جنيف2 وحديث المتشائمين

جنيف2 وحديث المتشائمين / أكرم البني

undefined

أن ينعى الأخضر الإبراهيمي جنيف2 ويعيد الملف السوري من جديد إلى عهدة مجلس الأمن، وأن تشيد الإدارة الأميركية بأداء المعارضة السورية وتحمّل النظام مسؤولية فشل المؤتمر بينما يعود الوفد الرسمي المفاوض إلى دمشق مدعيا الانتصار وساخرا من المجتمع الدولي، هي حقائق تؤكد توقعات المتشائمين بأن مفاوضات جنيف2 لن تسفر عن أي نتائج حاسمة لمعالجة الصراع الدموي المتفاقم في البلاد.

والحال أن ثمة أسبابا عديدة ومتضافرة لدى المتشائمين تفسر هذا العقم المزمن وتبين الدوافع الكامنة وراء تبديد هذه الفرصة المتاحة لنقل الصراع السوري من مساره العنفي إلى الحقل السياسي، تبدأ بغياب إرادة أممية حازمة تسعى لإخماد هذه البؤرة من التوتر وتفرض الحل السياسي فرضا على المتصارعين، وكأن شدة هذه المحنة وما تخلفه من خراب ليست كافية لكي يقول المجتمع الدولي كلمته الحاسمة في الشأن السوري.

أكثر من ذلك ثمة ما يصح اعتباره توافقا موضوعيا ودوافع متقاطعة لدى أميركا وروسيا بصفتهما الدولتين الراعيتين والأكثر تأثيرا في عدم تعجل حسم الصراع، مما يشي وللأسف باستمرار حاجتهما للاستثمار فيه، من دون اعتبار لما يخلفه من ضحايا ودمار وآلام.

ثمة ما يصح اعتباره توافقا بين أميركا وروسيا بصفتهما الدولتين الراعيتين والأكثر تأثيرا
في عدم التعجل
بحسم الصراع، مما يشي  باستمرار حاجتهما للاستثمار فيه من دون اعتبار لما يخلفه من ضحايا ودمار وآلام

هل الأمر يتعلق بمصلحة مشتركة في مواجهة إرهاب أصولي يتنامى ويمتد
في سوريا عبر الإفادة من اشتعال التوتر الطائفي هناك لضرب أكثر القوى الجهادية تشددا اليوم "تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام"، وغدا "جبهة النصرة" وبينهما استنزاف القوى الشيعية المتطرفة، والنيل من أهم كوادرها العسكرية، إن من حزب الله أو من المقاتلين العراقيين والإيرانيين.

وهو الأمر الذي لم يخفِه خبراء سياسيون وأمنيون غربيون في رهانهم على تحول الساحة السورية إلى بؤرة جاذبة للجماعات المؤمنة بنهج "القاعدة" وتشجيع الخلايا الجهادية النائمة أو الكامنة في مختلف البلدان كي تخرج من مكامنها وتضع جهودها وكفاءاتها لإنجاح ما يثار عن "انتصار مرتقب لأمة الإسلام في بلاد الشام"، الأمر الذي يفضي إلى كشفها وتسهيل تصفيتها وتاليا إزاحة أحد المخاطر الغامضة عن أوروبا وروسيا وأميركا. 

وربما يعود الأمر إلى ضرورة تمرير وقت كافٍ لنزع مخالب النظام الإقليمية، إن بمحاصرة محاولات إفلاته من المهل المحددة لتسليم مخزونه من السلاح الكيمائي، وإن بتحييد ما تبقى من أسلحة الدمار الشامل ووضعها تحت السيطرة ضمانا لأمن إسرائيل، وإن بمشاغلته سياسيا لإفشال محاولات تصدير أزمته إلى بلدان الجوار متوسلا بالمساحات الحدودية الواسعة والتداخل العشائري والديني والقومي. 

ولعل الأمر يتعلق باستنزاف إيران ودفعها لتقديم مزيد من التنازلات بشأن ملفها النووي ونفوذها الإقليمي، وربما بتوظيف هذا الصراع لزيادة الأعباء التي تتكبدها بعض الدول العربية ولكي تستمر حاجتها للدورين الأميركي والروسي في ضمان استقرار المنطقة، من دون أن نغفل أهمية تحضير البديل المناسب الذي يمكنهما من ضبط مجتمع منهك ويطمئنهما على مصير الأقليات وعلى عدم حصول تأثيرات سلبية للتغيير السوري على مصالح إسرائيل وأمنها الإستراتيجي.

من جهة أخرى، يدفع بعض المتشائمين موقفهم إلى نهاية الشوط بالقول بعجز المجتمع الدولي عن وضع حد لما يجري في سوريا حتى وإن كان راغبا في ذلك، بفعل خصوصية أطراف الصراع وتشابكاتها الإقليمية.

