نُذر الغارة على المجتمع المدني في مصر

Riot police walk along Mohamed Mahmoud Street, in front of murals representing people killed during Egypt's uprising, on the third anniversary of violent and deadly clashes near Tahrir Square in Cairo November 19, 2014. Egyptian police arrested 25 individuals after four hundred protestors staged a march through downtown Cairo on the anniversary of deadly clashes with security forces three years ago, the interior ministry said on Wednesday. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh (EGYPT - Tags: POLITICS CIVIL UNREST ANNIVERSARY)
رويترز

المعركة الدائرة الآن حول المنظمات الحقوقية المصرية تدق الأجراس منبهة إلى أن المجتمع المدني في خطر.

(1)

يوم الأحد 23 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، خصصت جريدة الأهرام صفحة كاملة لملف المنظمات الحقوقية، ركزت على أمرين أساسيين: الأول أن حقوق الإنسان محفوظة في الداخلية (كان ذلك هو العنوان الرئيسي للصفحة الذي أبرز على ثمانية أعمدة)، الثاني أن بعض المنظمات الحقوقية تعمدت الإساءة إلى مصر وتشويه صورتها أمام الأمم المتحدة (في اجتماع مفوضية حقوق الإنسان الذي عقد بجنيف).

وكانت خلاصة الرسالة التي وجهتها صفحة الجريدة إلى القراء واضحة بأن وزارة الداخلية حارسة لحقوق الإنسان، في حين أن المنظمات الحقوقية محرضة ومتآمرة على الدولة.

الرسالة لم تكن جديدة. فالهجوم على تلك المنظمات المستقلة مستمر منذ دأبت على إصدار البيانات التي انتقدت فيها العديد من الإجراءات والممارسات التي اعتبرتها انتهاكا لحقوق الإنسان في مصر.

بيانات المنظمات الحقوقية دفعت لشن حملة إعلامية استهدفت تجريحها وتوجيه مختلف الاتهامات للعاملين فيها، تراوحت بين تشويه صورة البلد والعمالة للخارج، مرورا بالتنسيق مع مخططات التنظيم الدولي للإخوان

وكان ذلك مبررا كافيا لإطلاق حملة إعلامية استهدفت تجريحها وتوجيه مختلف الاتهامات للعاملين فيها، تراوحت بين تشويه صورة البلد والعمالة للخارج، مرورا بالتنسيق مع مخططات التنظيم الدولي للإخوان. وبسبب ذلك وبحجة مواجهة الإرهاب، دعا البعض إلى الكف عن الحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون في مصر.

اشتد أُوار المعركة حين اقترب موعد جلسة مفوضية حقوق الإنسان في جنيف المخصصة لمراجعة ومناقشة ملف مصر الحقوقي التي كان محددا لها الخامس من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، إذ كان استعراض الملف الذى يتم كل أربع سنوات مناسبة لنقل الصورة إلى المجتمع الدولي. وهو ما دفع مصر إلى بذل جهد كبير لتحسين تلك الصورة.

(2)

تحسبا لتلك المواجهة، نشرت جريدة الأهرام يوم 18 يوليو/تموز الماضي إعلانا لوزارة التضامن الاجتماعي، طالبت فيه منظمات المجتمع المدني المصرية والأجنبية بضرورة تقنين أوضاعها، تماشيا مع قانون الجمعيات الأهلية الصادر في سنة 2002 "تجنبا لتعرضها للمساءلة وفقا للتشريعات والقوانين ذات الصلة".

وإذ فوجئت المنظمات الحقوقية المستقلة بالإعلان، فإنها سارعت إلى الرد ببيان اعتبرت فيه الإجراء المعلن مخالفا لنص دستور عام 2014، وبمثابة إعلان حرب على حرية إنشاء الجمعيات الأهلية وعمل المجتمع المدني، وذكرت أن منظمات المجتمع المدني "هي خط الدفاع الأخير عن ضحايا الانتهاكات وسياسة القمع المتبعة".

