"تدعيش" الثورات العربية

مقاتلون من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في شوارع الرقة شمال سوريا بعد سيطرتهم على أسلحة الجيش العراقي - أسوشيتدبرس - مجلة الجزيرة
أسوشيتد برس

الحرب على الإرهاب انتقلت من مخاض الفرضية إلى عمق الحقيقة غير القابلة للنقاش على أي مستوى فكري أو أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي، بسبب اللغة العالمية الموحدة التي أصبحت لا تعرف إلا مفردة الحرب.

في السياقات الحداثية يُنظر إلى تفسير هذه الظاهرة من زاويا الإحباط واليأس التي أصابت قطاعات شعبية وشبابية بسبب فشل الأنظمة القومية "المعلمنة" في فرض ظروف واقع أكثر اتساقا مع روح العدالة ومقتضيات الحياة الكريمة.

ويذهب علماء الاجتماع والسياسيون والفلاسفة وعلماء النفس إلى تحليل بُعد أحادي لظاهرة "تدعيش" الشباب، انطلاقا من الفرص غير المتكافئة اقتصاديا وذهاب أحلام العدالة الاجتماعية التي وعد بها الفاشلون من عسكر خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

في السياقات الحداثية يُنظر إلى تفسير هذه الظاهرة من زاويا الإحباط واليأس التي أصابت قطاعات شعبية وشبابية بسبب فشل الأنظمة القومية المعلمنة في فرض ظروف واقع أكثر اتساقا مع روح العدالة ومقتضيات الحياة الكريمة

لكن هذا التفسير الأحادي لا يستطيع مثلا تفسير لماذا اتجه زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن -الذي قتلته قوة أميركية خاصة في مخبئه بباكستان يوم 2 مايو/أيار 2011- نحو الفكر الجهادي، وهو الذي حضر في صغره مع والده اجتماع عمل بمزرعة آل بوش في ولاية تكساس الأميركية، أي أنه كان من أثرياء الشباب العربي بسبب ما تملكه أسرته من أموال كان مصدرها عقود متعددة منحها حكام المملكة العربية السعودية لشركات والده؟

وكثيرون من غير بن لادن من الشباب من ذوي الإمكانيات المادية والذهنية الذين قرروا كمصير حتمي لهم أن يقاتلوا مضطهديهم من الأنظمة العربية، وفي فترة لاحقة ممولي وداعمي هذه الأنظمة الفاسدة والشمولية، أي الولايات المتحدة.

منذ ظهورها على مسرح الأحداث العالمية والولايات المتحدة تتزعم حربا خفية تارة ومعلنة تارة أخرى على تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي لمنع وصوله إلى سدة الحكم والسلطة، حتى وإن كان من بوابة الانتخابات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

قد يصلح كتفسير جزئي لظاهرة معاداة أميركا لهذه التيارات زلة لسان الرئيس جورج بوش الابن في كلمته بمناسبة يوم الرثاء الوطني عندما قال إن "هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت"، ولا يعلم أحد إن كان أحد مستشاري الرئيس أبلغه وقتها بأن وقع كلمة "صليبي" لها آثار سلبية في العالمين العربي والإسلامي، كوقع كلمة "جهاد" بالنسبة للغرب المسيحي.

سؤال قد يطرحه البعض وهو محق في ذلك، لماذا يستخدم الغرب وخاصة الولايات المتحدة التفسيرات الخاطئة للإسلام كمدخل لها في غزو الشعوب العربية وتبديد ثرواتها، والإبقاء على وكلاء لا همّ لهم إلا إرضاء ساسة وجنرالات العاصمة واشنطن؟

طبعا لا عاقل يؤيد تفسيرات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لنصوص الجهاد والقتال في الإسلام، وبالطريقة التي تنفذها على الأرض، لكن في نفس الوقت يُفترض أن يكون مقياس الإدانة شاملا كذلك للجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة عبر تاريخها للشعوب المسلمة وغير المسلمة على حد سواء.

يعلم الغرب جيدا أن معظم المجتمعات الإسلامية لا تتبنى فكر داعش أو النصرة، ويعي أن الشباب في كافة أنحاء العالم الإسلامي يخوض معركة مع أنظمة لم تفشل فقط في تنمية مجتمعاتها، بل فشلت في الاحتفاظ بأي قدر أخلاقي تستطيع الدفاع به عن نفسها

كما أن ردود الفعل على تصرفات داعش ميدانيا لا تقل فظاعة وإجراما وتنكيلا وتشريدا لمئات الآلاف في العراق والصومال وأفغانستان، وأظن أنه لم يسمع أحد بأن داعش قتل الأطفال وجوّعهم، وجعل من نجا منهم فريسة للتفسيرات الخاطئة للنصوص الدينية.

لو تجرد الباحث من أي ضغوطات خارجية كتلك التي يمارسها الإعلام العالمي في تعبئة البشر ضد داعش وجبهة النصرة، لوجد نفسه حائرا أمام محاولة بعض ساسة العرب والمستعجمين منهم تبرئة الولايات المتحدة ومحو سجلها الطويل في أميركا الجنوبية والشرق الأوسط في الإجرام والقتل والتنكيل.

