الانتخابات البلدية وانعكاساتها على الواقع التركي

تصمبم : الانتخابات البلدية وانعكاساتها على الواقع التركي - سعيد الحاج - انعكاسات الانتخابات محليا ودوليا تجعل منها محطة مهمة قد تغير الخريطة الحزبية للنظام السياسي المستقر في تركيا منذ ما يقرب من 12 عاما

أردوغان والرئاسة
انهيار الأسطورة
احتمالات الانشقاق
مشهد تركي مختلف

في كلمته من على شرفة مقر حزبه بعد ظهور النتائج شبه الرسمية للانتخابات البلدية، قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان "ما دامت هذه الروح في هذا الجسد، فسأبقى في خدمة شعبي، في أي مسؤولية يضعها على عاتقي". كلمة اعتبرها الكثير من المراقبين إشارة البدء بحملته للانتخابات الرئاسية.

لكن ملف ترشح أردوغان للرئاسة ليس الوحيد الذي يتوقع أن تؤثر فيه أو تحسمه الانتخابات البلدية، بل هناك ملفات محلية عدة ستؤثر فيها نتائج الجولة الانتخابية بدرجة أو بأخرى، ربما ترسم مشهدا سياسيا تركيا مختلفا في المستقبل القريب.

أردوغان والرئاسة
لم يخف أردوغان يوما رغبته في الترشح لرئاسة الدولة بعد اثني عشر عاما من رئاسة الوزراء، بل لم ينكر ميله لتغيير النظام البرلماني الحالي في تركيا إلى نظام رئاسي.

لأن شخصية كاريزمية وفاعلة مثل أردوغان لا ترضى بالبقاء على هامش المشهد السياسي، فمن غير المرجح أن يكتفي بمنصب الرئيس بشكله الحالي الشبه الفخري

ولئن فشلت لجنة صياغة الدستور سابقا في تحقيق توافق بين الأحزاب المختلفة على ذلك، فإن هذا لا يعني أن الزعيم التركي سيغير رأيه، ذلك أن من يعرف سيرة الرجل يدرك أن آخر ما يتوقع منه بعد رئاسة ثلاث حكومات متعاقبة مليئة بالإنجازات أن يترك العمل السياسي ويتفرغ لكتابة مذكراته.

فنتيجة الانتخابات البلدية (غير الرسمية حتى الآن) أعطت الرجل دفعة قوية نحو الاستمرار في مشروع ترشحه، بعد أن حُمّلت دلالات الاستفتاء على شخصه ومشروعه، كما أشارت بوضوح إلى أنه سيكون مرشحا قويا في انتخابات السادس عشر من أغسطس/آب وربما يستطيع حسمها من الجولة الأولى، الأمر الذي دفع زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو، بعد الانتخابات مباشرة، لدعوة أطياف المعارضة المختلفة للتوحد خلف مرشح واحد لسحب البساط من تحت أقدام رئيس الوزراء الطموح.

ولأن شخصية كاريزمية وفاعلة مثل أردوغان لا ترضى بالبقاء على هامش المشهد السياسي، فمن غير المرجح أن يبقي على منصب الرئيس بشكله الحالي الشبه الفخري، ويتوقع المراقبون لجوءه لأمرين:

الأول، استثمار مادة في الدستور التركي تقول إن الرئيس "يقود" الحكومة، وهي مادة بقيت غير مفعلة حتى اليوم، ويكتفي رئيس البلاد بمهام بروتوكولية محضة.

الثاني، تعديلات دستورية عبر الاتفاق مع المعارضة أو عبر استفتاء شعبي، تتيح للمنصب الأعلى في البلاد صلاحيات أكبر من الصلاحيات الحالية.

وفي ظل نتيجة الانتخابات المشجعة، وتوقع حصوله على أعلى من تلك النسبة بكثير (إذ يتوقع أن تؤيده أحزاب يمينية وجماعات دينية ومستقلون)، والمؤهلات التي يملكها السياسي المحنك وخبرته العريضة، ووقوف حزبه الحاكم خلفه، وقرب موعد الاستحقاق الرئاسي، وعدم وجود منافس قوي في صفوف المعارضة، يبدو العائق الوحيد لترؤس أردوغان هرم الدولة التركية هو الرئيس الحالي عبد الله غل ومستقبله السياسي.

