الوساطات ومبادرات الصلح.. لماذا تموت في مصر؟

جانب من احتجاجات الطلاب بجامعة الأزهر العام الدراسي الماضى
الجزيرة

وتغيرت المعادلة
إشكالات في بنية النزاع
توظيف مقابل

في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك (أكتوبر/تشرين الأول 1981- فبراير/شباط 2011) قدم الإخوان المسلمون أكثر من مبادرة للخروج من مآزق سياسية أو اقتصادية مرت بها مصر، إلا أن هذا الفريق المرفوض سياسيا من قبل النظام لم يكن ليُستمَع إليه، ولو كان فيما يقدمه النجاة لسفينة الوطن، أو الرخاء لجماهير المواطنين.

وتغيرت المعادلة
كانت المعادلة السياسية لعهد مبارك تقضي بألا يُسمَح للجماعة (المحظورة قانونا) بأن ترفع رأسا، أو أن تبرز فوق المسرح السياسي بروزا صريحا، لما كان يستشعره نظام مبارك من خطرهم خاصة وخطر المعارضة عموما على وجوده، بصورة لا تخلو من مبالغات، فاحتال بكل حيلة لإقصاء معارضيه، وهو ما زاد الاحتقان في الشارع المصري بصورة تصاعدية، حتى سنحت الفرصة بالثورة على النظام واستبعاد رأسه من المشهد على يد الجيش استبعادا تكتيكيا في فبراير/شباط 2011.

لوحظ أن المبادرات السياسية ذابت في المشهد المصري ذوبان الملح في الماء، وتلاشت في بحر أحداثه الموار كأن لم تكن، بل إن بعضها قد أعلن أصحابها أنهم لم يطرحوها أصلا، شعورا منهم بالحرج أمام رد الفعل العنيف الذي واجهته لمجرد الإشارة إلى بنودها في وسائل الإعلام

الآن، وبعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بأول رئيس مصري مدني في يوليو/تموز 2013 بعد انتخابه بعام واحد، اختلف المشهد جذريا، وتعقدت خيوطه تعقدا يهدد الدولة والجماعة الوطنية المصرية برمتها، ومعه بدأت المبادرات والوساطات بين الطرفين تروح وتغدو من شخصيات بارزة محسوبة على هذا الطرف أو ذاك، أو لها استقلال نسبي عن الطرفين كليهما، من مبادرات محمد سليم العوا، وأحمد كمال أبو المجد، ومحمد علي بشر، وعبود الزمر، إلى مبادرات حسن نافعة، وشيخ الأزهر أحمد الطيب التي اقترح فيها دفع دية الشهداء، ومحمد العمدة، وأخيرا مبادرة علي فتح الباب.

وقد لوحظ أن هذه المبادرات وغيرها ذابت في المشهد السياسي المصري ذوبان الملح في الماء، وتلاشت في بحر أحداثه الموار كأن لم تكن، بل إن بعضها قد أعلن أصحابها أنهم لم يطرحوها أصلا، شعورا منهم بالحرج أمام رد الفعل العنيف الذي لقيته لمجرد الإشارة إلى بنودها في وسائل الإعلام.

وقد نلاحظ بسهولة أن بعض هذه الشخصيات دُفعت من قبل الجنرالات إلى طرح مبادراتها لاختبار الطرف الآخر، والتعرف على مدى استعداده للتعاطي مع أي مبادرة يطرحها الجيش أو وساطة يقوم بها طرف خارجي أو داخلي.

وفي المقابل نلاحظ أن شخصيات أخرى من أصحاب هذه المبادرات قرؤوا الأحداث وتعقيداتها "بواقعية" بدت لهم، فرأوا أن القوة ووسائل البطش في جانب الانقلاب، وأن بسالة خصومه ومناهضيه مهما كانت فإنها لن تكافئ قوة العسكر الباطشة، ولهذا كانت مساعي أصحاب هذه المبادرات تصب في اتجاه اقتناص أيّ مكاسب من بين أنياب العسكر.