ليست هناك أي محاولة لتبرئة ما تقوم به داعش أو البحث لها عن مبررات نصوصية أو أخلاقية لما تقوم به، لكن في الطرف المقابل، يستعمل الدواعش نفس الأساليب التي يستعملها الغرب في محاولة محو ذاتنا، أو أي إمكانية لنا في أن نصنع مستقبلنا ونعيد صياغة معادلة وجودنا، بل ويفرض علينا أن نمحو من ذاكرتنا جرائمه التي ما زالت ماثلة ونعيشها يوميا في بلداننا.

لم يكن ثوار الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن يحلمون بـ"تدعيش" ثورات بلادهم، كما لم يحلموا بإجهاض حلمهم في استقلال بلادهم عن المستعمر الخارجي والمستعمر الداخلي، وتصويرهم أمام العالم كأنهم رعاع تمردوا على أسياد الداخل والخارج، وأنهم حثالة المجتمعات وشرُّ ما فيها، وأنهم قتلة بلا ضمير، ويحتمون بدين لا يقيم وزنا لكرامة الحياة الإنسانية، ويطمعون في سبي نساء الغرب وذبح أطفالهم. ألم تصور آلة الإعلام العالمية ثورات الربيع العربي في الفترة الأخيرة بصورة كهذه وفق دعايات استلهمت أعمال وتنظيرات الآباء المستشرقين الأوائل؟

يعلم الغرب جيدا أن معظم المجتمعات الإسلامية لا تتبنى فكر داعش أو جبهة النصرة، ويعي أن الشباب في كافة أنحاء العالم الإسلامي يخوض معركة مع أنظمة لم تفشل فقط في تنمية مجتمعاتها، بل فشلت في الاحتفاظ بأي قدر أخلاقي تستطيع الدفاع به عن نفسها.

تحاول الولايات المتحدة عبر حلفائها في الشرق الأوسط نقل الصراع من ثورات شعبية ضد مستبدين وفاسدين، إلى صراع إسلامي علماني مصطنع لا أساس له ولا قيمة، أو صراع إسلامي بين معتدلين ومتشددين، وصرف نظر الشعوب عن معركتها الحقيقية مع أساطين الفساد والشمولية بالعالم العربي والإسلامي.

لم تكن الثورات المضادة في بلدان الربيع العربي مجرد رغبة عارمة لفلول الأنظمة السابقة في العودة إلى سابق أيامها الخوالي فقط، بل إنها تدبير وتخطيط غربي أميركي كانت فيه الثورات المضادة مجرد أوراق في يد القوى الكبرى للعودة إلى المربع الأول، أي مربع ما قبل الثورات، المحافظ على مصالح الولايات المتحدة البعيدة، وإسرائيل القريبة.

لا أظن أن محاولات الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من العرب والعجم في القضاء على حركات التشدد الإسلامي وحلم الديمقراطية بضربة واحدة ستنجح، وإلا لماذا لم تمنع طائرات الناتو وأميركا قوات طالبان من الزحف المستمر على العاصمة كابل؟!

ولا تستقيم هذه المصالح مع أنظمة ديمقراطية تستلهم طريقة حكمها من تجديد ميراثها الثقافي والاعتزاز به، لاحتمال -إن لم يكن من المؤكد- أن تُطرح أسئلة كثيرة عن طبيعة الظلم الفادح الذي يقع على الشعب الفلسطيني الأعزل، وعن طبيعة انتهاك مقدسات العالم الإسلامي بالقدس والتي هي ميراث مشترك بين الأديان الثلاثة، وعن إمكانية أن تبقى إسرائيل متحكمة في مصائر دول وشعوب المنطقة مسخرة كل إمكانياتها لصالح مشاريعها الاستيطانية، وعن الخطر المحدق بالمنطقة العربية في ظل وجودها أساسا قريبة منه.

لقد ملأت حركة داعش وجبهة النصرة الفراغ العام الذي انسحبت منه الشعوب العربية بعد فقدان توازنها بسبب الضربات التي وجهتها لها قوى الثورة المضادة عقوبة لها على محاولة استقلالها بقرارها السياسي، ومحاولة تلمس طريقها الديمقراطي لأول مرة في تاريخها السياسي. ومن هنا كانت حركة داعش ردة فعل على هذه العربدة والإفساد المتعمد لحياة ملايين البشر، وقتلهم وهم أحياء.

لا أظن أن ثمة اختلافا على عدمية رد داعش والنصرة وغيرهما من حركات السلفية الجهادية في عالم فرض قواعد العدم والعبث على شعوب المنطقة وحرمها من فرصتها التاريخية لنيل حقوقها.

كما لا أظن أن محاولات الولايات المتحدة وحلفائها من العرب والعجم للقضاء على حركات التشدد الإسلامي وحلم الديمقراطية بضربة واحدة ستنجح، وإلا لماذا لم تمنع طائرات حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة قوات طالبان من الزحف المستمر على العاصمة كابل؟!

ليس ثمة شك في عدم القدرة على تدعيش حلم الربيع العربي باستمرار من قبل القوى الإقليمية والدولية، كما أنه ليس ثمة شك في ضرورة وصول حلم حق الحياة سياسيا بما يليق بتطلعات هذه الشعوب، وإلا تحول العالم كله إلى أرض خراب كما تنبأ الشاعر الإنجليزي توماس ستيرنس إيليوت في إحدى قصائده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.