غارات "الرقة".. مغازلة للتحالف أم تحول في أولويات الحرب

آثار الغارات الجوية من قبل الطيران الحربي السوري على مدينة الرقة
الجزيرة


شكل عام 2013 انعطافه حادة في مسار الثورة السورية، حيث تراجعت قوات المعارضة المسلحة في معظم المحافظات السورية باستثناء المحافظات الشرقية والجنوبية.

أما أهم الأسباب التي تقف وراء ذلك التراجع، فمنها ما يعود لأسباب داخلية تتعلق بالمعارضة المسلحة التي لا تزال تفتقر إلى إستراتيجية عسكرية واضحة لإدارة الصراع، وشلل كبير في قيادة الجيش الحر والمجلس العسكري الأعلى، فيما تمكنت قوات النظام من إجراء تعديلات جوهرية على إستراتيجيتها العسكرية بعد اشتراك الخبراء الإيرانيين والروس والكوريين الشماليين في التخطيط والإشراف على تنفيذ العمليات العسكرية.

يضاف إلى ذلك تدخل قوات حزب الله والمليشيات الشيعية الأخرى وعناصر الحرس الثوري الإيراني في الصراع السوري لصالح قوات النظام.

أما الأسباب الخارجية فأهمها الانقسام الحاد في مواقف الدول الفاعلة الإقليمية والعالمية، وتخاذل أصدقاء الشعب السوري عن اتخاذ مواقف واضحة وصلبة لنصرة الثورة السورية.

لأن مدينة الرقة عاصمة دولة الخلافة، فإن مهاجمتها من قبل قوات النظام تمنحه -حسب اعتقاده- شهادة حسن سلوك من قبل دول التحالف، مما يؤهله للحاق بها باعتباره قوة فاعلة في محاربة تنظيم الدولة يمكن الاعتماد عليه

قابل ذلك التراجع والانتكاسة في مسيرة الثورة السورية إنجازات كبيرة في المناطق الشرقية من سوريا، حيث تمكنت قوات المعارضة المسلحة من السيطرة على محافظة الرقة في مارس/آذار 2013 وأجزاء واسعة من محافظتي دير الزور والحسكة.

استطاع تنظيم الدولة خلال الفترة نفسها من التمدد في عدة محافظات سورية، أهمها الرقة ودير الزور وحلب وإدلب ضمن ما يعرف بتحقيق مرحلة النكاية والشوكة والتي يتم من خلالها تقديم المساعدة الاقتصادية والتوعية الدينية وضبط الأمن بأسلوب دموي قاس.

ثم انتقل تنظيم الدولة بعدها إلى المرحلة الثانية وهي تطبيق مرحلة إدارة التوحش والتي نتجت عنها المواجهة العسكرية مع كتائب الجيش الحر والجبهة الإسلامية وجبهة النصرة، وأدت إلى انسحاب تنظيم الدولة من ريف إدلب وريف حلب الشمالي ولكنه سيطر على محافظة دير الزور ومحافظة الرقة وأجزاء كبيرة من ريف الحسكة.

تمثلت ردود فعل النظام السوري باعتماد مقاربة عسكرية محددة، وهي مهاجمة قوات المعارضة المسلحة والتجمعات السكنية والأسواق التجارية باستخدام قواته الجوية والقصف المدفعي والصاروخي، فيما لم تسجل أي عمليات عسكرية رئيسية ضد تنظيم الدولة، مما يؤكد وجود تفاهمات ومصالح مشتركة بين قوات النظام وتنظيم الدولة على المستوى الميداني رغم تعارض المصالح بينهما على المستوى الإستراتيجي، وكان أقسى تلك الغارات الجوية على مدينة الرقة يوم إسقاط تمثال حافظ الأسد إذ بلغت مائة غارة.

