الثورة السورية تزداد تشوشا

سلامة كيلة الثورة السورية تزداد تشوشا

undefined

تدخل الثورة السورية في حالة من التشوش الشديد، سواء تعلق الأمر بطابعها، أو بدور الشعب فيها، أو باحتمالات وصولها إلى نهاية تشير إلى نجاحها. هذه الأمور تدفع إلى حالات من اليأس والقنوط، وحتى إلى انقلاب المواقف. وباتت تظهر المسألة وكأنها مجزرة يقوم بها متآمرون أو مهووسون.

وفي النهاية "تتدمر سوريا لمصلحة المشروع الإمبريالي". وهذا ما يزيد الميل لدعم السلطة من قبل أطراف عربية ودولية، وتلاشي التعامل مع ما يجري انطلاقا من أنه ثورة.

الصورة الأخيرة تشكلت على أساس أن ما يجري هو صراع بين "دولة العراق والشام الإسلامية" (وجبهة النصرة) والنظام السوري، بعد أن أخذت تتمدد في الشمال والشرق، وباتت تحاول فرض سيطرتها على كل هذه المناطق، ومن ثم فرض قانونها "القادم من عصور الظلام"، والذي لا يفعل سوى تدمير كل شيء من أجل "الدولة الإسلامية".

الصورة الأخيرة تشكلت على أساس أن ما يجري هو صراع بين "دولة العراق والشام الإسلامية" (وجبهة النصرة)، والنظام السوري

وإذا كان قتالها النظام محدودا كما تشير كل الوقائع العملية (وليس الإعلامية، إذ إنها وجدت بالأساس في المناطق التي كانت قد انسحبت السلطة منها بفعل قوة الثورة، فقد سارعت إلى فرض "الدولة الإسلامية" بقوة السلاح بعد أن تمكنت، أو ظنت أنها تمكنت.

لكنها وفق المنظور الذي يتحكم في فهم الثورة تحسب على أنها القوة الأساسية التي تقاتل النظام. الأمر الذي يعطي صورة بأن المعركة قد أصبحت بين النظام وتنظيم القاعدة (حيث إن دولة العراق وجبهة النصرة فرعان منه). ويزيد من هذا التشوش كل مظاهر "الأسلمة" التي تكتنف الكتائب المسلحة، سواء من حيث الأسماء أو الأشكال، أو حتى التصريحات.

وإذا كانت الثورة قد باتت مسلحة في معظم فاعلياتها، بعد أن انهارت إمكانيات التظاهر وأشكال الاحتجاج الأخرى، نتيجة ميل قطاع كبير من الشباب الذي كان يتظاهر إلى العمل المسلح، والدمار الذي أحدثته السلطة وهي تواجه المجموعات المسلحة كعقاب للشعب الذي تمرد على سلطتها، وبالتالي تحول جزء آخر من المتظاهرين إلى العمل الإغاثي أو تم تشريدهم أصلا.

إذا كانت الثورة قد باتت مسلحة فقط بفعل كل ذلك، فقد اكتملت صورة أن الصراع بات صراعا مسلحا بين السلطة ومجموعات "أصولية"، وأن ثورة الشعب قد انتهت. ولا شك أن زيادة دور الإسلاميين، وسرعة ميلهم إلى فرض سلطة قروسطية (هي نتاج أحط مراحل التخلف في التاريخ العربي الإسلامي بعد انهيار الدولة المركزية)، مع كل مظاهر الأسلمة الأخرى، أوجدت حالة إحباط لدى قطاع من الشعب الثائر، وفرضت زيادة الخوف لدى فئات اجتماعية كان يجب أن تنخرط في الثورة، وبالتالي زيادة الارتباك في صفوف الشعب الثائر.

وكان كل ذلك يستغل من أجل تشويه الثورة، والتركيز على طابعها "المؤامراتي"، والطائفي الأصولي، وهو ما كان يعزز من وضع النظام بعد أن كان يتهاوى نتيجة الضعف الشديد الذي طال قوته العسكرية (وهو الضعف الذي فرض عليه استقدام قوات حزب الله، وكتائب أبي الفضل العباس الطائفية من العراق، وقوات من الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى الدعم العسكري الروسي).

