الإعلام البريطاني وعدوان غزة.. تحولات نوعية

التصميم الجديد - ترويسات صحف بريطانية - الصحف -

لم يكن للمشروع الصهيوني أن يعيش طوال العقود الماضية لولا عوامل ذاتية وخارجية متعددة، من أهمها الدعم غير المحدود من القوى الغربية على جانبي الأطلسي سياسيا وعسكريا وحتى اجتماعيا وثقافيا.

ولضمان استمرارية هذا الدعم وبكثافة، اشتغلت ماكينة الدعاية الصهيونية لنشر الأكاذيب وامتلاك وسائل الإعلام والتأثير عليها، مما وفر غطاء شعبيا ورأيا عاما داعما للكيان، إضافة إلى تأييد أي قرارات من الحكومات الغربية باتجاه دعم السياسات الصهيونية والتجاوز عن أخطائها، وهذا حقق نجاحا واضحا قلب المظلمة الفلسطينية إلى عدوان وإرهاب.

وقد نجحت هذه الآلة الإعلامية في تثبيت هذه الدعاية المغلوطة بنسبة عالية مما ساهم في تغييب الرواية الفلسطينية عن الإعلام الغربي بشكل شبه كامل، بيد أنه في السنوات الخمس الأخيرة بدأ يظهر تغير في تناول الصحافة الغربية للقضية الفلسطينية تدريجيا وبأشكال عدة لصالح الرواية الفلسطينية.

هذا التحول في تناول المسألة يستحق التوقف عنده لدراسة مدى عمق وجوده وتحليل العوامل التي ساعدت في تغذيته واستشراف إمكانية استمراره وسبل التأثير عليه إيجابا لصالح الحق الفلسطيني.

لا نبالغ إذا قلنا إن الصحافة البريطانية لها مكانتها العالمية في عالم الإعلام، وهي عريقة ولها تأثير ونفاذية في تشكيل الرأي العام المحلي بل يتعداه خارج الحدود لدول نفوذ الإرث الاستعماري البريطاني أو ذات العلاقات التجارية أو لمتابعي الصحافة الإنجليزية بالعموم.

التحوّل الجاري في التناول الإعلامي للقضية الفلسطينية يستحق توقفا عنده لدراسة مدى عمق وجوده، وتحليل العوامل التي ساعدت في تغذيته، واستشراف إمكانية استمراره، وسبل التأثير عليه إيجابا لصالح الحق الفلسطيني

بل نذهب أبعد من هذا إلى القول إن تلك الصحافة بما لديها من مهنية عالية بتقاريرها الميدانية المحترفة والمصحوبة بتحليلات وتعليقات من كتاب وسياسيين مرموقين، تؤثر على قرارات الحكومة أو صانعي القرار، وهذا جعلها قوة تسقط وزراء ونوابا في بعض الأحيان.

وقد أجريت دراسة مسحية تحليلية على المضامين المتعلقة بالعدوان على غزة في أهم الصحف البريطانية من خلال أعدادها الصادرة يوم الأحد العاشر من أغسطس/آب الجاري، وهو توقيت له دلالة مهمة، فهو يأتي بعد أكثر من شهر على بدء العدوان، ويتزامن مع استقالة الوزيرة سعيدة وارسي على خلفية موقف الحكومة البريطانية غير المتوازن من هذا العدوان، وبعد مظاهرات السبت الحاشدة تنديدا بالعدوان.

يبرز سريعا من حيث الشكل أولا القاسم المشترك من حيث التغطية الواضحة والمميزة للحدث، وبأشكال تعطيه درجة عالية من الأهمية في ذهن القارئ حتى المتصفح العادي.

وتنوعت أشكال التغطية بين تقارير ميدانية ومقالات تحليلية وأخرى تحمل مواقف من شخصيات سياسية معتبرة. واللافت أيضا أن معظم هذه الصحف نقلت وقائع العدوان عبر مراسليها داخل القطاع وأغلبهم غربيون، مما أعطى درجة عالية من المصداقية في المضمون للقارئ البريطاني لناحية الحيادية.