إشكالات في بنية النزاع
ولأن النتيجة التي آلت إليها كل هذه المبادرات واحدة، فمن الطبيعي أن يطرح السؤال نفسه: لماذا تموت الوساطات ومبادرات الصلح في مصر هذه الأيام؟

والحقيقة أن البحث في بنية النزاع وإشكالاته قد تقدم الجزء الأكبر من الإجابة عن هذا السؤال، فهو صراع بين "شرعية" جاءت بها انتخابات حرة و"انقلاب" وُظّفت فيه أكبر القوى الخشنة للدولة، والأخير منذ بدايته ترك شقوقا عميقة وجراحا غائرة في البنية الاجتماعية والنفسية للدولة والمجتمع بعد التزييف والتغييب الإعلامي الممنهج وحوادث القتل والاعتقال والتعذيب المفزعة التي ارتكبها ضد خصوم ينتمي أغلبهم إلى الشريحة الشبابية المرتبطة بطبيعتها بالمثل العليا أكثر من غيرها.

ويعزز قوة المثل العليا عند هذه الشريحة ارتباط معظم أفرادها بالدين -بصورة أو بأخرى- وما يقدمه من مبشرات للشهيد والمضحِّي تتجاوز الأحلام الصغيرة -بمعوقاتها المعروفة والوفيرة- إلى أفق يتسع باتساع الجنة، ويمتد في الزمان بامتداد الأبد.

ومن هنا يصعب كثيرا -ولا يستحيل بالتأكيد- أن يحدث تنازل من هؤلاء لصالح الانقلاب. ولو راعى فصيل سياسي ما مصلحة بدت له، أو حاول التعويض السياسي عن خسائره في صورة مقارَبة أو صلح مع العسكر، فإن الحدث سيتجاوزه مهما يكن وزنه، وقد يتفتت هذا الفصيل تحت ضربات السواعد والأقدام الشابة التي إن افتقدت -بعدَها- من ينظمها، فلن تجد من يكبح جماحها عن ارتكاب العنف بشتى صوره.

مما يعقد الوضع بمصر أن الدول التي كان من الممكن أن تقوم بالوساطة قد انضمت بالفعل إلى أحد طرفي النزاع، وهذه إشكالية بنيوية خطيرة في الوضع المصري، فهو في واقعه نزاع داخلي لكن آثاره مرشحة دائما لأن تتجاوز حدود مصر إلى شقيقاتها العربيات

ولعل "التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب" أدرك هذا مبكرا، كما أدرك موضعه الحساس جيدا حين عبر في بيان سابق له عن أنه "تعامل مع المبادرات بعقل وقلب مفتوح"، إلا أنه لن يقبل بمبادرة تسمح ببقاء الانقلاب العسكري.

وأما تعقيدات موقف الانقلاب نفسه، فقد عبر المستشار طارق البشري منذ وقوعه عن صعوبة تراجع العسكر عن انقلابهم، وذلك بسبب ارتباط مصيرهم بحركتهم المضادة للديمقراطية. وهذا يعني أنه لا خيار أمامهم -ما داموا مصرّين على عدم المحاسبة- إلا أن يبقوا في السلطة، سواء تقاسموها مع غرمائهم، أم حازوا الكعكة برمتها لأنفسهم.

ويزداد بنيان النزاع في مصر تعقيدا حين نلاحظ أن الدول التي كان من الممكن أن تقوم بالوساطة قد انضمت بالفعل إلى أحد طرفي النزاع، وهذه إشكالية بنيوية خطيرة في الوضع المصري، فهو في واقعه نزاع داخلي، لكن آثاره مرشحة دائما لأن تتجاوز حدود مصر إلى شقيقاتها العربيات، بل هناك مخاوف ترددت في أقطار إسلامية غير عربية عن إمكانية انتقال عدوى الثورة إليها.

وإزاء ذلك فإما أنها اتبعت سياسة إعلامية فاترة تجاه الحدث منعا لتنمية النزعة الاعتراضية لدى جماهيرها (الحكومة السابقة في باكستان مثلا)، وإما أنها اختارت سياسة متشددة تجاه خصومها عامة، والإسلاميين خاصة (الحكومة الحالية في بنغلاديش وأحكامها بالإعدام على قيادات الجماعة الإسلامية مثلا)، أو سياسة التربص ونصب الفخاخ (الحكومة السابقة في إندونيسيا وموقفها من قادة حزب العدالة والازدهار الإسلامي مثلا).