كانت معركة القصير مفصلية، حيث أعيدت "فاعلية" السلطة عبر القوات التي استقدمتها، وفتحت في الوقت ذاته على سعي "دولة العراق والشام الإسلامية" إلى السيطرة على المناطق التي هي خارج سلطة النظام. وهو ما يظهر أن "تناسقا" ما يحكم كل ذلك، خصوصا بعد سعي السلطة إلى استرجاع حمص، والغوطة، والتوجه إلى حسم الصراع بالقوة.

لم تنجح السلطة في ذلك، ولن تنجح. لكن ما يظهر واضحا على الأرض هو أن المراوحة هي السمة التي تحكم الوضع العسكري. هناك تقدم للكتائب المسلحة، وتقدم مقابل للسلطة، وهكذا منذ فترة، دون أن يستطيع أي منهما تحقيق الحسم خصوصا الكتائب المسلحة التي تعبر عن الثورة، حيث لا يزال التسليح شحيحا، وكل الوعود كانت فارغة، وكل ما يصل هامشي لا يتجاوز محاولة "حفظ التوازن"، وعدم السماح بالحسم.

هناك تقدم للكتائب المسلحة، وتقدم مقابل للسلطة، وهكذا منذ فترة، دون أن يستطيع أي منهما تحقيق الحسم

وينعكس ذلك سلبا على "مزاج" ومعنويات الشعب، حيث يشعر بأننا ندخل في "نفق طويل" يتسم بصراع دموي لا أفق له. والمراوحة في الصراع توحي بذلك، ولهذا تثير حالة اليأس التي تتراكم العناصر التي تولدها. لكن ذلك أيضا يعزز النظرة التي باتت ترى فيما يجري "صراعا مسلحا" بين سلطة وأصوليين خصوصا حينما يشار إلى مصادر التسليح، أي الغرب.

ويقع كل ذلك في ظل اهتراء المناطق التي سميت محررة، نتيجة للفوضى بالتحديد، و"التشبيح"، والعصابات، وتنافس الكتائب المسلحة وعدم تعاونها، وأخيرا دور دولة العراق والشام وجبهة النصرة الذي حوّل الصراع من صراع مواطني هذه المناطق ضد السلطة إلى صراعها مع هؤلاء، بالضبط نتيجة محاولتهم فرض سلطة لا يقبلها أكثر الناس إيمانا بمجتمع تجاوز القرون الوسطى منذ زمن طويل، وباتت تحكمه قيم حديثة. 

كما يقع كل ذلك أيضا في ظل وضع اقتصادي بالغ الصعوبة نتيجة توقف عجلة الاقتصاد أصلا، وفقدان قطاعات واسعة مداخيلها، وشح المواد السلعية، خصوصا الغذائية. وغياب كل سلطة سوى سلطة "المسلحين"، رغم المحاولات التي جرت في العديد من المدن والأرياف لبناء سلطة شعبية، كانت تجهضها القوى المسلحة، ودولة العراق والشام خصوصا.

هذا الوضع يشير إلى غياب أفق الحسم العسكري من قبل الثورة في الوقت الذي تغرق فيه المناطق التي سميت محررة بكل هذه الفوضى والانفلات، وبالتالي يغرق ذلك الثورة في التشوش، وينمي الميول للوصول إلى "الخلاص" بأي طريق كان. لكنه كذلك يشوش على الثورة ذاتها، فهل هي ثورة أم فوضى؟ وهل هؤلاء ثوار يريدون إسقاط النظام أم مجموعات تتسابق على السيطرة وبعضها يمارس عمل العصابات؟ وهل نريد إسقاط النظام من أجل دولة مدنية أم أن الهدف هو إقامة "الخلافة الإسلامية"؟