وتشترك هذه الصحف بالعموم في تناول حدث استقالة الوزيرة وربطه بشكل واضح بقطاع غزة، وكذلك تغطية مظاهرة لندن الحاشدة. ومن حيث التغطية البصرية نلاحظ استخدام العديد من الصور والتنوع فيها وبأحجام كبيرة تصل في أكثر من صحيفة إلى عرض الصفحة بالكامل، مع وجود تقارير ميدانية وافية لوقائع العدوان داخل القطاع.

أما من ناحية المضمون، فالمشترك أعمق دلالة على أكثر من صعيد، وهو بلا شك إيجابي لصالح القضية الفلسطينية العادلة. وتمثل في شبه الإجماع على وحشية العدوان وهمجيته وفي اختباء وانكفاء أشد المدافعين عن الكيان الصهيوني في الصحافة الغربية، مما تسبب له بخسارة كبيرة على الصعيد العالمي.

ومع تكشف مشاهد الدمار الواسعة والمرعبة والتي ذكّرت المواطن الغربي بمشاهد الحرب العالمية الثانية من حيث حجم التدمير والقتل والاستخفاف بحياة الإنسان، برز الحديث عن أخلاقيات الحرب التي استخف بها وداس عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي من خلال استهدافه كل شيء دون استثناء، سواء البشر والحجر، ولم يراع حرمة المستشفيات والمساجد والأماكن السكنية، فضلا عن الوضع الكارثي في القطاع والارتفاع الهائل في أعداد الشهداء والجرحى.

وقد توقفت ثلاث من هذه الصحف مع نماذج من قصص المعاناة الإنسانية، كقصة الطفل محمد بدران (8 سنوات) الذي فقد بصره واستشهد والده ولم يخبره أحد بذلك، كما أبرزت أكثر من صحيفة إمكانية انتشار الأوبئة بسبب تدمير محطات تنقية مياه الشرب وشبكة الصرف الصحي.

كما حضرت الرواية الفلسطينية بمضامينها السياسية ومطالب المقاومة، بل وجدت من يدافع عنها على صفحات العديد من الصحف، كما تناولت بعضها غضب الجالية المسلمة من موقف الحكومة، متوقعة تأثر حزب المحافظين في الانتخابات القادمة بسبب الموقف المنحاز لصالح العدو الصهيوني.

لو أخذنا تغطيات الصحف بشكل منفصل لما له من مؤشرات مهمة، نجد في المقدمة تناول الصنداي تلغراف غير المسبوق للقضية بشكل يجرم العدو الصهيوني.

لو أخذنا تغطيات الصحف البريطانية بشكل منفصل لما له من مؤشرات مهمة، نجد في المقدمة تناول الصنداي تلغراف غير المسبوق للقضية بشكل يجرّم العدو الصهيوني

فقد أفردت الصفحة رقم 22 بالكامل للحدث، سواء بتقرير ميداني من مراسلها روبرت تيت المصحوب بصورة عريضة للدمار في بيت حانون وصورتين أصغر للحشود الهادرة في مظاهرة لندن، وأخرى للطبيب الفلسطيني البريطاني غسان أبو ستة وهو يعالج طفلة. والعنوان الكبير في عرض الصفحة "كارثة صحية تلوح بالأفق في غزة"، ثم عنوان جانبي على لسان الدكتور غسان أبو ستة "عندنا أطفال كثر في هذه المستشفى لن يجدوا أحدا يذهبون له" في إشارة إلى أنهم أصبحوا أيتاما بعد مقتل عائلات بكاملها، علما بأنه يصعب تصور نشر مثل هذا التقرير بشكله ومضمونه في جريدة التلغراف في السنوات الماضية.

بل ذهبت التلغراف أبعد من هذا عندما نشرت في نفس الصفحة تعليقا صحفيا للسياسي المخضرم أوليفر مايلز الذي خدم سفيرا لبريطانيا في ليبيا وكان أيضا رئيسا لقسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية، في وصف العدوان بأنه غير أخلاقي ولا يمكن الدفاع عنه، علما بأن هذا الوصف كان يمكن أن يوصم صاحبه بالعداء للسامية لو ذكره قبل سنوات.

