"الإرهاب الجيّد" في سوريا والعراق

مقاتلوا الحشد الشعبي يدعمون الجيش

احتلت ظاهرة "المقاتلين الأجانب" خلال العام حيّزا هاما من الانشغال الدولي بها، ومخاطر تفاقم هذه الظاهرة وانعكاساتها المستقبلية على المستوى الإقليمي والدولي، ولأوّل مرة يتم حشد قرارات دولية لمواجهتها.

فالحملة الدولية التي تشنّ منذ عدّة أشهر ضد تنظيم الدولة "داعش" بقيادة الولايات المتّحدة بشكل أساسي تستند من الناحية القانونية إلى قرار مجلس الأمن رقم 2170 المتخذ في الجلسة 7242 بتاريخ 15 أغسطس/آب 2014، وقرار مجلس الأمن رقم 2178 في الجلسة 7272 بتاريخ 24 سبتمبر/أيلول 2014. وقد صدر القراران تحت الفصل السابق من ميثاق الأمم المتحدة والذي يتضمن جواز استخدام القوّة ضد الأطراف التي صدر القرار بحقها وفق المادة 42 من الفصل السابع.

القرار 2170 طويل وفيه الكثير من التفاصيل، لكن المدقق فيه سيلاحظ أنّه خصص صفة "المقاتل الأجنبي"، لأولئك الذين انضموا من الخارج إلى ثلاثة أطراف فقط هي: تنظيم الدولة "داعش"، الذي كان معروفا آنذاك باسم تنظيم الدولة في العراق والشام، وجبهة النصرة، وتنظيم القاعدة، بالإضافة إلى أي جماعة ترتبط بشكل مطلق بتنظيم القاعدة.

ويعتبر أن تدفق مقاتلين أجانب إلى هذه التنظيمات أجج النزاع وساهم في إشاعة التطرف العنيف، ومطالبا هذه الكيانات الثلاثة بالكف فورا عن كل أشكال العنف وأعمال الإرهاب ونزع سلاحها وتسريح قواتها فورا، بالإضافة إلى مطالبته جميع الإرهابيين الأجانب المرتبطين بهذه الكيانات بالانسحاب فورا.

أمّا القرار 2178 فإنه يسمي أيضا بالاسم التنظيمات الثلاثة السابقة الذكر، لكنه في المقابل يتضمن تعريفا واضحاً لماهية "المقاتل الأجنبي"، إذ يقول عن المقاتلين الأجانب، "أي الأفراد الذين يسافرون إلى دولة غير التي يقيمون فيها أو يحملون جنسيتها بغرض ارتكاب أعمال إرهابية أو تدبيرها أو الإعداد لها أو المشاركة فيها، أو توفير تدريب على الأعمال الإرهابية، أو تلقي ذلك التدريب، بما في ذلك في سياق النزاعات المسلحة". كما يطالب القرار المقاتلين الإرهابيين الأجانب بنزع أسلحتهم والتوقف عن جميع الأعمال الإرهابية والمشاركة في القتال في أي نزاع مسلح.

هذان القراران يتجاهلان ثلاثة عناصر أساسية تتعلق بالإرهاب في سوريا والعراق:

العنصر الأول: أنّ هذا الإرهاب هو نتيجة لاستخدام العنف من قبل أنظمة استخدمت الإرهاب ضد المواطنين العزّل، وبالتالي فإن هكذا قرارات تتعامل مع النتيجة وليس مع السبب.

القرار 2170 خصص صفة "المقاتل الأجنبي" لأولئك الذين انضموا من الخارج إلى ثلاثة أطراف فقط هي: تنظيم الدولة "داعش" الذي كان معروفا آنذاك باسم تنظيم الدولة في العراق والشام، وجبهة النصرة، وتنظيم القاعدة، بالإضافة إلى أي جماعة ترتبط بشكل مطلق بتنظيم القاعدة

العنصر الثاني: أن التطرف والتحول في شكل الصراع جاء نتيجةً لتدخل المقاتلين الأجانب الشيعة، وقد حذرت العديد من التقارير لا سيما في بداية اندلاع الثورة السورية وفي العام 2012 من أن تدخل عناصر شيعية تابعة لإيران مباشرة أو لأذرعها في المنطقة كحزب الله وكتائب أبي الفضل العباس سيخلق حربا طائفية، ويحول شكل الصراع ويغذي التطرف.

