في البحث عن اليسار في العالم العربي

مقال الكاتب / ماجد كيالي - في البحث عن اليسار في العالم العربي

منذ البداية لوحظ غياب "اليسار" عن ثورات "الربيع العربي"، والأنكى تعاليهم عليها، وتشكيكهم في مشروعيتها، بل ومعاداتهم لها.

ونقصد هنا بـ"اليسار" الإطارات والتيارات الحزبية التقليدية، التي تتبنى الماركسية اللينينية كأيديولوجية مغلقة ونهائية، وبعض المثقفين المستقلين من "اليساريين"، علما أن ثمة يساريين كثرا انخرطوا في هذه الثورات، ودافعوا عن ضرورتها ومشروعيتها، ورأوا فيها حلمهم بالتغيير.

إذن، فقد انتظر "اليساريون" الثورة كثيرا، لكنهم لم يعملوا من أجلها شيئا، باستثناء التنظير، وإلقاء اللوم على الظروف الموضوعية، وعلى الجماهير التي لا تعي حتمية التغيير، ولا واقعها السيئ، وفي غضون ذلك استمرأ هؤلاء واقعهم النخبوي في مجتمعهم وقربهم من السلطات السائدة، وتمتّعهم ببعض فتات السلطة وميزاتها، مع أنهم ظلوا لا يملكون من السلطة شيئا.

لذا، عندما جاءت الثورات الشعبية العربية -التي اندلعت بطريقة عفوية وعاصفة ومدهشة، ومن خارج إطار الأحزاب السياسية السائدة ومنظوماتها الأيديولوجية الجاهزة- فوجئ هؤلاء.

انتظر "اليساريون" الثورة كثيرا، لكنهم لم يعملوا من أجلها شيئا، باستثناء التنظير، وإلقاء اللوم على الظروف الموضوعية، وعلى الجماهير التي لا تعي حتمية التغيير

وبدلا من الانخراط في الثورة، ونقد عفويتها، وتصويب مساراتها، إذا بهم يشتغلون على هجائها، بدعوى عدم ملاءمتها لفرضياتهم الأيديولوجية عن التنظيم الثوري، والنظرية الثورية، واصطفاف الطبقات الكادحة في مواجهة الطبقات المستغِلة، ودمج الصراع الطبقي بالوطني وبالصراع ضدّ الإمبريالية والنيوليبرالية.

وثمة مآخذ أخرى لهذا "اليسار"، ضمنها أن الثورات الحاصلة شكلت دفعا لظهور التيارات الإسلامية في المجال العام على حساب غيرها، وأنها ركّزت على الأوضاع الداخلية على حساب القضايا القومية، وعلى الديمقراطية السياسية أكثر من العدالة الاجتماعية.

وفي نقاش كهذا، بدت النظرية الجاهزة عن الثورة أهم من الثورة القائمة ذاتها، كما بدا الاشتراط على الثورة أهم من الأهداف التي يجب تحقيقها. وبالمحصلة، بدا وكأن هذا اليسار انقلب على ذاته، وعلى دوره التاريخي، وبات وكأنه في خندق النظم السلطوية، وعلى الضد من الحركة الجماهيرية، رغم كل المآخذ على هذه الثورات ونواقصها ومشكلاتها.

هكذا بدا هذا اليسار -بهذه العقلية "الإرادوية" والروح الاستعلائية والجمود النظري- وفيا لتاريخه وخطاباته وأشكال عمله التي نشأ عليها، مما شكّل أساس إخفاقاته في العقود الماضية.

وعلى ضوء كل ذلك، فما "اليسار" حقا؟ وماذا يعني بالضبط؟ ومن أين يستمد مشروعيته؟ هل من انتمائه الطبقي المفترض (إلى الطبقة العاملة)؟ أم من اتكائه على منظومة أيديولوجية معيّنة (الماركسية- اللينينية)؟ أم من حمله النضال من أجل الاشتراكية وضد الإمبريالية؟ أم من معايشته قضايا مجتمعه؟
في الحقيقة، إن مفهوم "اليسار" في العالم العربي يحيل إلى جملة من المفاهيم والقضايا، ضمنها النظرة إلى المجتمع وفق التقسيمات الطبقية، واعتبار الصراع الطبقي بمثابة المحرّك للتاريخ، ارتباطا بالصراع ضد نمط الإنتاج الرأسمالي، لتقويض سلطة البرجوازية المحلية، والتخلص من هيمنة الإمبريالية العالمية.