السؤال الذي يطرح بعد ذلك، وبكل بساطة: هل هذه ثورة؟ ويكون الجواب هو أننا خرجنا من دائرة الثورة ودخلنا دائرة العبث. هل الوضع فعلا كذلك؟

لا أظن ذلك على الإطلاق، لكن كل المشكلات المشار إليها بحاجة إلى معالجة حقيقية. فالشعب لا يزال يسعى لتغيير النظام، رغم كل حالات اليأس أو حتى الانقلاب على الثورة. وبالتالي لا بد من إعادة تقييم شديدة الدقة للوضع القائم، وتحديد إستراتيجية واضحة. فالثورة انطلقت من أجل إسقاط النظام، لكن أيضا من أجل تغيير النمط الاقتصادي الذي أفضى إلى وجود أعداد هائلة من العاطلين عن العمل، وأعداد هائلة من المفقرين. ولتحقيق ذلك لا بد من تحقيق عدد من المسائل التي باتت ضرورية جدا:

– أولا: لا بد من الحسم مع كل المجموعات التي أتت لتنفيذ مشاريعها في سوريا، وهنا دولة العراق وجبهة النصرة، فهذه قوى "غريبة" وتمارس ما يخرب على الثورة، وتشتت نشاط الشعب عبر إدخاله في صراع جانبي خطر جدا، من خلال افتعال الصراعات الطائفية، والفرض الأصولي والقتل العشوائي أو المبني على "فتوى". وهذا يستلزم موقفا واضحا من المعارضة (الائتلاف الذي يقول إنه يمثل الثورة) والكتائب المسلحة. بالتالي يجب أن ينتهي وجود هذه القوة لكي تنتظم الثورة بشكل أفضل، فهي ثورة مضادة وليست قوة دعم للشعب في مواجهة السلطة.

يجب توحيد الكتائب ومحاسبة كل من يريد التمسك بسيطرته على مناطقه أو إقامة "سلطة تافهة" على قرية أو حي أو حتى مدينة

– ثانيا: لا بد من أن تكون المجالس الشعبية هي السلطة الفعلية في كل المناطق التي باتت خارج سيطرة النظام. الشعب الذي قاتل هو الذي يجب أن يحكم ويدير أموره في مناطقه (من الخدمات، إلى الأمن، إلى القضاء، إلى تسهيل أمور المواطنين). فلا سلطة غير سلطة الشعب، والكتائب المسلحة هي للقتال ضد قوات النظام وليس لفرض سلطة، أو التحرش بالناس، أو ممارسة كل أشكال التعدي.

– ثالثا: لا بد من وجود خبرات عسكرية جدية، حيث إن معظم المقاتلين هم شباب متحمس لكنه لا يعرف الحروب ولا القتال. ومن ثم يجب توحيد الكتائب ومحاسبة كل من يريد التمسك بسيطرته على مناطقه أو إقامة "سلطة تافهة" على قرية أو حي أو حتى مدينة.

– رابعا: لا بد من القطع مع كل القوى الخارجية التي تزيد من تفتيت الكتائب، وتربطها بسياساتها الخاصة بعيدا عن الثورة. هذا الباب الذي فتح بحجة الدعم العسكري والمالي يجب أن يغلق لأنه أضر أكثر مما أفاد، ومن ثم يمكن ترتيب الدعم عبر الهيئة المركزية (إذا كان هناك من يريد الدعم بعد أن اتضح أن الوعود كلها كاذبة).

– خامسا: كيف يمكن أن تتشكل قوى سياسية حقيقية يمكنها التعبير عن الثورة؟ ما هو قائم عاجز عن ذلك، ولقد أضر بالثورة كثيرا خلال المرحلة الماضية، وبالتالي لا بد من بناء سياسي في داخل سوريا يمكنه التعبير الحقيقي عن الثورة.

كل ذلك ربما يحتاج إلى "مبادرين" حيث تغيب القوى السياسية، أو تكون عاجزة. لكن لا بد للثورة أن تعود واضحة بعد أن تتخلص من كل ما علق بها من ركام التاريخ الوسخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.