ولذلك فالمتوقع هو التشاور ثم التوافق بين رفيقي الدرب على السيناريو الأفضل، الذي سيكون في الأغلب نموذج بوتين مدفيدف، بحيث يعتلي الأول كرسي الرئاسة بينما يعود الثاني لرئاسة الحزب والحكومة، وربما تتضمن هذه الصيغة تبكير الانتخابات البرلمانية لتتزامن مع الرئاسية، للخروج من سؤال من يرأس الحكومة في غياب أردوغان.

في حين قد تجبر أيُّ مفاجآت غير سارة الزعيمين على إدامة الوضع الحالي باستمرار غل في الرئاسة وتغيير النظام الأساسي في العدالة والتنمية بما يسمح للطيب بفترة رابعة.

انهيار الأسطورة
كما يحدث في أي استحقاق انتخابي في أي دولة أخرى، قد تتعدد التقييمات ومعايير الفوز والخسارة بين الحكومة والمعارضة، لكن الثابت الوحيد في الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا أن الخاسر الأكبر كان جماعة الداعية فتح الله غولن (حركة الخدمة) المقيم في الولايات المتحدة الأميركية.

الخاسر الأكبر كان جماعة الداعية فتح الله غولن، ذلك أن الجماعة وضعت كل بيضها في سلة الهجوم على الحكومة ومحاولة إسقاطها، وبدت واثقة من ذلك

ذلك أن الجماعة وضعت كل بيضها في سلة الهجوم على الحكومة ومحاولة إسقاطها، وبدت واثقة من ذلك، من خلال الحرب الإعلامية والتسريبات المختلفة وأذرعها المتغلغلة في مختلف مؤسسات الدولة، والتحالف مع أحزاب المعارضة، وإصدار تعليمات لأتباعها بالتصويت لأقوى المرشحين أمام العدالة والتنمية في كل دائرة انتخابية على حدة.

بيد أن فوز العدالة والتنمية بنسبة تزيد على 45% (وفق نتائج غير رسمية، وبما يزيد على النسبة السابقة بـ7%)، وضع النقاط فوق الحروف، مفشلا خطة الجماعة ومظهرا أنها أبعد ما تكون عن الهالة التي أحاطت نفسها بها، مدعية أنها سبب نجاح وشعبية الحزب الحاكم وأنها القادرة على إسقاطه.

أسقط في يد الجماعة حين تأكد للجميع أن كتلتها التصويتية غير مؤثرة في نتائج الانتخابات، أو أنها على الأقل لم تستطع إقناع قاعدتها الجماهيرية بالتصويت ضد أردوغان، وهما احتمالان أحلاهما مر.

وإذا ما وضعنا تصرفات الجماعة ووسائل إعلامها جنبا إلى جنب مع أداء وكالة جيهان للأنباء (التابعة لها) التي تلاعبت بالنتائج لتقليل نسبة العدالة والتنمية والإيحاء بوجود تزوير، سنعرف أن أكثر ما خسرته الحركة هو صورتها أمام الشعب التركي وثقته فيها.

من جهة أخرى، لا يتوقع أن يحمل المستقبل القريب أخبارا سارة لغولن، حيث إن النتيجة الكبيرة التي حققها رئيس الحكومة ستكون مرتكزا له لتوجيه ضربات قاصمة لمراكز نفوذه في الدولة أو ما تسميه الحكومة "التنظيم الموازي"، وربما يصل الأمر لاتهام بعض قياداتها بالخيانة والإضرار بالأمن القومي.

ويبدو أن هذه السيناريوهات حاضرة في ذهن الجماعة، فانعكس ذلك في مقالات أحد أكبر كتابها الذي اعترف بفشل الحملة على الحكومة، وحاول أن يستعطف الأخيرة لتخفف من حدة ردة فعلها، وفي سفر بعض قيادات الجماعة إلى خارج البلاد قبيل وبعيد الانتخابات.

