التاريخ لا يكتبه المنتصرون

التاريخ لا يكتبه المنتصرون - عادل لطيفي

في أصل المقولة
ماذا يقول التاريخ؟
الحركة الوطنية التونسية

يردد كثيرون مقولة "التاريخ يكتبه المنتصرون" وكأنها قاعدة معرفية يستقيم عليها بناء المعرفة التاريخية، بل صار العديد يعتمد عليها كأنها من بين الحقائق المطلقة التي تقبل آليا دون مناقشة أو مساءلة.

وقد شهدت الساحة التونسية مؤخرا استعمالا مكثفا لهذه العبارة بمناسبة إحياء عيدي الاستقلال (20 مارس/آذار) والشهداء (9 أبريل/نيسان) مع الدعوة إلى مراجعة تاريخ الحركة الوطنية التونسية التي يقول البعض إن بورقيبة هو الذي كتبها باعتباره المنتصر.

إن في مثل هذا التداول الشعبي لما يعتقد أنها قاعدة علمية جهل كبير سواء في أصل المقولة أو في التاريخ كعلم.

في أصل المقولة
يستعمل البعض مقولة "التاريخ يكتبه المنتصرون" وكأنها عصارة جهد أهل الاختصاص من المؤرخين أو هي حصيلة تراكم المعرفة في مجال فلسفة التاريخ، والحال أنها ظهرت في ظروف تاريخية معينة هي التي أعطتها شحنتها وحددت معناها.

من يرددون مقولة التاريخ يصنعه المنتصرون لا يعرفون أن القصد منها ليس تقديم تصور للتاريخ كعلم، بل تمجيد مقولة العظمة التي انتشرت في الفكر السياسي اليميني في فترة ما بين الحربين

في فرنسا تنسب المقولة إلى المتطرف اليميني روبار برازياك الذي عرف بنشاطه مع النازيين كما عُرف بمواقفه المتطرفة التي عبر عنها في النشريات التي أشرف عليها.

تورد بعض المصادر أنه قال "التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين" عندما كان سينفذ عليه حكم الإعدام سنة 1945 بتهمة الخيانة والتعامل مع العدو.

أما من وجهة نظر أكاديمية فتنسب المقولة إلى المفكر الألماني من أصل يهودي والمتأثر بالمادية التاريخية والتر بنيامين. وهو في الحقيقة استعملها من جانب نقدي سنة 1940 كي يميز بين ناسخ التاريخ أو مدون الأخبار الذي يتأثر بالمنتصر وبما هو ظاهر، وبين المؤرخ المادي الذي وجب عليه الاهتمام بالإنسان منتصرا كان أم منهزما.

وهذا المنحى التفكيكي يعني أن الفكرة كانت متداولة في تلك الفترة، وبالفعل فقد انتشرت في أوروبا خلال الثلاثينيات من القرن الماضي في إطار انتشار الأيديولوجيات "الكليانية"، وهي أفكار تمجد العظمة والانتصار والقائد الملهم.

إذ نجد أثارا لهذه التوجهات حتى في فكر الفيلسوف الكبير مارتن هيدجر الذي كان يطالب الأشخاص باختيار رموزهم من بين الزعماء الكبار الذين طبعوا التاريخ كي يضمنوا الانتصار في الحاضر، وكان ذلك في فترة تقاربه مع الفكر النازي سنة 1934. نجد في بعض خطب هتلر نفسه إيحاءات بجدوى العظمة في التاريخ وبجدوى الانتصار لطبع المستقبل.

من الواضح أن من يرددون مقولة "التاريخ يصنعه المنتصرون" لا يعرفون أن القصد منها ليس تقديم تصور للتاريخ كعلم، بل كان القصد تمجيد مقولة العظمة التي انتشرت في الفكر السياسي اليميني في فترة ما بين الحربين.

وفي هذا السياق تأتي الأفكار النقدية التفكيكية لهذه المقولة من طرف ولتر بنيامين لتخرج التاريخ من سجن الإخبار عن الظواهر العيانية، أي أخبار الدولة والمنتصرين، إلى أخبار الإنسان وخاصة المنهزمين منهم وذلك في إطار قراءة مادية للتاريخ متأثرة بالفهم الماركسي.

ماذا يقول التاريخ؟
إنه لمن باب المفارقة أن نجد أكثر من يستعمل مقولة "التاريخ يصنعه المنتصرون" هم من غير المؤرخين، وهذا ينطبق على عديد المقولات الأخرى المتعلقة بفهم التاريخ.

مثل هذه الحالة تحيل إلى أن الجمهور العريض ينطلق في فهمه للتاريخ من اختصارات ومقولات توحي بالحكمة أكثر من البحث في عمق الأشياء لغاية الفهم. فالمقولة المختصرة توهم السامع بسعة المعرفة كما تكسب الخطاب نوعا من الهيبة. وفي مثل هذا التمشي تبسيط كبير يعيق المصالحة بين المعرفة وجمهور القراء من غير المتخصصين.