طور تنظيم الدولة من عملياته العسكرية في سوريا بعد النجاحات الإستراتيجية التي حققها بالعراق في يونيو/حزيران الماضي والتي أدت إلى سيطرة شبه كاملة على محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، فسيطر على الفرقة 17 واللواء 93 ومطار الطبقة العسكري، كما انتزع مدن منبج والباب وغيرهما في ريف حلب الشرقي من المعارضة المسلحة السورية وذلك بالتزامن مع تقدم قواته في المسرح العراقي باتجاه مدينة أربيل، مما أدى إلى التدخل الأميركي جوا لإيقاف ذلك التقدم.

قادت الولايات المتحدة حراكا سياسيا أفضى إلى تشكيل تحالف دولي ضم أكثر من ستين دولة بينها خمس دول عربية شاركت في الحملة الجوية، والتي أبلغ بها النظام من أجل عدم تعرضه للطائرات المغيرة.

حاول النظام السوري أن ينضم إلى التحالف الدولي ليثبت للعالم أنه يقاتل الإرهاب إلا أن مسعاه فشل بسبب الرفض الأميركي وإصرار الرئيس أوباما على أن الرئيس السوري فاقد الشرعية، وأنه أحد الأسباب الكامنة وراء بروز تنظيم الدولة.

استغل النظام السوري الحملة الجوية لدول التحالف فصعد من عملياته العسكرية الجوية والبرية في ريفي حماة وإدلب، كما حقق تقدما نوعيا من خلال سيطرته على منطقة حندرات ومحاولة السيطرة على طريق الكوستيلا وصولا إلى دوار الليرمون، مما يوفر له فرصة محاصرة مدينة حلب، لكن هذه الإنجازات الميدانية لم تستطع إخفاء إخفاقاته الكبيرة في القلمون ومحافظتي درعا والقنيطرة والريف الجنوبي لمدينة حلب.

التركيز على الرقة يمثل محاولة من النظام لمعالجة بعض حالات التذمر التي بدأت تظهر وتنتشر في قاعدته الاجتماعية المؤيدة بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبدتها خلال السنوات الماضية

كل ذلك دفع النظام للبحث عن إنجازات ميدانية جديدة لعلها تمنح جمهوره ومقاتليه بعضا من الثقة بالنفس التي تراجعت بعد صور الإعدامات لمئات الضباط والجنود من قبل عناصر تنظيم الدولة، فوجد ضالته في مدينة الرقة التي تقدم له العديد من الفوائد إضافة إلى ما ذكر أعلاه، ومنها:

– لأن مدينة الرقة عاصمة "دولة الخلافة" فإن مهاجمتها من قبل قوات النظام تمنح النظام السوري -حسب اعتقاده- شهادة حسن سلوك من قبل دول التحالف، مما يؤهله للحاق بها باعتباره قوة فاعلة في محاربة تنظيم الدولة يمكن الاعتماد عليه والوثوق به.

– محاولة معالجة بعض حالات التذمر التي بدأت تظهر وتنتشر في قاعدته الاجتماعية المؤيدة بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبدتها خلال السنوات الماضية وبعد أن تعمق الإحساس لديها بصحة المقولة "أبناؤك في القصر وأبناؤنا في القبر"، ولقد ظهر أثر تلك العمليات العسكرية على وسائل التواصل الاجتماعية الخاصة بها حيث أبدت فرحتها وسعادتها بنتائج القصف على مدينة الرقة، وما لحق بها من دمار وبسكانها من قتل.

– إجبار البيئة الاجتماعية الحاضنة على الخروج ضد تنظيم الدولة بسبب ما لحق بها من خسائر جراء تواجد تنظيم الدولة بينها رغم معرفته بأنه لا يلقى القبول ولكنها مجبرة على الرضوخ له.

– وضع ضغوط كبيرة على تنظيم الدولة ومحاولة تعريته أمام سكان المناطق التي يسيطر عليها، وإظهار أنه لا يكترث لدماء أبناء "دولة الخلافة" بل هو السبب بما يلحق بهم وبمدنهم من قتل وتدمير.

