معركة القدس التركية

معركة القدس التركية .الكاتب :مهنا الحبيل

undefined

منذ الانقلاب العسكري على الديمقراطية واعتقال مؤسس الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا الراحل نجم الدين أربكان، وإغلاق حزبه حزب السلامة الذي أعاد ربط تركيا بقضايا المشرق الإسلامي، لم تشهد أنقرة والمدن التركية مثل هذه الروح.

كان المحفل الذي أُقيم بمسرحٍ كبير في أحد شوارع أنقرة الرئيسية عن القدس حاشدا روحا وحضورا، وكانت رايات فلسطين وصور بيت المقدس وعلم الثورة السورية تخفق في المُدرجات.

وكان الشباب والشابات الأتراك يرفعون شعار رابعة بكثافة لم تُشهد من قبل في غير مصر، في محفلٍ عن القدس وكأنما الرسالة تربط درب الربيع العربي إلى طريق القدس، وأن قطع الربيع وإشعال الحريق في جسوره مواجهة لقضية الأقصى.

كانت الحشود تمتّد الى خارج القاعة، وكان السُلّم الفاصل بين المدرجات يمتلئ بالأتراك وهم يقفون في طابور طويل، نساء ورجالا من كل الأعمار، بانتظار إلقاء التحية على الشيخ رائد صلاح زعيم الحركة الإسلامية في فلسطين التاريخية وأبرز قيادات الدفاع الشعبي المدني عن القدس. كانت النسوة يحملن أطفالهن ويجلسنهم لديه يصورنهم معه، ويوقع للشباب الأوتوغراف.

الروح التركية باتت معبأة بقضية بيت المقدس بصورة وجدانية مبدئية وثائرة لقيم الرسالة الإسلامية ورابطة الشرق الكبرى

كان واضحا أن تلك الروح التركية باتت معبأة بقضية بيت المقدس بصورة وجدانية مبدئية وثائرة لقيم الرسالة الإسلامية ورابطة الشرق الكبرى، وهي تستمع لوصول حفريات المشروع الإسرائيلي لأسفل قُبة الأقصى كفعل قائم يهدده لا مخطط متوقع.

هذه المشاهد كانت ضمن احتفال جمعية "يدا بيد" الدولية للإغاثة والتنمية التركية التي تنشط لمشاريع دعمٍ لبيت المقدس وشعب فلسطين في 1948 لتثبيت صمودهم وردع مخطط هدم الأقصى، وكان الكاتب مدعوا ضمن وفود عربية متعددة لهذه المناسبة، التي لم تتجسّد صورتها من خلال فقرات الحفل فقط، ولكن من خلال السؤال الكبير:

كيف عادت تركيا اليوم إلى قضايا المشرق وبيت المقدس في عهد حكومة العدالة والتنمية، والتي ضج التصفيق لرئيسها الطيب رجب أردوغان حين حيّاه رائد صلاح بقوة في خُطبته المثيرة المؤثرة؟

ولم يكن هذا الحفل حشدا شعبيا فقط، بل تجاوب مع دعوته برغبة كبيرة ثلاثة أحزاب إسلامية: السعادة ومثّله فاتح نجل زعيمه التاريخي الراحل نجم الدين أربكان، وحزب الوحدة الكبرى، وحزب العدالة والتنمية.

ومع الإقرار بمشاعر الإخلاص لفلسطين التي تظهر لدى تلك القيادات، لكن أيضا اتضح حجم هذه القضية اليوم في وجدان الشعب التركي الذي سيصوت في أخطر انتخابات مرّت على تركيا منذ تأسيس الجمهورية الثانية، بعد دكتاتورية العسكر والتطرف العلماني.

وهو ما يعني بوضوح أن الأقصى في ضمير القاعدة الشعبية الإسلامية القوية في صوتها وشارعها هو قضية جذب وصعود تمكّنت في هذا العهد من تبوؤ مكانة مركزية لن تكون في يومٍ من الأيام أخبارا سعيدة للتحالف العلماني الشرس في تركيا ومحوره الإسرائيلي والغربي الداعم، وقد أُضيف له اليوم محور إيران الطائفي والمال العربي.

لقد كان واضحا أن حركة المشروع الإسلامي المقاوم في فلسطين من غزة إلى القدس في بعده المدني والدعم المعنوي والسياسي يتنفّس في تركيا، وكان واضحا أيضا أن هذا المشروع المدني للحريات الذي قاده أردوغان يُجسّد اليوم حرية التعبير السياسي والثقافي، ونداءات المسجد وبواعث الشهادة والفداء الإسلامي لدى الشعب التركي من عهده العثماني، وخاصة موقف السلطان عبد الحميد والسلطان محمد الفاتح، التي ترددت في المهرجان.

المتنقل بين مدن تركيا وبنيتها التحتية، والمُراجع الدقيق لأرقام تقدمها الصناعي وصعود الاستثمار الزراعي والمشافي، يلاحظ أنها تتجه في سلّم واحد صاعد منذ 2003 حتى اليوم

هذه المنظمة الإغاثية -يدا بيد- أعدت للمؤتمر كأنه مشروعها المركزي السنوي، وكان حراك قيادتها وأعضائها وحماسة مقدمة الحفل لا تقل عن قرع طبول الفرقة العثمانية التراثية التي تهتف للقدس، كما اشتعل الحفل مع فرقة الاعتصام الفلسطينية وكأنه يقرأ كلماتها العربية، وبتجاوب وتفاعل ودموع مع أغنية الشهيد التركية التي قدمتها فرقة غنائية موسيقية مختصة بالقيم الإسلامية.