من جهة ثانية، لا يمكننا أن نحصر التاريخ سواء كحدث ماض أو كمعرفة به في بعد الصراع والانتصار والمواجهة والهزيمة. مثل هذا الفهم يوحي من ناحية بأن هناك ما يمكن تسميته بكنه التاريخ أو ماهية التاريخ التي لها قوانينها.

كما أنه يسحب من حيز التفكير التاريخي مفاهيم مثل التواصل والتبادل والتأثير والتأثر، وهي ضرورية لفهم الظاهرة البشرية كظاهرة معقدة ومتداخلة من ناحية ثانية.

علينا أن نميز حسب رأيي بين ثلاثة أصناف من التاريخ، أو لنقل ثلاثة معان مختلفة. إن التاريخ المتحدث عنه في المقولة هو التاريخ المعيش كتجربة تخلد في الزمن ذكر المنجزات وأصحابها.
هذا التاريخ يمثل فقط "الحدث" بالنسبة للمؤرخ والحال أن الحدث لا يختزل التاريخ. الحدث هو المادة الأولية للمؤرخ لا أكثر. إذا توقفنا عند هذا الحد فنحن نبقى في مستوى الإخبار الذي ميزه ابن خلدون عن باطن التاريخ.

المستوى الثاني هو التاريخ كمعرفة أي كعلم له موضوعه وله منهجيته. وفي هذا الإطار يتميز التاريخ بكونه تقريبا العلم الوحيد الذي يبحث في موضوع لم يعد موجودا (الماضي) وذلك عبر آثاره التي يسميها المؤرخ مصادر.

إنْ استعمل التاريخ لأغراض سياسية أو حزبية أو عقائدية يسمى التاريخ الأيديولوجيا، وإن استعمل من طرف السلطة سمي تاريخا رسميا، أما إذا استعمل لأغراض الهوية فيسمى التاريخ الذاكرة

هذا التاريخ لا يكتبه إلا من تمكن من منهجية البحث التاريخي وعلى رأسهم المؤرخ اعتمادا على كل أثر الماضي.

ولهذا التاريخ ثلاثة مستويات هي الحدث ثم الأثر الذي يدل على الحدث ثم في النهاية منهجية المؤرخ (مكافحة المصادر، وتدقيقها، واعتماد الموضوعية، وإدراج الظواهر في سياق تطوري..). هذه المصادر متنوعة وحتى ما خلفه المنتصرون يحيل بالنسبة للمؤرخ إلى الصامتين والمنهزمين من الفاعلين التاريخيين.

هذا هو التاريخ الحقيقي الخاضع لمنطق التجريب والنقد والموضوعية. وهو تاريخ يعدل ذاته داخليا من خلال النقد الذاتي وتراكم المعرفة، كما أنه يعدل ذاته على ضوء المصادر المكتشفة حديثا.

في النهاية هناك ما نسميه التاريخ الوسيلة أو الأداة أي استعمال التاريخ الحدث والتاريخ المعرفة لأغراض سياسية، وأيديولوجية أو ثقافية (الهوية).

فإن استعمل التاريخ لأغراض سياسية أو حزبية أو عقائدية يسمى التاريخ الأيديولوجيا، وإن استعمل من طرف السلطة سمي تاريخا رسميا، أما إذا استعمل لأغراض الهوية فيسمى التاريخ الذاكرة أو التاريخ الوجداني.

ويعتمد هذا الصنف على قراءة انتقائية تجمع ما يناسب من الأحداث ومن بعض التاريخ المعرفي حسب الحاجة. أبرز مثال على ذلك برامج تدريس التاريخ في المناهج الرسمية والتي تذهب غالبا إلى إنشاء الهوية الوطنية المحلية وإعادة إنتاج شرعية النظام القائم أو دعم السلطة القائمة. لنا أمثلة عديدة من بينها مثلا تاريخ الدولة العباسية في عهد صدام حسين أو تاريخ الدولة الأموية في المناهج السورية.

نذكّر في هذا الإطار بمصطلح يكثر استعماله عند الحديث عن المعرفة التاريخية وهو مفهوم الحقيقة، إذ يعتقد البعض ممن ليسوا من الميدان أن هدف المؤرخ هو الوصول إلى الحقيقة. فكأنها موجودة في مكان ما وما عليه سوى الكشف عنها.

الحقيقة التاريخية من وجهة نظر معرفية لا توجد في ذاتها، بل هي عملية بناء متواصل مرتبطة بتراكم المعرفة التاريخية وبمدى تنوع المصادر وكذلك بتطور المنهجية.

الحركة الوطنية التونسية
بإمكاننا أن نقدم بعض النماذج المجسدة للأبعاد النظرية التي تم التطرق إليها سابقا، وربما توفر لنا الحالة التونسية الحالية نموذجا معبرا باعتبار جو الحريات الذي ساد بعد الثورة والذي سمح لكل الألوان بالتعبير عن رؤيتها.