وبالطبع، فإن قضية اليسار -في غضون كل ذلك- تتمثل في انتزاع السلطة لإقامة العدالة الاجتماعية في دولة اشتراكية، تقودها الطبقة العاملة من خلال حزبها، وفي إطار التحالف مع الفلاحين والمثقفين الثوريين.

ومعلوم أن قضية فلسطين باتت -أيضا- على أجندة الأحزاب والحركات اليسارية العربية، مع صعود المقاومة الفلسطينية، خاصة مع بروز الجبهتين اليساريتين (الديمقراطية والشعبية)، باعتبار إسرائيل مجرد قاعدة من قواعد الإمبريالية في المنطقة.

هكذا، عشنا عقودا على مقرّرات اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية واليسارية، وبياناتها، وأدبياتها، التي كانت تتحدث بيقينية مدهشة عن سمة العصر، التي تتمثل بأفول الرأسمالية وانتصار الاشتراكية، بفضل تضافر وصعود قوى العملية الثورية الثلاث، أي المنظومة الاشتراكية، والأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية، وحركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة، والتي أضيف إليها "النظم الديمقراطية الثورية"، أو بلدان "التطور اللارأسمالي"، التي باتت تشمل سوريا والعراق وليبيا.

كانت تلك هي الترسيمة المعهودة، التي وسمت كل الإنشاءات السياسية الصادرة عن معظم تشكيلات اليسار في العالم العربي، والتي شكّلت هويتها السياسية، والفكرية، ردحا طويلا من الزمن.

ومعلوم أن تشكيلات اليسار السائدة هذه لم تتحول إلى تيار فاعل في الحياة السياسية العربية، فهي لم تصل إلى السلطة في أي بلد، باستثناء "اليمن الديمقراطي السابق"، ولم تستطع حتى المشاركة في الحكم، بل إنها فوق ذلك انحسرت كثيرا.

طبعا، لا يمكن تفسير ذلك بانهيار الاتحاد السوفياتي (السابق)، فهذا على أهميته لا يكفي، إذ إن ضياع تشكيلات "اليسار" وفقدانها هويتها حصل قبل ذلك بكثير، ولأسباب تتعلق بغربتها عن الواقع، وعدم قدرتها على تمثل أحوال مجتمعاتها، وتخليها عن قضيتها وعن دورها السياسي، وفقدانها أهليتها النضالية، واستنادها في علاقاتها إلى تقاليد حزبية جامدة تتأسس على الدكتاتورية لا على الديمقراطية.

تشكيلات اليسار لم تتحول إلى تيار فاعل في الحياة السياسية العربية، فهي لم تصل إلى السلطة في أي بلد -باستثناء "اليمن الديمقراطي السابق"- ولم تستطع حتى المشاركة في الحكم، بل إنها فوق ذلك انحسرت كثيرا

هكذا، فإن تنظيمات "اليسار" في البلدان العربية -في أغلب الأحوال- لم تقدم نقدا سياسيا للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي العربي، إلا في حالات نادرة، ومن شخصيات يسارية مستقلة، أو منشقة، مثل إلياس مرقص وياسين الحافظ وصادق جلال العظم وعبد الله العروي وفؤاد مرسي وجورج طرابيشي ومهدي عامل.

وقد أخذ هؤلاء على الماركسية-اللينينية عدم إيمانها بالديمقراطية، واستهتارها بقيمة الحرية، وهو المأخذ ذاته الذي أخذته حنة أرندت على الماركسية، كما أخذوا على الأحزاب والقوى الشيوعية أو اليسارية استسهالها نسخ النظرية الماركسية على الواقع العربي، والتعامل معها كأيديولوجية جاهزة ومغلقة، أو كـ"دين" آخر، يتأسس على الإيمان، لا على الدراسة والشكّ وإمعان التفكير.