من أولى فقرات الحفل حتى مشاريع الدعم وكلمات الأحزاب والشخصيات السياسية التركية، كانت كل الرسائل تصب في معنى واحد: تركيا الشرق الإسلامي تقترب من فلسطين بل تحتضنها وتحتضن أيقونة المقاومة المدنية لتحرير بيت المقدس، رائد صلاح وكامل مدرسته.

أمام هذه المشاعر والأجواء العاطفية ينتقل بنا السؤال إلى العقل ومشهد الواقع المدني للحياة العصرية في تركيا واحتياجات المواطن الحقوقية والتنموية، أين هي من هذا الجمهور خارج المسرح لا داخله؟
 
هنا تبرز المفارقات العجيبة، وهي أن المُطّلع والمتنقل بين مدن تركيا وبنيتها التحتية، والمُراجع الدقيق لأرقام تقدمها الصناعي والدين العام ومستوى الدخل للعمال وصعود الاستثمار الزراعي والمشافي، يلاحظ أنها تتجه في سلّم واحد صاعد منذ 2003 حتى اليوم.
 
وبلا شك أن لدى المعارضة قوائم نقد وهجوم كطبيعة للممارسة السياسية الديمقراطية، وهي ليست مسارات وهمية بالضرورة بل فيها مضامين نقد مستحق بكل تأكيد، فلا عصمة لحكومة أردوغان أو غيره.
 
لكن ما يُجمع عليه المراقبون أن هناك تزاوجا بين الحملة الداخلية على شخص أردوغان وعلى بناء حزب العدالة والتنمية السياسي ومشروع تأسيس تركيا الحديثة وقوتها الديمقراطية، وبين موقف القوى الدولية والإقليمية، لكن كلٌ يفسره على طريقته.
 
بمعنى أن هذا التوافق بين الآلة الإعلامية والسياسية الغربية والإسرائيلية مع التكتل العلماني الشرس ضد أردوغان -وليس العلمانية الوطنية المعارضة التي نأت بنفسها عن المشروع الدولي- توافق طبيعي بموجبه تتبادل مواقع الهجوم والتحريض عليه باعتبار أن أردوغان يمثّل واجهة الدكتاتورية والفساد.. فهل تقول الأرقام والصورة ذلك؟

لقد كان مشهد تركيا المدنية الحديثة بارزا في كل ركن، شارع، لباس الفتيات، التنظيم المدني، التقدم الإلكتروني، والذي لم يطرح حزب العدالة أمامه أي مشاريع لمواجهة هذه الثقافة، سوى أنك تقف منتبها إلى أن تلك الصورة والواقع مغلفان بوضوح بقيم مواطني تركيا في الأناضول أو الشرق في اعتزازهم، وفي التفاصيل الأصلية حتى في شؤون نظافتهم وصولا إلى إنتاج مزارعهم.

لا تشعر على الإطلاق بأي مضايقات لكل مكونات الشعب التركي الثقافية، مع تعزيز للقيم الدستورية والممارسة الديمقراطية وفكرة أن المواطن هو محور الجمهورية وأن الجيش لحمايته لا سحقه.

لقد رُفعت القيود عن الإسلام المحاصر في نفوس الشعب التركي الذي كان كُلما تنفّس كرامته وحريته ورفع أذانه، بطشت به سابقا "بيادة" العسكر والتطرف العلماني

أما العنصر الثاني المهم فهو رفع أردوغان وحزبه لكل عناصر القمع والقيود التي سعت لمحاصرة إنسان تركيا في تدينه الإسلامي من حق السلوك الشخصي في الحجاب وغيره، إلى حيث ضجّت معاهد الأئمة والخطباء بتلاوة القرآن.

لقد رُفعت القيود عن الإسلام المحاصر في نفوس الشعب التركي الذي كان كُلما تنفّس كرامته وحريته ورفع أذانه، بطشت به سابقا "بيّادة" العسكر والتطرف العلماني.

وهنا مفارقة مهمة أن فكرة المشروع التقدمي الإسلامي التي تخوضها الحركة الإسلامية في تركيا مع حلفائها الوطنيين، تمثل هذه الثنائية الكبرى الشرق الإسلامي والتقدم الديمقراطي.

وهنا المفصل الذي يعود بنا إلى مطلع المقال وقصة المهرجان، إن صعود الدولة المركزية في المشرق الإسلامي لصناعة دولة الحرية الحديثة والعودة إلى قيمها وطرح مشروع التساوي الأممي يُقلق جدا محورية الغرب وتل أبيب والحلفاء العرب الذين لا يفكرون بمصالح إستراتيجية تتحد لتستفيد من مشروع أردوغان، ولكن كقبائل مرتبطة بمصالح نزواتها وبالبيت الأبيض.

وعليه أُشعلت الحرب السياسية قبل أن يستكمل هذا المشروع بناءه، وهو يوشك أن يُغلق ملفا من أكبر ملفات الصراع الداخلي في المشرق الإسلامي عبر توحيد الأكراد والأتراك، وهو ما يكفي لفهم ما يخشاه الغرب من عودة المارد التركي ليس سلطويا بل ديمقراطيا يُبشر بالحرية القوية التي تهدد مصالح الغرب ودولته الصهيونية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.