– ضاعف الطيران السوري غاراته الجوية على مدينة حلب وريفها ومحافظتي إدلب وحماة والرقة في الأسابيع القليلة الماضية (1755 غارة خلال أربعين يوما)، وبالتزامن مع تزايد الحديث عن إنشاء مناطق اَمنة ومنطقة حظر طيران في شمالي وجنوبي سوريا، وسعي العديد من الدول لدعم خطة المبعوث الدولي دي مستورا لتجميد الصراع في المناطق الساخنة يمكن أن تصنف هذه الغارات على أنها ضربات استباقية لمواجهة أي قرار قد يصدر لاحقا.

– تعتبر مجزرة الرقة حلقة في سلسلة المجازر التي ارتكبها النظام السوري في حق شعبه، ويمكن وضعها جميعا تحت عنوان واحد وهو الانتقام من شعب نهض من تحت رماد القهر والظلم مطالبا بالحرية والكرامة.

أثيرت العديد من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت قوات النظام لشن ذلك الهجوم الدموي على مدينة الرقة، ومنها: هل تضغط واشنطن على النظام للقضاء على التنظيم؟ وهل يستطيع النظام أصلا القضاء على التنظيم؟ وهل يوجد تنسيق بين النظام وقوات التحالف؟

 

من غير المعقول أن تنسق الإدارة الأميركية مع النظام السوري بعد تلك التصريحات وما سبقها من تصريحات للمسؤولين الأميركيين بأن الأسد فاقد الشرعية وشريك مع تنظيم الدولة في الإرهاب

يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال ردود الأفعال الصادرة عن تلك الدول (والتي اتصفت بالسلبية واكتفت بالإدانة اللفظية دون اتخاذ أي إجراء عملي يمنع قوات النظام من تكرارها، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على رخص الدم السوري، وأن أعداد القتلى والجرحى من الشعب السوري ليست أكثر من أرقام في حصة رياضيات عند مقارنتها بالدم الأميركي أو الأوروبي أو اليهودي)، فقد نددت الإدارة الأميركية على لسان المتحدثة باسم خارجيتها بتلك المجازر، وقالت إنها "تشعر بالهول لنتائج تلك الغارات التي قتل فيها مدنيون ودمرت مناطق مدنية، وإنه تجب محاسبة النظام السوري على جرائمه والتي تتمثل بجرائم القتل واحتجاز رهائن وإخفاءات قسرية وتعذيب وعنف واغتصاب جنسي واستخدام براميل متفجرة بشكل عشوائي".

لذلك أجد من غير المعقول أن تنسق الإدارة الأميركية مع النظام السوري بعد تلك التصريحات وما سبقها من تصريحات للمسؤولين الأميركيين بأن الأسد فاقد الشرعية وشريك مع تنظيم الدولة في الإرهاب، ولم نلمس أي ردود فاعلة من بقية الدول الفاعلة أو الأمين العام للأمم المتحدة.

أما بشأن قدرة النظام السوري على هزيمة تنظيم الدولة فإن الجيش السوري لم يعد قادرا على كسب المعارك الحاسمة دون المشاركة الفاعلة من شركائه، خاصة حزب الله والمليشيات الشيعية والذين تراجع حضورهم الميداني في الأشهر الأخيرة بسبب تصاعد حدة القتال في العراق، مما أجبر بعض المقاتلين الشيعة على العودة للعراق للالتحاق بقوات الحشد الشعبي جراء الفتوى التي أصدرها السيستاني وتزايد خسائر حزب الله، خاصة في منطقتي القلمون والشيخ مسكين بريف درعا الشمالي الغربي.

وقد أثبتت معارك السيطرة على الفرقة 17 واللواء 93 ومطار الطبقة العسكري ضعف الجيش السوري في البعدين التخطيطي والتنفيذي عندما يواجه قوات مدربة وتخضع لقيادة مركزية تمارس القيادة والسيطرة الفاعلة، أما في ما يتعلق بالتنسيق مع دول التحالف فإنه لا يتعدى إبلاغ النظام السوري عن وقت تنفيذ الغارات الجوية حتى لا يتعرض لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.