رد فعل المنظمات المذكورة لم يأت من فراغ، ذلك أنها كانت قد تلقت رسائل الضيق بسياساتها من ممارسات عدة كان في مقدمتها اقتحام الشرطة بعض مقارها (المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في القاهرة والإسكندرية مثلا) كما كان منها مصادرة الأجهزة في المقار ومصادرة نشرة "بوصلة" التي تصدرها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، واعتقال بعض الناشطين العاملين في المنظمات الحقوقية. وهي أجواء وصفها مدير البرامج في مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان -الأستاذ محمد زارع- بأنها بمثابة سيف مسلط على رقاب كل العاملين في مجال حقوق الإنسان.

خلال المهلة التي أعطتها وزارة التضامن الاجتماعي للمنظمات والجمعيات الأهلية، وانتهت في 10 نوفمبر/تشرين الثاني، التقى رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الأستاذ بهيي الدين حسن رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب وشرح له وجهة نظر المنظمات الحقوقية التي تتمثل في التمسك بنص الدستور الجديد فيما يخص منظمات المجتمع المدني، الذي اشترط لقيامها مجرد إخطار السلطة بذلك، في حين أن تسجيل الجمعيات والمنظمات في ظل القانون الصادر في عام 2002 يفقدها استقلالها ويخضع أنشطتها لرقابة ووصاية السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية التي ستجعل من التسجيل وسيلة للضغط عليها.

لم يتغير موقف وزارة التضامن الاجتماعي، لكنها لم تتخذ إجراءات عقابية ضد المنظمات القائمة. وفي الوقت ذاته فإن المنظمات لم تلجأ إلى تصعيد الموقف إزاء السلطة، فاعتذرت سبع منها في بيان علني أصدرته عن عدم المشاركة في مؤتمر جنيف، من ناحية لكي لا تنقل الأزمة إلى الساحة الدولية، ومن ناحية ثانية لأنها تتجنب المواجهة في الداخل، بعدما تلقت تهديدات من جانب المؤسسة الأمنية أشارت إليها في بيانها.

مقابل الضغوط والإجراءات التي تلوح بها السلطة، فإن النشطاء الحقوقيين اعتبروا أن تراجعهم عن استقلال مؤسساتهم يفقدهم شرعيتهم ويلغي مبرر وجودهم. فمنهم من صمد ولا يزال يحارب على جبهته، ومنهم من فضل الاستقرار خارج البلاد، ومنهم من اصطف إلى جانب وزارة الداخلية

الموقف يبدو هادئا في ظاهره في الوقت الراهن، لكن موقف الضيق بالمنظمات الحقوقية لم يتغير. تؤيد ذلك قرائن عدة بينها التسريبات التي تحدثت عن مشروع قانون لتنظيم عمل الجمعيات يقضي بإشراك الأجهزة الأمنية في إدارتها، وبينها التعديل الذي أدخل مؤخرا على قانون العقوبات والمتعلق بتمويل الجمعيات، وبمقتضاه أصبحت مزاولة أي نشاط أهلي أو نقابي مغامرة تعرض من يشارك فيها لعقوبات تصل إلى السجن المؤبد أو الإعدام (القانون 128 لسنة 2014).

في مقابل الضغوط والإجراءات التي تلوح بها السلطة، فإن النشطاء الحقوقيين اعتبروا أن تراجعهم عن استقلال مؤسساتهم يفقدهم شرعيتهم ويلغي مبرر وجودهم. فمنهم من صمد ولا يزال يحارب على جبهته، ومنهم من آثر السلامة وفضل الهجرة والاستقرار خارج البلاد، ومنهم من ركب الموجة واصطف إلى جانب وزارة الداخلية التي دأبت على إنكار وجود أي انتهاكات لحقوق الإنسان في مصر.