العنصر الثالث: أنّ التعريف الذي أطلقه قرار مجلس الأمن 2178 على مصطلح "المقاتلون الأجانب" يتجاوز التنظيمات الثلاثة المذكورة في القرار، وينطبق تماما على التنظيمات الشيعية.

الاستنتاج الذي من الممكن أن نخرج به من هكذا قراءة يفيد بأنّ هذه القرارات مفصّلة على مقاس جماعة معيّنة، وبالتالي لا تهدف إلى معالجة المشكلة الحقيقية، فضلا عن موضوع تدفق المقاتلين الأجانب. ومن الواضح أنّ هذه القرارات شكّلت أساس الخطاب السياسي للمسؤولين الأمميين وحتى السياسيين في الدول المعنيّة بالملفين السوري والعراقي، لأنك عندما تجلس مع هؤلاء المسؤولين تلمس أن فهمهم عن "المقاتلين الأجانب" يكاد ينحصر تماما بهذه الكيانات الثلاثة، وأنّ مكافحة الإرهاب بالنسبة لهم هي مكافحة هذه التنظيمات فقط.

إن مثل هذا التعامل الانتقائي و"الأعور" إن صح التعبير ينسف مفهوم الحل من أساسه، ويعقد المشكلة بل ويزيدها. على سبيل المثال كان المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب قد أصدر خلال اجتماع عقد بين وزير خارجية الولايات المتحدة ووزير خارجية جمهورية تركيا في سبتمبر/أيلول الماضي، ولأول مرة، على الإطلاق (لائحة "الممارسات الحسنة" لرد أكثر فعالية على ظاهرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب) وتتضمن 19 ممارسة حسنة تتوزع على محاور: كشف التطرف العنيف والتدخل ضده، منع وكشف والتدخل ضد التجنيد، كشف السفر، الكشف والاعتراض عند العودة.

ووفقا لهذه اللائحة فقد ورد في البند رقم 5 أنه "يجب أن تتحاشى برامج مكافحة التطرف العنيف وأن تسعى للحيلولة دون ربط المقاتلين الإرهابيين الأجانب أو التطرف العنيف بأي دين أو ثقافة أو جماعة إثنية أو جنسية أو عرق. وفي سياق المقاتلين الإرهابيين الأجانب، هناك احتمالية قوية بشكل خاص لحدوث مثل ذلك الربط فيما يتعلق بالدين. إن مثل تلك الأساليب المتحيزة في التعامل مع التطرف العنيف ستقيد وجهات نظر أولئك المسؤولين عن وضع مبادرات مكافحة التطرف العنيف، ويمكن أن تسبب النفور لأفراد المجتمع المحلي الذين تعتبر تعاونهم هاما في إنجاح مثل هذه الجهود، كما يمكن استخدامها من قبل المجموعات الإرهابية المتطرفة كدعاية لتقويض هذه الجهود".

الفقرة الأخيرة غاية في الأهمية وتجسد لب الموضوع ولا يبدو أنّ المسؤولين الدوليين في صدد فهمها، ويدعم ذلك ما نُشر مؤخرا على سبيل المثال حول المبعوث الأممي دي مستورا، حيث اعتبر الأخير خلال لقائه مع عدد من المسؤولين رفيعي المستوى بأنّ "المليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا ليسوا مقاتلين أجانب على اعتبار أنّ النظام طلبهم"!، وهو ما يعطي انطباعا لدى المستمع بأنّ معيار تصنيف "المقاتل الأجنبي" يرتبط بطلب السلطات له أو عدم طلبها له، علما أنه وحتى في حال افترضنا جدلا صحّة هذا المعيار، فإنه لا يصح في حالة الأسد الذي لا يسيطر إلا على جزء بسيط من البلاد (حوالي الثلث وفق آخر التقديرات) لكونه نظاما غير شرعي ومتورطا في مقتل مئات الآلاف من المدنيين.

ولا يسري هذا الفهم المجتزأ لمصطلح "المقاتلين الأجانب" على هذه الشريحة الرسمية فقط، بل هناك على ما يبدو من يحاول أن يكرّس هذا الفهم الخاطئ في المجال العام، والمفاجأة أنّ هذه الجهود تأتي من قبل الجانب الأميركي مؤخرا. فعلى سبيل المثال انتشرت في الآونة الأخيرة مجموعة من الرسوم المعلوماتية (إنفوغراف) عن المقاتلين الأجانب، ربما أشهرها على الإطلاق تلك التي تتضمن رسما للكرة الأرضية وعليها خطوط من البلدان التي يأتي منها مقاتلون أجانب للذهاب إلى سوريا مع أعداد مرتبطة بكل بلد.