احتمالات الانشقاق
أما الخاسر الثاني في هذه المعركة الانتخابية فكان زعيم حزب الشعب الجمهوري كليتشدار أوغلو، الذي غامر بمستقبله السياسي حين عارض تاريخ حزبه وتقاليده بقرارين جريئين، اعتبرا مغامرة انتخابية غير محسوبة:

الأول، التحالف مع جماعة غولن، أحد أعدائه التاريخيين، في مواجهة حزب الأغلبية، وهو ما لم يحظ بقبول عام داخل الحزب الأتاتوركي العلماني، الذي يرى فيها تقليديا حركة دينية خطيرة.

الثاني، والأخطر، هو تغيير خطاب الحزب اليساري وتوجهه نحو اليمين في محاولة لكسب أصوات من خارج قاعدته التصويتية.

في هذا الإطار رشح الحزب في مدينة أنقرة منصور يافاش، مرشح حزب الحركة القومية (اليمينية) في الانتخابات السابقة، لمواجهة مرشح العدالة والتنمية القوي ورئيس البلدية الحالي، كما رشح لبلدية إسطنبول مصطفى صاري غول المقبول من بعض التيارات المحافظة رغم طرده من الحزب قبل سنوات بدعوى الفساد المالي.

لكن هزيمة الحزب في إسطنبول بفارق كبير وخسارته العاصمة (كما هو متوقع لدى الإعلان عن النتيجة الرسمية) ستجعل رئيسه أمام استحقاق دفع فاتورة خياراته أمام قيادات حزبه الغاضبة التي كانت ترى نفسها أحق بالترشح في المدينتين الرئيسيتين.

الخاسر الثاني في الانتخابات هو زعيم حزب الشعب الجمهوري الذي غامر بمستقبله السياسي حين عارض تاريخ حزبه وتقاليده بقرارين جريئين، اعتبرا مغامرة انتخابية غير محسوبة
وبالتالي، يرى العديد من المراقبين أن أيام زعيم المعارضة على رأس حزبه باتت معدودة وأنه على أبواب هيئة عمومية طارئة تطيح به لصالح صاري غول نفسه، الذي يشاع أن هدفه الأول من الترشح لم يكن منصب رئيس البلدية بل الحصول على نسبة تصويت أعلى من تلك التي كان قد حازها رئيس الحزب لدى ترشحه عن نفس المدينة سابقا (وقد حصل)، الأمر الذي يعطيه مصداقية ووجاهة للترشح لقيادة الحزب.

أما السيناريو الأسوأ لأكبر أحزاب المعارضة فهو عدم التوافق على آلية الخروج من المأزق، خاصة أن كليتشدار أوغلو استبق أي تحركات داخل حزبه بنفي خسارته الجولة الانتخابية وادعاء نجاحه بزيادة نسبة حزبه من أصوات الناخبين، وبالتالي لا يبقى أمام خصومه إلا خيار الانشقاق، ليعود الحزب الذي أسسه مؤسس الجمهورية وحاكم تركيا لوحده حتى عام 1950  مصطفى كمال أتاتورك، كما كان في فترة ما قبل العدالة والتنمية حزبا صغيرا يصارع على الحصول على نسبة 10% التي ترشحه لدخول مجلس الشعب.

مشهد تركي مختلف
هكذا، وكما كان متوقعا، تركت الانتخابات البلدية بسياقها ونتائجها بصمة واضحة على المشهد السياسي التركي الداخلي، فضلا عن آثارها الخارجية، إقليميا ودوليا، التي لا مجال لتناولها في هذا المقال.

فانعكاساتها على الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية، وعلى شكل وبنية المعارضة الضعيفة ابتداء، وعلى حملة الحكومة لتطهير مؤسسات الدولة المختلفة من "التنظيم الموازي"، تجعل منها محطة مهمة قد تغير الخريطة الحزبية للنظام السياسي المستقر في تركيا منذ ما يقرب من اثني عشر عاما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.