(3)

حسب البيانات الرسمية فإن في مصر نحو 47 ألف جمعية ومنظمة تمارس نشاطها في المجال الأهلي، وإذا حذفنا الجمعيات المجمدة والعائلية فسوف نجد أن 22 ألف جمعية فقط هي التي تمارس عملا على الأرض. وهذه الأرقام لا تسبب قلقا للسلطات، وإنما مصدر القلق يتمثل في الجمعيات الحقوقية التي يتراوح عددها بين 300 و400 منظمة، لكننا إذا دققنا في قائمة الجمعيات الأخيرة جيدا فسنجد أن المنظمات الحقوقية المستقلة التي تمارس نشاطها حقيقيا في رصد الانتهاكات ومكافحتها في حدود 20 منظمة فقط، لها صوتها المسموع في داخل مصر وخارجها. وهذه المنظمات هي التي تخوض الاشتباك الراهن وهي التي تسبب الصداع.

ثمة لغط تقليدي مثار حول التمويل الخارجي للجمعيات الحقوقية والخيرية، الذي تتشكك الدولة في مصادره ومقاصده، وتحرص على أن يخضع لرقابتها. وهذا حق مشروع معترف به في العديد من بلدان العالم.

وفي أبحاث وكتب الدكتورة أماني قنديل المختصة بالموضوع عرض للأساليب المتبعة مع التمويل الخارجي الذي تحظره كلية دول الخليج، أما الهند فتسمح به شريطة أن يودع التمويل في حساب خاص وتخطر به الحكومة، التي لها أن تراقب أوجه إنفاقه ووصوله إلى مستحقيه.

وفي مصر فإن القانون يلزم أي منظمة بأن تخطر السلطات بما تتلقاه من تمويل خارجي وتراقب التصرف في المبالغ قبل تشغيلها. وبالمناسبة فإن الدكتورة أماني قنديل تقدر حجم التمويل الخارجي الذي تلقته المنظمات والجمعيات الأهلية منذ قامت الثورة في عام 2011 وحتى العام الحالي (2014) بمبلغ 750 مليون دولار، أغلبها جاء إلى مصر من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

حين ناقشت الأمر مع اثنين من قيادات المنظمات المستقلة -الأستاذين نجاد البرعي وجمال عيد- قالا إن حق الدولة في مراقبة التمويل الخارجي لا اعتراض عليه ولا جدال فيه، وإن وسائل المراقبة معروفة ومعمول بها في أغلب دول العالم. ولكن المشكلة تكمن في إقحام التسجيل في الموضوع واعتباره وسيلة للضغط على المنظمات الأهلية وابتزازها، خلال إملاء الشروط عليها، وهو ما يخالف نص المادة 75 من الدستور المصري الذي يقضي بأن تلك المنظمات تنشأ بمجرد إخطار الجهات المعنية بذلك.

ومع إقرار الجميع بأن التمويل الداخلي هو الحل الأمثل، إلا أن ذلك قد لا يتوافر في كل الأحوال، فضلا عن أن التمويل الخارجي نظام معمول به في مختلف أنحاء العالم، وله من الضمانات ما يكفل تجنب إساءة استخدامه. يضيفون أيضا أن المشكلة في مصر ظاهرها يكمن في عملية التمويل الخارجي الذي أبدت بعض المنظمات استعدادا للاستغناء عنه، لكنها تكمن في مسألة تحكم الأجهزة الأمنية التي تسعى إلى تأميم تلك المنظمات، واستخدام سلاح التسجيل وسيلة لتحقيق ذلك.

(4)

ليس عندي أي دفاع عن التمويل الأجنبي الذي يمكن اعتباره أبغض الحلال في الوقت الراهن. لكن المشكلة والمعركة التي نحن بصددها أبعد وأكبر منها. إذ المطلوب إسكات أصوات رصد الانتهاكات وكشفها.