لذا، ثمة ما يثير الاستغراب في الادعاءات السياسية للقوى "اليسارية" السائدة، فالمجتمعات المعنية لم تصل بعد إلى المستوى اللازم من التطور الطبقي، والطبقة العاملة (البروليتاريا) طبقة "أقلية" في مجتمعاتها، والأهم أن المجتمعات العربية منقسمة على نفسها عموديا على أسس هوياتية دينية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية، بدل الانقسام الأفقي على المصالح والسياسات، كما يتضح هذه الأيام، وفي المحصلة فإن الفقراء يتصارعون أو يتقاتلون مع الفقراء، في حرب الضحايا ضد الضحايا.

في هذا الإطار، يمكن لفت الانتباه -أيضا- إلى أن الطبقات الكادحة لم تتواجد في الكيانات اليسارية بمقدار تواجدها في الكيانات الإسلامية أو القومية أو الوطنية، وثمة ملاحظة قديمة لي مفادها أن "الطبقة العاملة" الفلسطينية -مثلا- وجدت في "فتح البرجوازية" أكثر منها في الفصائل "اليسارية"، لأسباب منها أن الانتماء إلى اليسار يتطلّب مستوى ثقافيا معيّنا لا يتوافر لدى أغلب أبناء الطبقات الكادحة.

الأهم أن الحديث عن الانتماء إلى الطبقة العاملة -والمقصود الطبقة الصناعية- ليس له صلة بواقع التركيب الطبقي لمجتمعاتنا (كما عالميا)، لسبب بسيط هو أن مجتمعاتنا لم تشهد تلك النهضة الصناعية التي تجعل العمال طبقة بذاتها، ولأن معظم عمالنا يعملون في الخدمات.

فمثلا، بين الأعوام 1995 و2013 تراوحت نسبة العاملين في الصناعة بين 17 و19% من حجمهم الإجمالي، بينما تراوحت نسبة العاملين في الخدمات بين 47 و60%.

فالطبقة العاملة الصناعية لم تعد الأكثرية في المجتمع، ولا الطبقة ذات النزعة التقدمية (كما سابقا)، بحكم ارتباطها بقطاعات الإنتاج الصناعية الوليدة حينها، وذلك بواقع الانتقال إلى وسائل إنتاج ما بعد صناعية (مرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا). ولعل التذكير يفيد بأن إجمالي الناتج المحلي العربي من الصناعة بلغ 187 بليون دولار، من حوالى ألفي بليون إجمالي الناتج المحلي السنوي، أي بحصّة مقدارها 9.1% فقط.

وبشأن الإحالة إلى الماركسية اللينينية يمكن القول إن موت هذه النظرية يتأتّى من تحويلها إلى مذهب مغلق ونهائي -أو "دين" جديد- شأنها شأن الأديان، بدلا من إعطائها مكانتها المناسبة في إطار تطور الأفكار السياسية والاقتصادية والفلسفية. وفي الواقع، فإن الوقوف عند هذه النظرية يفيد الإقرار بمشروعية "نهاية التاريخ"، وهو أمر غير معقول، باعتبار أن النظريات الاجتماعية والفلسفية والاقتصادية تطورت بما لا يقاس طوال القرن الماضي.

ومثلا، فإذا كانت نظرية "فضل القيمة" التي تأسّست على استغلال ربّ العمل لعمل العامل صحيحة في وقتها (مرحلة الثورة الصناعية) فإنها لم تعد كذلك تماما، أو لم تعد تعمل في ذات السياق، في مرحلة الثورة العلمية-التكنولوجية، حيث العلم بات هو المولّد الأساسي للثروة.

وعلى الصعيد العام، يمكننا ملاحظة أن أكبر نسبة في الناتج المحلي السنوي لم تعد تتراكم من قطاع الصناعة، وإنما من قطاعات الإنتاج المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا والخدمات والأنشطة الإعلامية والفنية والسياحية والأعمال المالية، فهذه بات ناتجها يبلغ حوالي ما بين 60 و70% من الناتج المحلي السنوي في الدول المتوسطة والمتقدمة.

