذي يمكن اعتباره دستور دولته ودستور الأصولية الجهادية من بعده وحتى يومنا هذا، هو‏ ‏"بيان‏ وجوب‏ الهجرة‏ على‏ العباد‏ وبيان‏ وجوب‏ نصب‏ الإمام وإقامة‏ الجهاد"،‏ ويمكن من خلاله الوقوف على آليات ومفاهيم السلطة السياسية عند عثمان بن فودي.

إن حادثة إعلان الخلافة الإسلامية الثانية تدعو إلى مزيد من التأمل والتدبر. إنها بلا شك تتجاوز الفعل الاحتجاجي أو حتى الثوري الموجه ضد فساد الدولة الوطنية الموروثة عن الاستعمار لتعبر عن إشكاليات مفهوم الدولة في التراث الفكري الإسلامي.

وهنا تصبح عملية البحث عن سيرة الحركية الجهادية في منطقة الشمال النيجيري خلال القرن التاسع عشر مفيدة للفهم ولصياغة إستراتيجيات فكرية للمواجهة تتحرر من إسار أطروحات الحلول الأمنية الضيقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.