إذ يحتد النقاش في كل مرة يتم خلالها الاحتفال بمناسبات وطنية بين من يستغلها لتصفية حسابات مع بورقيبة وربما مع الدولة الوطنية ذاتها، وبين من يرى فيه بطل الاستقلال.

إذ يرى المناهضون لبورقيبة وأغلبهم من الإسلاميين ومن بعض القوميين، أن بورقيبة انقلب على أب الحركة الوطنية التونسية الشيخ عبد العزيز الثعالبي. كما يرون أن استقلال تونس كان صفقة بين فرنسا وبورقيبة لتحضيره لقيادة البلاد وتسلم مقاليد السلطة.

وقد وصل الأمر بإحدى القيادات الإسلامية إلى نفي وجود وثيقة الاستقلال الرسمية. في هذا القول الكثير من الشطط ومن الجهل سواء بالتاريخ كمعرفة أو بالتاريخ كوقائع. الغريب أن هذا النقاش يتم في إطار تغييب كلي للمؤرخين ليتخذ السجال منحى استعمال ساذج أحيانا للتاريخ الأيديولوجي.

أول مغالطة تقع فيها هذه القراءة هو حصرها للمصادر الأرشيفية فيما يمكن أن توفره الجهات الرسمية، أي دولة بورقيبة. والحال أن مصادر الحركة الوطنية في تونس متنوعة ومنها مصادر الدولة التونسية ثم مصادر الإدارة الفرنسية ومصادر القناصل الأوروبيين. كما هناك مصادر مجتمعية من خلال وثائق العائلات ودفاتر عدول الإشهاد وشهادات المعاصرين إلى غير ذلك.

أي أن التاريخ المعاصر لا يفلت بسهولة من صرامة البحث بسبب كثرة المصادر وتنوعها. ففي تونس نجد تاريخا رسميا للحركة الوطنية حاول بورقيبة طبعه بشخصه لكن ذلك لم يمنع وجود تاريخ معرفي أكاديمي يجهله التونسيون وخاصة بعض السياسيين.

التاريخ المعاصر لا يفلت بسهولة من صرامة البحث بسبب كثرة المصادر وتنوعها. ففي تونس نجد تاريخا رسميا للحركة الوطنية حاول بورقيبة طبعه بشخصه، لكن ذلك لم يمنع وجود تاريخ معرفي يجهله البعض

بورقيبة هو في الحقيقة وليد عصره ووليد تطور البلاد سواء خلال عهد الإصلاحات التنظيماتية في القرن التاسع عشر أو خلال الفترة الاستعمارية.

أما انتقال الزعامة من الثعالبي إلى بورقيبة قتم في سياق تطور المجتمع التونسي والوضع السياسي، حيث تزايدت في المدن وفي الجهات أعداد الشباب بسبب النمو الديمغرافي والنزوح.

في المقابل حافظ العمل الوطني زمن الثعالبي على بعده النخبوي الأرستقراطي من خلال البيانات والوفود. أما بورقيبة فكان ومجموعة من الشباب متحمسين لتوسيع العمل الوطني ليشمل الشرائح الشبابية الجديدة في إطار عمل جماهيري، أي أن السياق العام كان يفرض التغيير في آلية العمل الوطني لمواجهة المستعمر.

أما القول بأن الاستقلال جاء في إطار صفقة فهذا تكذبه الوقائع، لأن استقلال تونس تم في نفس الوقت مع المغرب ومع الهند الصينية تحت إشراف الرئيس الفرنسي الاشتراكي بيار منداس فرانس، وإلا ما المانع عندها من اتهام الملك محمد الخامس بالعمالة ومعه حزب الاستقلال المغربي؟ هذا دون الحديث عن اقتناع الدول الاستعمارية الكبرى منذ الثلاثينيات بأن الاستعمار المباشر مكلف جدا.

أما فقدان وثيقة الاستقلال ففيه الكثير من السذاجة. أولا لأنها موجودة، ثم ثانيا إذا افترضنا أن أحدا في تونس أخفاها بقدرة قادر فكيف للسلطات الفرنسية أن تخفيها عن مؤرخيها وعن مؤسساتها؟

الواقع أن عديد الفاعلين السياسيين في تونس يغالطون الرأي العام من خلال روايات غريبة تنسب إلى التاريخ جزافا. هم يجهلون ما أنجزه المؤرخون التونسيون بمن فيهم معارضون لبورقيبة من أعمال قيمة حول تاريخ الحركة الوطنية التونسية دون أي تدخل أو ضغط رسمي.

فالمطلوب اليوم ليس إعادة كتابة التاريخ، بل الانفتاح على ما كتب وأنجز داخل فضاء الجامعة للتأكد من أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.