لاقت هذه الرسومات رواجا كبيرا في وسائل التواصل الاجتماعي ونشرت أيضا في عدد من الصحف الأجنبية المعروفة كالواشنطن بوست. لقد لفت انتباهي أنّ البلدان والأعداد تتحدث على ما يبدو فقط عن المقاتلين من مذهب معيّن. فعلى سبيل المثال، لا يوجد في الخارطة إشارة على الإطلاق لأي مقاتلين أجانب من إيران، أما العراق فالرقم هو 247 وأما لبنان فالرقم مثلا هو 890.

وقد أثار هذا الأمر فضولي على اعتبار أنّه من المعروف والموثق وجود مليشيات إيرانية في سوريا، وأنّ عدد المليشيات العراقية التابعة لإيران أيضا يفوق بكثير هذا الرقم، وأنّ أعداد عناصر حزب الله التي دخلت من لبنان إلى سوريا بالآلاف، فكيف ولماذا يتجاهل الرسم ذلك؟ بحثت عن المصدر الأساسي للصورة، فوجدت أن مصدرها هو "مجموعة صوفان" الأميركية، وعند البحث عن مديرها وجدت أن اسمه "علي صوفان" الذي عمل مع المخابرات المركزية الأميركية، وهو من أصل لبناني.

العصابات الإرهابيّة التابعة للمحور الإيراني تكاد لا تعد ولا تحصى، حتى أن فيليب سميث المتخصص بالحركات الشيعية سمّاهم في مقال نشر في الفورين بوليسي "كل رجال آية الله" وعدهم بما يفوق خمسين تنظيما، وهؤلاء ارتكبوا فظائع قبل وبعد ظهور تنظيم "داعش" ولا تقل عنه بشاعة

في مقابل كل ما ذكرناه، يتم تجاهل حقيقة وجود مقاتلين أجانب تابعين لإيران في سوريا والعراق كانوا ومازالوا السبب الأساسي والرئيسي لصناعة بيئة مثالية لإنتاج الإرهابيين، وتوليد رد الفعل الإرهابي واجتذاب المقاتلين من الخارج.

في سوريا وحدها، يحصي تقرير هام جدا صدر قبل عدّة أشهر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان 13 مليشيا شيعيّة عراقيّة تقاتل في سوريا، لعل أبرزها كتائب حزب الله ولواء أبو الفضل العباس ولواء كفيل زينب، وكتائب سيد الشهداء وفيلق الوعد الصادق ولواء الإمام الحسين، وغيرهم ممن يبلغ تعداد مقاتليهم بالآلاف، علما أنّ العدد 13 لم يشمل كل المليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تقارير أخرى أوردت أسماء بعض المجموعات الشيعية المقاتلة، التي لم ترد في تقرير الشبكة السورية. هؤلاء مسؤولون عن جرائم ومجازر ارتكبت بحق الشعب السوري وتمّ توثيقها بالصور والأسماء والفيديو.

هذه الجماعات ومقاتلوها لا يخفون أنفسهم بل يفتخرون بما يقومون به. من يجنّدهم معروف ومن يموّلهم معروف ومن يسلحهم ويدرّبهم ويرسلهم للقيام بمهام إرهابية معروف، وبالرغم من خرقهم للوائح طويلة من العقوبات المفروضة على سوريا، وبالرغم من أنّ عددا كبيرا منهم أيضا تابع للحرس الثوري الإيراني، الذي تطاله وقياداته سلسلة عقوبات دولية، إلا أنّ هناك تجاهلا دوليا لهم، وكأنهم غير موجودين أصلا، علما أنّ فتاوى المراجع الشيعية العليا الإيرانية والعراقيّة العلنية سلاح هام في دفع الأتباع الشيعة للذهاب إلى سوريا للقتال.