ولعلي لا أبالغ إذا قلت إننا بصدد حرب بالوكالة. فظاهر الأمر أن التجاذب حاصل بين وزارة التضامن الاجتماعي وبين المنظمات الحقوقية، إلا أنهما ليستا الطرفين الحقيقيين في الصراع، لأن طرفيه الأصليين يقبعان في الخلف. فأحدهما يتمثل في المؤسسة الأمنية التي تعد اللاعب الرئيسي في الفضاء السياسي، وباتت ترى أن المنظمات الحقوقية تلاحق ممارساتها ومن ثم تسبب لها حرجا في الداخل والخارج.

أما الطرف الثاني فهو المجتمع المدني الذي لن تقوم له قائمة ما لم يتخلص من وصاية السلطة وقبضة مؤسستها الأمنية. وإذا صح ذلك التحليل فهو يعني أن وزارة التضامن واجهة للمؤسسة الأمنية، كما أن المنظمات الحقوقية واجهة للتواقين للحرية الحالمين بإقامة مجتمع مدني ثابت الأركان.

إن هدف المعركة الدائرة الآن هو إسكات صوت أحد أهم منابر الدفاع عن المجتمع المدني والدستور ذاته، والاصطفاف حول مقولة "الأهرام" التي ادعت أن حقوق الإنسان محفوظة في وزارة الداخلية

إننا إذا ألقينا نظرة على المشهد من زاوية أوسع فسوف نلاحظ أن موت السياسة في مصر استصحب تعاظما لدور المؤسسة الأمنية. سنلاحظ أيضا أن ضعف المجتمع المدني المتمثل في المؤسسات المعبرة عن جموع الناس والمدافعة عن مصالحهم، هو أحد العاهات التي أصيبت بها مصر في ظل عهود الاستبداد التي خلت. وذلك الضعف شديد الوضوح الآن في هزال التحالفات التي يجري تشكيلها الآن تحضيرا للانتخابات التشريعية، التي تدعو أبواق المؤسسة الأمنية إلى تأجيلها استنادا إلى ذريعة عدم الجاهزية.

في هذه الأجواء تبرز المنظمات الحقوقية المستقلة باعتبارها منبرا مهما ينتقد الانتهاكات التي ما عاد أمرها سرا (في ظل الاستخدام الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي)، فضلا عن أن ضحاياها يتزايدون يوما بعد يوم.

وقد لا أبالغ إذا قلت إنها باتت تشكل المساحة الوحيدة في مجالات العمل العام التي بقيت مكرسة للدفاع عن كرامة الإنسان المصري بغض النظر عن أي انتماء له، ومن ثم نجت من الاستقطاب البائس الذي شق الصف الوطني في مصر، وأغرق أغلب عناصر النخبة في مستنقعه.

إن هدف المعركة الدائرة الآن هو إسكات صوت أحد أهم منابر الدفاع عن المجتمع المدني والدستور ذاته. والاصطفاف حول مقولة "الأهرام" التي ادعت أن حقوق الإنسان محفوظة في الداخلية، ومن ثم فبدلا من الدعوة إلى إعادة هيكلة الداخلية انتصارا للعدالة ولحقوق الإنسان، فإننا صرنا مدعوين لأن نسلمها ملف الدفاع عن حقوق الإنسان، اقتداء بالنموذج الذي ضربته حين تم تصوير حفلة الضرب التي تعرض لها مواطن في أحد الأقسام، فعالجت الداخلية الأمر وحسمته بقرار حظر إدخال الهواتف المحمولة إلى أقسام الشرطة.

إن ظهور منظمات حقوق الإنسان يمثل أحد إفرازات الممارسة الديمقراطية، وإحدى مشكلات العالم الثالث، الذي باتت بعض دوله تحرص على أن تتجمل بلافتة حقوق الإنسان لتستر بها تكبيلها للحريات وتعطيلها لأي تقدم باتجاه الديمقراطية. ومن ثم تقويضها لمحاولات إقامة المجتمع المدني الذي بات طوق نجاة من الاستبداد وأحد أهم عناوين الربيع العربي. وأرجو ألا تكون مصر بين تلك الدول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.