يحدث ذلك مرة جراء قوة الدور الإيراني وتأثيره النوعي، فالقول مثلا إن إيران جزء من المشكلة السورية يعني بداهة أنها جزء من الحل، والحل لن تمرره طهران عبر حكومة انتقالية تدشن عملية تفكيك النظام، بل بالاستماتة في الدفاع عنه، الأمر الذي يفسر رفضها الاعتراف بجنيف1 كشرط مسبق لحضور المؤتمر، ويفسر تشددها لتعطيل التوافق الأميركي الروسي وثمرته قرار مجلس الأمن رقم 2118، وتاليا جهودها لكي لا يسفر المؤتمر عن أي نتائج يمكن أن تضر نفوذها المشرقي.

مارست إيران ذلك ابتداء عبر تشجيع النظام على المماطلة والتسويف وعدم تقديم تنازلات جوهرية، مرورا بمغازلة الحليف الروسي وحثه على مقارعة الإرادة الأميركية وتهميش دورها، ومرورا بالتركيز على الخيار العسكري كمقدمة لخلق توازنات جديدة على الأرض تجبر الأطراف الغربية على مراجعة حساباتها.

وسواء كان ذلك في سوريا عبر تسعير المعارك والقتال وآخرها ما يجري على جبهة القلمون قرب دمشق، حيث تعتقد أن تبديل المشهد بات ممكنا في ضوء التراجع والاضطراب الذي تعانيه المعارضة وضعف الدعم العسكري لها، أو في العراق بدعم حكومة المالكي في عمليات عسكرية واسعة لفض الاعتصامات في الشارع السني ولتطهير الفلوجة والأنبار من "تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام" مستفيدة من الصورة المنبوذة شعبيا لهذا التنظيم ومن المعارك التي فتحت على الأرض السورية بينه وبين فصائل "الجيش الحر".

لا مصلحة للنظام في مؤتمر يبدو مجرد انعقاده إعلان فشل صريح للخيار العسكري، ولعجز التجارب التدميرية الأخيرة عن الحسم
أو تبديل التوازنات القائمة

أو كان ذلك في لبنان عبر تغطية التدخل الواسع لحزب الله في الصراع السوري، ثم حثه على تقديم تنازلات ما كان ليقدمها مسبقا، لتشكيل حكومة جديدة يمكن أن تخفف من تصاعد الشحن الطائفي هناك ومن ردود الأفعال اللبنانية ضده، حيث تعتبر طهران كل ما سبق سلة واحدة في المفاوضات التي تجريها مع الغرب بشأن ملفها النووي ونفوذها الإقليمي، بحيث لا يمكن أن تعالج قضية فيها بعزل عن القضايا الأخرى.

ومرة ثانية بسبب طبيعة السلطة السورية العاجزة عن تقديم أي تنازل جوهري في طريق الحل السياسي، ولا تزال تراهن على منطق القوة والغلبة لإعادة المجتمع إلى صورته القديمة، تعززها حقيقة أنتجتها وفرة من تجاربها العتيقة، بأن العمل الوحيد لدوام السيطرة ليس الاستجابة لمطالب الناس بل الاستمرار في قمعهم وإرهابهم.

وتأسيسا على ما سبق، لا مصلحة للنظام بالمشاركة في مؤتمر يبدو مجرد انعقاده إعلان فشل صريح للخيار العسكري، ولعجز التجارب التدميرية الأخيرة عن الحسم أو تبديل التوازنات القائمة، ولأنه يدرك أن إطلاق العملية السياسية سيفضي إلى إعادة بناء المواقف والاصطفافات بصورة لا ترضيه، خاصة وقد بدأ يخسر معركته في إقناع العالم باعتماده شريكا في مكافحة الإرهاب، خسارة ظهرت ملامحها ليس فقط من خلال التشهير بشدة التعذيب والفتك الذين يمارس في البلاد، وليس من خلال تصدي أهم كتائب المعارضة المسلحة على اختلاف جذورها الإيديولوجية لـ"تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام"، وإنما الأهم من خلال تكرار التصريحات الغربية الرسمية التي باتت تحمّل النظام مسؤولية دعم الإرهاب، ليبدو مخرجه الوحيد هو إفشال المؤتمر بكل الطرق والوسائل، ولا بأس من وضع مسؤولية ذلك على عاتق المعارضة.

وتجلى ذلك من خلال التمسك بتفسيرات خاصة تمسخ جوهر التوافق الدولي في جنيف1، خاصة بشأن أولوية تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة، أو عبر إفراغ المفاوضات من محتواها، وإشغالها ببعض الاشتراطات المربكة والمعيقة، أو بالإصرار على أولوية مكافحة الإرهاب وتحويل الأنظار نحو اتهام الأطراف التي تمد المعارضة بالسلاح بأنها تدعم الإرهاب كما كان الحال في الهجوم الشديد إبان انعقاد المؤتمر، على ما أشيع عن قرار سري للكونغرس الأميركي بتسليح بعض أطراف المعارضة السورية، والأهم استثمار مناخات المؤتمر وما يوفره من تغطية سياسية لتفعيل لغة العنف والتدمير عساها تبدل التوازنات على الأرض.

