فلسطين.. عقدة المستبدين

أطفال القدس يكسرون الطوق العسكري عن الأقصى وقبة الصخرة


يأبى البعض إلا أن يقلل من شأنه أمام الآخرين ناسيا أو متناسيا ما نشأ عليه أو تربى على هديه وآثاره، ويأبى هؤلاء إلا أن ينسوا أو يتناسوا تاريخهم، وأن يتنكروا لماضيهم وسنواتهم الأولى في مدارج الصبا، يتجاهلون مصيرهم ومستقبلهم وما سيورثونه لأبنائهم أو ما سيتركونه من أثر مكتوب أو ذِكرٍ محفوظ.

إن تجاهل أولئك تاريخهم وماضيهم، وإن القيم والمبادئ والثوابت وحقائق التاريخ وأطراف الجغرافيا، تُنكر عليهم أن ينساقوا وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وتشفق عليهم أن تكون عاقبة أمرهم إخلادا إلى الأرض أو انسلاخا مما أوتوا من العلم.

كانت فلسطين -ولا تزال- قضية العرب والمسلمين الأولى، لأنها آية من الكتاب من حفظها حفظته ومن ضيعها ضيعته, ومن خذلها خذلته وحاصرته وجعلت صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء، أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

كانت فلسطين وستبقى أيقونة الثورة، وعقيدة في قلوب الأبطال، لأنها مشروع التحرر الإنساني من ظلم عظيم وتجبر مستطير تحكم في رقاب البشرية

كانت -ولا تزال- عقيدة في قلوب الأبطال قبل أن تكون وسام عز وفخار يزين صدورهم.

كم نادى منادي الجهاد عندما صدحت مآذن اﻷقصى وكبرت القدس "أن يا خيل الله اركبي.. الجهاد الجهاد مع النبي", و"حي على جنات عدن فإنها منازلنا الألى وفيها المخيم". فصهلت لندائها فرسان عمان، وهللت خيالة السلط لنداء نابلس، وعندما توعدت الخليل ثأرت الكرك، وكم حمت سهول حوران واستقبلت أحضان إربد المجاهدين الأبطال من العرب والمسلمين المرابطين على ثغور القدس؟

فلسطين لوحة الوجدان ومهوى أفئدة الشجعان من رباط المغرب إلى أعالي جبال القفقاس. كانت وستبقى رمزا للأمة ومنارة للحرية وشعلة التمرد على الاحتلال وشوقا لنسائم الانعتاق من أغلال الذل والعبودية لبني صهيون، وتصميما أكيدا على التحرر من قيود القهر والاسترقاق التي فرضها نواطير الحي والساهرون على أمن الاحتلال.

أيقونة الثورة وأغنية العاشقين كانت وستبقى فلسطين، لأنها مشروع التحرر الإنساني من ظلم عظيم وتجبر مستطير تحكم في رقاب البشرية.

من إندونيسيا والشيشان، ومن اليابان حتى بلاد الغرب, من ألمانيا وإيطاليا ويوغسلافيا ومن أميركا اللاتينية، أتوا مدافعين عن الحرية وليسجلوا أنفسهم في قائمة الشرف والتحرر الإنساني.

كم سمعنا عن أناس من أقاصي الأرض جاء أجدادهم للدفاع عن شرف الأمة وعن الكرامة والحرية، لا تزول شواهد قبورهم، تشعل فينا الأمل، ولا زالت -وبكل أسف- شاهدا على تخاذل المتخاذلين، سواء منهم من تنصل -بحسن نية أو بسوء طوية- من تكليف شرعي أو واجب وطني أو ضرورة قومية أو كمالات إنسانية بحجة "التراب الوطني أو الهم المحلي" أو بناء "الدولة القطرية القوية المتمكنة", فكانت تلك الدولة التي تذكرنا بألقاب مملكة في غير موضعها ولا تكاد تراها على الخريطة, كانت أولا وليس لها ثانٍ.

وياليتهم قدروا أو استطاعوا ولكنهم عجزوا. ذلك أن قواعد الصراع وضرورة الجغرافيا تأبى أن تترك هؤلاء وأولئك يبنوا وطنا قويا أو دولة منيعة، فهم في أوهامهم يعمهون.

مع الدولة القوية بلا جدل ومع الوحدة دون تردد، ولكن طريق البناء لا يتحقق بمسالك الفساد والاستبداد, أو مهادنة الأعداء الذين من شأنهم أن يحافظوا على بقاء النواطير وأن يحطموا مقومات النهوض.

نحن مع الدولة القوية بلا جدل، ومع الوحدة دون تردد، ولكن طريق البناء لا يتحقق بمسالك الفساد والاستبداد, أو مهادنة الأعداء

في لحظة الغفلة تخلى نفر من أصحاب النظرية الانعزالية عن واجبهم عندما تسلل الوهن والخور إلى نفوسهم، فخلطوا عملا صالحا بآخر سيئا، وانساقوا وراء أوهامهم خلف المستبدين واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فنزعوا عن صدرهم قلادة العز ومن قلوبهم نياشين الشرف، ولهثوا وراء مغانم رخيصة ليأخذوها من نواطير الحي منًّا وإغدافا وتكرما.

ويا حسرة عليهم، فلن يطول مسلسل الود بينهم وبين مستبد يخلع أزلامه ويستبدلهم كما يغير ملابسه، ذلك أن لكل زمن دولة ورجالا.

ستبقى فلسطين رمزا للكرامة وسيبقى الأردن وطن الحشد والرباط وستبقى الأمة مرفوعة الرأس لا يضرها من خذلها من داخلها أو تآمر عليها من خارجها، حتى نفرح بالنصر وإنه لقريب.

قد تتلوى حبائل الشيطان في الوصول إلى شهوات النفوس، وربما تتلون أساليب الالتفاف والنفاق، إلا أن لونا واحدا سيبقى هو الأصل، وهو بياض القلوب العارفة والمتبصرة المستبينة.

"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" (الأنعام الآية 90)، وهم الفئة المنصورة وأصحاب القلوب السليمة "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" (الشعراء، الآية 88).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.