وكان العنوان لمقاله "السلام ممكن أن يصنع فقط بالتحدث مع الأعداء"، وقد ذهب في موقفه إلى أن شروط الرباعية المفروضة على حماس يجب أن تفرض على إسرائيل أيضا، وتكلم في مسألة الاعتراف وتساءل عن أية حدود لإسرائيل نتحدث حتى يعترف بها الفلسطينيون.

ثم قال بخصوص شرط الاعتراف بالمعاهدات السابقة إن إسرائيل خرقت اتفاقية تبادل الأسرى (صفقة شاليط) فكيف تطلب من غيرها احترام المواثيق. وحتى في جانب سلاح المقاومة فند بأن هناك ترسانة أسلحة، بل دافع عن موقف حماس على لسان خالد مشعل عندما قال إن الرجل قال أعطونا دولة كاملة السيادة بعدها نجيب على سؤالكم في موضوع الاعتراف.

ثمَّ تأتي جريدة الصنداي تايمز، وهي يمينية أيضا وبطريقة مطابقة من ناحية الحجم والشكل وبمضمون مواز ولكن بنفس النتيجة لزميلتها التلغراف. فقد وضعت في الصفحة رقم 25 -وهي المخصصة للأخبار العالمية- صورة تصل إلى 40% من الصفحة ذات الحجم الكبير لمقاوم ملثم وخلفه سحابة دخان تعلو سماء غزة من جراء القصف الإسرائيلي، والعنوان العريض الذي استخدمه مراسل الجريدة من غزة مايلز مور نقلا عن هذا المقاوم "نحن ميتون على أي حال، ماذا عسانا أن نفعل غير أن نقاتل".

وتكلم عن شعبية رجال حماس كأبطال وتماسك الحاضنة الشعبية للمقاومة، مبرزا أن القتلى الإسرائيليين جنود، أما شهداء فلسطين فهم مدنيون. ثم تبرز الصحيفة صورة الطفل محمد بدران الذي فقد بصره واستشهد والده، وحاجته الماسة للعلاج في الخارج.

وفي مقابلة لها مع الوزيرة البريطانية المستقيلة، تستفيض وارسي في وصفها للموقف البريطاني المنحاز ضد الفلسطينيين خاصة مع إمكانية التدخل لكبح جماح حكومة العدو، ثم تبرز الصحيفة على لسان الوزيرة المطالبات بوقف تصدير السلاح للجيش الإسرائيلي.

أما الأوبزيرفر فالتعليق الرسمي لها بشأن غزة أن على إسرائيل أن تعي بأنها تخسر سمعتها عالميا، وعلى الصفحة رقم 19 تنقل تقريرا لمراسلها من غزة جيسون بيورك مصحوبا بصورة من الحجم الكبير عن حجم الخوف والهلع في وجوه جمهور من اللاجئين في مخيم النصيرات وهم يرقبون انتشال جثامين من تحت ركام المسجد الرئيسي في المخيم الذي دمرته الصواريخ الإسرائيلية، كما تتوقف مع إلغاء المهرجان السنوي للأفلام اليهودية من قبل إدارة مسرح شمال لندن على خلفية دعم السفارة الإسرائيلية للمهرجان ماليا.

وعلى الصفحة رقم 7 تقرير آخر عن مظاهرة لندن بصورة كبيرة للجماهير تحت عنوان "الآلاف يتظاهرون في بريطانيا وحول العالم ضد الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة".

وتنسجم الفايننشال تايمز مع ذات اللغة بمقابلة شاملة أخرى مع الوزيرة البريطانية بعنوان عريض "استقالة وارسي بسبب غزة تنذر بمشاكل انتخابية لحزب المحافظين"، ويعلوه عنوان بشكل أصغر بأن غضب الأقلية المسلمة في بريطانيا من عدم إدانة الحكومة للعدوان قد ينعكس خسارة في صندوق الانتخابات. وهذا سيؤثر لو حدث في خمسة مقاعد كاملة في شمال بريطانيا هي أصلا مع الحزب المحافظين في الدورة الحالية.