وما يزيد الطين بلة اتساع الهوة بين السلطة والمعارضة ووضوح مواقف متضاربة ومتعارضة بشدة بينهما، وهي هوة أكبر من إمكانية التوصل إلى جدول ناجع يمكن على أساسه الاستمرار في إدارة التفاوض، فما بالك بالتوصل إلى خطة للتنفيذ!

ونضيف واقع المعارضة السياسية التي لم يكن من خيار أمامها سوى المشاركة في جنيف2، ولكن كطرف غير مقرر بسبب تشتتها وضعف تأثيرها على الجماعات المسلحة، والأهم ما أفرزه طول أمد الصراع من مراكز أمنية وعسكرية داخل النظام نفسه، وفي جماعات المعارضة المسلحة، تتفق موضوعيا على استمرار ما خلقته سطوة الفوضى والسلاح وترفض خسارة ما جنته من مكاسب وامتيازات، ومثل هذه القوى لن تتردد في توظيف ما حازته من إمكانيات لإفشال أي مشروع سياسي، خاصة عبر تبادل الأدوار لتسعير الصراع العسكري وإبقاء مناخ الحرب مسيطرا على الجميع.

صحيح أن نتائج مؤتمر جنيف2 أظهرت أن الموازين الداخلية والخيارات الدولية في اللحظة الراهنة لا تسمح بفرض حل سياسي عادل يحقق طموح الشعب السوري، لكن لا يزال صحيحا القول إن مؤتمر جنيف2 ما كان ليرى النور حتى شكليا لولا وجود توافق أميركي روسي على الحل السياسي، ولولا تنامي قدرة الطرفين في التحكم بمصير هذه البؤرة من التوتر والضغط على الأطراف المتحاربة فيها، بما يجعلها مجرد دمى وأدوات تنفيذ.

لم يشهد التاريخ بؤرة صراع عرفت هذا الاستهتار الدولي المخزي بالأرواح كما الحالة السورية، والأنكى حين يتم ذلك في ظل ثورة اتصالات تنقل مشاهد مروعة لكل بيت وتكشف للجميع محنة إنسانية يعجز اللسان عن عرضها ووصفها

والدليل هو ثبات التوقعات بحضور وفد المعارضة السورية على الرغم من الخلافات والتباينات في الرأي التي شهدتها صفوفها قبل المؤتمر، ثم رضوخ النظام وموافقته على الحضور في الجولتين، بمجرد أن أدرك أن حلفاءه، خاصة في موسكو لا يرضيهم غير ذلك.

وإذ نعترف بأن فشل مؤتمر جنيف2 منح المجتمع الدولي فرصة تحميل الأطراف المتحاربة مسؤولية استمرار الصراع والتهرب تاليا من واجبه الإنساني لكن يبقى ذلك مؤقتا، فمع تزايد الحرج الأخلاقي العالمي من توغل البلاد المفزع في العنف وما يخلفه من مشاهد للضحايا والدمار لا يحتملها عقل أو ضمير، وأعداد ما فتئت تتزايد من المشردين واللاجئين والمنكوبين، ومع تنامي مخاطر انفجار الصراع في بلدان الجوار وتهديده استقرار المنطقة والأمن الإسرائيلي يصح توقع تبدل في الموقف الدولي.

وهو موقف قد يتمخض مع عودة الملف السوري إلى مجلس الأمن، عن توافق أكثر جدية لفرض الحل السياسي فرضا على الجميع، حل لن يعطي ثمارا إلا في حال صدور قرار أممي يلزم أطراف الصراع بوقف فوري لإطلاق النار، وتوسل رقابة دولية ناجعة وقادرة على التهدئة ومحاصرة الأطراف المتصارعة وإجبارها على تقديم التنازلات والقبول بشروط ما كان ليقبل بها ابتداء.

وحتى ذلك الحين لا نعرف إلى أي حد موجع ومدمر يمكن أن تصل بنا الأمور قبل أن تطوى صفحة الاستبداد، وحتى تقتنع أطراف الصراع بأن استمرار الفتك والتنكيل سيقود المجتمع نحو مسار خطير، جوهره الإطاحة بأبسط الحقوق الإنسانية وتفكيك مقومات الحياة المشتركة وتدمير المعايير الوطنية الجامعة ومستقبل أطفال أبرياء كانوا ينتظرون وعدا وأملا بغد أفضل!

لم يشهد التاريخ بؤرة صراع دموي عرفت هذا الاستهتار الدولي المخزي بالأرواح التي تزهق كما الحالة السورية، والأنكى حين يتم ذلك في ظل ثورة الاتصالات ومشاهد مروعة تصل إلى كل بيت وتكشف للجميع محنة إنسانية يعجز اللسان عن عرضها ووصفها، فإلى متى تبقى سوريا أسيرة هذا المصير المرعب، وإلى متى يبدو العالم -عربا وعجما- غير مكترث، وكأنه بحكوماته وشعوبه يقتات على أنات الضحايا والمعذبين؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.