إضافة إلى ذلك، فإن معظم الأطراف الخارجية ترى مصلحتها في دعم هذا الطرف المصري دون ذاك بصورة أو بأخرى، إما من زاوية مبدئية أخلاقية، وإما من زاوية المصالح السياسية والاقتصادية التي تهمها في المقام الأول.

من أجل هذا كله صار الانحياز إلى أحد طرفي النزاع المحتدم في الحالة المصرية سمتا عاما للأطراف الدولية والإقليمية، ولا ننسى في هذا الصدد أن زيارة المبعوثة الأوروبية كاترين أشتون لمصر عقب وقوع الانقلاب بقليل جاءت في إطار الضغط أكثر منها وساطة، أو كانت وساطة منحازة لتقديم تنازلات، ولم تتضمن عودة الشرعية ولا زوال الانقلاب من قريب أو بعيد.

وأما لجنة الحكماء الأفريقية التي التقت مرسي في محبسه في وقت مبكر، وحاولت أن تحدد لدول الاتحاد الأفريقي موقفا وتشخيصا فاصلا لما يجري في مصر منذ الثالث من يوليو/تموز 2013، فإن الإرادة السياسية لدول الاتحاد برمتها إرادة منقوصة وما زالت تعمل بتبعية، ومن هنا لم يكن لها ولا للجنة حكمائها أن تتوسط أو تقوم بدور فاعل في الأوضاع المصرية الجديدة.

توظيف مقابل

لا تبدو إشكالية الوساطات والمبادرات التي تُطرح في المبادرات نفسها، ولكن في بنية النزاع ذاته وطبيعة علاقة الأطراف المختلفة به، وإن كان هذا لا ينفي أن كثيرا من هذه المبادرات قد انحازت إلى جانب الانقلاب ضد الشرعية بصورة فجة

إذن، لا تبدو إشكالية الوساطات والمبادرات التي تُطرح لحلحلة الأوضاع في مصر في اتجاه إيجابي في المبادرات نفسها، ولكن في بنية النزاع ذاته وطبيعة علاقة الأطراف المختلفة به، وإن كان هذا لا ينفي أن كثيرا من هذه المبادرات قد انحازت إلى جانب الانقلاب ضد الشرعية بصورة فجة.

وأخطر من هذا الانحياز أن تُفهَم "الواقعية" من قبل بعض أنصار الشرعية على أنها الاستسلام والرضى بالأمر الواقع، واعتبار أن الظفر ببعض "الكعكة" خير من فقدها كلها، وأن العسكر لا يمكن زحزحتهم عن مواقعهم، خاصة في جو من الدعم الدولي والإقليمي الظاهر والخفي.

وأخيرا، فإن مناهضي الانقلاب لم يوظفوا إلى الآن -في رأيي- عامل الوساطات والمبادرات في صالحهم بدرجة كافية، ووظيفة هذه الوسيلة السياسية بالنسبة لهم قد تتمثل:

– في جس نبض النظام في قضية أو أخرى.
– وشغله بقضايا سياسية تشتت تفكيره، وقد توقع الخلاف في صفوفه.
– وإشعاره بالتجاوب الدولي مع ممثلي الشرعية.

والأفق المتاح في هذا يتمثل في استغلال مواقع بعض الشخصيات المؤثرة عالميا في طرح رؤى، وليس مجرد قراءات أو مواقف واضحة الانحياز، لحل الأزمة في مصر، وتأخذ هذه الرؤى اسم "المبادرة" حتى تحقق دويها المناسب في الساحة المصرية.

وأما خارجيا، فإن مساحة الحركة أمام الدول أوسع، ولعل مجالس وتحالفات الشرعية لم توظف المواقف الجيدة لكثير من دول أميركا الجنوبية وبعض الأطراف العربية والإسلامية بصورة كافية في هذه الناحية إلى اللحظة، واكتفت منها بالخطابات اللاذعة التي توجهها قيادات تلك الدول إلى الانقلاب وقادته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.