ويعتبر آية الله علي خامنئي والدائرة المحيطة به من رجال الدين من أهم الذين حثّوا على القتال. أمّا في الجانب العراقي، فيعتبر آية الله قاسم الطائي من أبرز رجال الدين العراقيين الذين دعوا إلى تجنيد المقاتلين في صفوف المليشيات الشيعية للقتال في سوريا. بالإضافة إلى محمد اليعقوبي وصادق الحسيني الشيرازي، حتى أنّ بعضهم لم يخف علنا أنّ الموضوع لا يتعلق بحماية الأضرحة والمزارات، داعيا الشيعة إلى مقاتلة الكفّار (يقصد السنّة) كالمرجع كاظم الحسيني الحائري المقيم في قم الذي أكّد ذلك في فتواه.

وقد وردت أسماء أخرى عديدة لأشهر المراجع والمشايخ الشيعة الذين كانوا يدعون إلى القتال في سوريا ويحشدون المتطوعين الشيعة وينظمون المقاتلين للقتال إلى جانب النظام السوري، ومنهم: قيس الخزعلي وعلاء الكعبي والشيخ إبراهيم داوية والشيخ محمود العداي والشيخ عادل الجبوري وأبو علاء النجفي، وغيرهم الكثير.

أما في العراق، فالعصابات الإرهابيّة التابعة للمحور الإيراني تكاد لا تعد ولا تحصى، حتى أن فيليب سميث المتخصص بالحركات الشيعية سمّاهم في مقال نشر في الفورين بوليسي "كل رجال آية الله" وعدهم بخمسين تنظيما، وهؤلاء ارتكبوا فظائع قبل وبعد ظهور تنظيم "داعش" ولا تقل عنه بشاعة أيضا بما في ذلك الاغتصاب وقطع الرؤوس والحناجر وحرق المعتقلين والجثث، وتفجير منازل المواطنين بعد نهبها وإهانة الرموز والشخصيات التاريخية للمسلمين، واختطاف وقتل المختطفين من السنّة رغم دفع الفدية التي يطالبون بها وقتل الأطفال.

لا نريد أن نتحدث عن 50 ألف جندي وهمي اعترف رئيس الوزراء العراقي بأنهم غير موجودين فعليا، وغالبا ما كانوا يمثلون مثل هذه المليشيات حيث تدفع الرواتب وتعطى الأسلحة لهم ويقاتلون في مكان آخر

وقد تحدّث تقرير مفصّل لمنظمة العفو الدولية نشر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن جرائم المليشيات العراقية، ولعل أكثرهم وحشية كتائب حزب الله-العراق، الذي تأسس بمساعدة حزب الله اللبناني عام 2007، وعصائب أهل الحق وكتائب بدر وجيش المهدي والحشد الشعبي وغيرهم، وبعضهم كحركة النجباء نشر مؤخرا صورا عن تسييرهم لطائرات بدون طيار في العراق، مليشيات تسير طائرات بدون طيار في دولة لها جيش وحكومة على ما تقول.

ولا نريد أن نتحدث عن خمسين ألف جندي وهمي اعترف رئيس الوزراء العراقي بأنهم غير موجودين فعليا، وغالبا ما كانوا يمثلون مثل هذه المليشيات حيث تدفع الرواتب وتعطى الأسلحة لهم ويقاتلون في مكان آخر.

الغريب أنّه لم يتم تجاهل مثل هذه الجماعات الإرهابية من قبل المجتمع الدولي فقط، بل إنّ الولايات المتّحدة تعمل معهم اليوم في العراق ضد تنظيم الدولة "داعش". وبالرغم من الإنكار العلني للإدارة الأميركية، إلا أنّ الوقائع أثبتت ذلك، كما حصل في معركة أمرلي في العراق مثلا.

كما أنّ عددا كبيرا من الخبراء الأميركيين يدركون ذلك، ومنهم من أدلى بشهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي مؤكدا أن الولايات المتحدة أصبحت عمليا تعمل مثل هذه الجماعات الإرهابية، وبعضها مدرج على لائحة الإرهاب الأميركية نفسها.

باختصار، ما يجري الآن سيؤدي إلى نتائج كارثية فيما بعد، ولن تنحصر تداعيات ذلك بالتأكيد في المحيط الإقليمي بل قد تتعداه على الأرجح إلى ما هو أبعد، إذ لطالما كانت سياسة الكيل بمكاييل متعددة سببا في تعميق الأزمات التي تواجه المنطقة منذ عقود، بالنسبة لرسالة الغرب فإن الرسالة التي قد يفهمها كثيرون في المنطقة هي أنّ هناك إرهابا سيئا وإرهابا جيدا في سوريا والعراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.