وأخيرا نتوقف مع صحيفة الإندبندنت اليسارية التقليدية التي نوعت بشكل لافت بين ربط خبر استقالة الوزيرة في الصفحة الأولى بالعدوان، ثم تغطية المسيرة على الصفحة الثالثة بأربع صور بليغة المعنى بتواجد حاخامات أرثوذكس يهود بين المتظاهرين رافضين للعدوان، وصورة لأطفال بين المتظاهرين وسيدة بريطانية وصورة للحشود مع تثبيت رقم 150 ألف متظاهر، وهذا كله تحت عنوان "قوة الشارع تطالب المملكة المتحدة بإجراءات بشأن نزاع غزة".

وعلى الصفحة 26 تقرير ميداني من مراسلها دونالد ماكينتري من مخيم النصيرات في غزة تحت عنوان "هجوم إسرائيلي على مسجد يقتل على الأقل ثلاثة"، وعنوان آخر يقول "الإنذار الإسرائيلي لإخلاء المسجد قبل قصفه أمهل السكان فقط خمس دقائق".

وفي نفس الصحيفة أيضا مقال تحليلي للكاتب الشهير روبرت فيسك حول استخدام المقاومة الفلسطينية للأنفاق ودورها، حيث يستدعي استخدام أسلوب الأنفاق في الحرب العالمية.

حراك الجماهير الغربية ونوعية التحرك واتساعه وتنظيم عمله ودخوله حيز الاحتراف والضغط على الإعلام، كان له أثره في التغيير الإيجابي الحاصل في التعاطي الإعلامي مع العدوان
وعلى الصفحة رقم 10 إعلان لصفحة كاملة لتحالف 15 جمعية خيرية بريطانية لدعوة الجمهور البريطاني للتبرع لغزة، ومضمون الإعلان يبرز المعاناة بشدة فيما يعكس حجم الدمار ووحشية العدوان.
 
نتيجة ما عرضناه كحصيلة ليوم واحد من التغطية الإعلامية الغربية أن هناك إجماعا على رفض العدوان وهمجيته ووحشيته وعظم الخسائر والمعاناة، وتفهما للرواية الفلسطينية وتبريرا للمقاومة مما يعني تعاظم التأييد للقضية في الغرب وقوة تأثير الحراك الجماهيري في أوروبا.
نعتقد أن عدة عوامل موضوعية ساهمت بشكل مباشر في هذا الانقلاب في التعاطي الإعلامي الغربي والبريطاني خاصة مع القضية الفلسطينية وتحديدا العدوان على غزة، وهو الانفتاح الإعلامي بطرقه العديدة سواء الفضائيات أو شبكات التواصل الاجتماعي، مما جعل الحدث ينقل لحظة وقوعه وعلى الهواء مباشرة، وأيضا التنافس المحموم بين الوسائل الإعلامية في الحصول على السبق النوعي ومن قلب الحدث.
 
ولا بد أن نذكر أن تفوق الجزيرة بشبكة مراسيلها وفضائياتها بلغات عدة وخاصة العربية والإنجليزية ومواقعها الإخبارية على الإنترنت ونقلها للحدث دون رتوش وباحتراف عال، قد رفع من سقف التنافس في الحقل الإعلامي وكشف سوءات الإعلام المنحاز للطرف الصهيوني.
 
ونضيف أيضا أن حراك الجماهير الغربية ونوعية التحرك واتساعه وتنظيم عمله ودخوله حيز الاحتراف والضغط على الإعلام، كان له أثره في التغيير الإيجابي الحاصل في التعاطي الإعلامي مع العدوان لزاوية الحقوق الفلسطينية العادلة.

نخلص إلى أننا نعيش تبلور عصر فلسطيني جديد تتعدد سماته التي من أهمها المقاومة البطولية في الداخل مع حاضنتها الشعبية المتماسكة والصامدة، والتي ظهرت معها حقيقة الاحتلال ووحشيته بكل وضوح الصورة ودقتها.

وكل تلك العوامل بدأت تفرز مواقف سياسية غربية متقدمة تجاه قضيتنا العادلة، فالشعب الفلسطيني يسير في الاتجاه الصحيح نحو استرجاع حقوقه المسلوبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.