هذا لا يعني انتفاء استغلال العمال، وإنما لفت الانتباه إلى الكيفية التي بات يتم فيها تحصيل "فضل القيمة" ومراكمة الأرباح، حيث بات بإمكان فكرة ما أن تجلب ثروة هائلة على فرد أو مجموعة، بدون أن تستغل مباشرة كتلا كبيرة من العمال، مما يفسر أن معظم أصحاب البلايين -ولا سيما الجدد- هم من عباقرة برامج الكومبيوتر أو من أصحاب شركات الاتصالات والإعلام وشركات الأدوية.

أما في السياسة، فثمة ثلاث مشكلات كبيرة في المعتقدات "اليسارية" السائدة والجامدة، وكلها تمخّضت عن كوارث: أولها، "ديكتاتورية البروليتاريا"، التي شرّعت اختزال الشعب في طبقة ثم في حزب، وبعده في مكتب سياسي أو أمين عام، وكانت بمثابة وصفة لمصادرة الحريات الفردية وسيادة الاستبداد.
ولعل ثبوت خطأ هذه النظرية لا يقتصر على ما تمخّضت عنه في الممارسة السياسية فقط، وإنما لأنها غير شرعية أخلاقيا وقانونيا، ولأنها تصادر المجتمع وتحكمه بواسطة الحزب الواحد وأجهزة المخابرات ووسائل التعبئة والدعاية. وهذه النظرية من عند لينين أتت بستالين وبريجينيف ويلتسين وبوتين، وأضفت شرعية على نظم الاستبداد.

قصارى القول إن "اليسار" الذي لم يدرك بعد ضرورة الحرية والكرامة وقيام المواطن كشرط لقيام دولة المؤسسات والقانون ومجتمع المواطنين، هو يسار حائر وضائع بدون هوية وبدون قضية

وثاني هذه الأفكار يتمثل في الانتقال إلى الاشتراكية، ولو في أكثر الحلقات الرأسمالية تخلفا (عكس فكرة ماركس الأساسية عن قيام الاشتراكية في أكثر البلدان الرأسمالية تقدما)، وهذه الفكرة التي تحرق المراحل لم تثبت أيضا بدليل إخفاق الاتحاد السوفياتي في المباراة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وانهيار النظام الاشتراكي بطريقة سلمية ومن الداخل.

أما الفكرة الثالثة، فتقول بجواز الانتقال إلى مرحلة الثورة الاشتراكية من دون المرور بمرحلة الثورة البرجوازية الديمقراطية (التي صاغها بليخانوف معلم وأبو الماركسية الروسية بحسب لينين نفسه).

مما تقدم، نلاحظ أن معضلة اليسار قديمة، وأنها ليست وليدة الثورات العربية، التي ربما كشفته أكثر من أي وقت مضى، في تماهيه مع النظم السلطوية.

وبصورة أكثر تحديدا، فإن مشكلة اليسار تتكثف في أنه غدا مجرد مفهوم نظري، فاقد الصلة بواقعه رغم كل ادعاءات مقاومة إسرائيل وصدّ الهيمنة الإمبريالية والنيوليبرالية، وكذا المتعلّقة بتكريس العدالة الاجتماعية.

وتكمن المشكلة أيضا في أن هذا اليسار لا يرى أن نظم الاستبداد والفساد التي هيمنت على البلاد والعباد منذ عقود عوّقت قيام الدولة والمجتمع والمواطن/الفرد الحر، وأنه من دون هذه القيامة لا يمكن الحديث عن ديمقراطية سياسية ولا عن عدالة اجتماعية، فضلا عن أنه لا يمكن الحديث عن مقاومة وعن مواجهة الإمبريالية إلا في البيانات والمهرجانات والشعارات والمزايدات.

قصارى القول، فإن "اليسار" الذي لم يدرك بعد ضرورة الحرية والكرامة وقيام المواطن كشرط لقيام دولة المؤسسات والقانون ومجتمع المواطنين، هو يسار حائر وضائع بدون هوية وبدون قضية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.