قصة العلاقات السورية الإيرانية

عبد الجليل زيد المرهون.. قصة العلاقات السورية الإيرانية

undefined 

أولا: فلسفة العلاقات السورية الإيرانية
ثانيا: بيئة إقليمية متحولة
ثالثاً: مقولة الرهان الجيوسياسي

يُمكن النظر إلى العلاقات السورية الإيرانية باعتبارها إحدى أكثر القضايا إثارة في المشهد السياسي الراهن للشرق الأوسط. فهذه العلاقات هي اليوم موضع اهتمام، وتتبع وثيق من قبل مختلف الفرقاء الإقليميين والدوليين.

كيف بدأت هذه العلاقات؟ وكيف تطوّرت؟ وما الذي تعنيه في وقتنا الحالي؟

أولا: فلسفة العلاقات السورية الإيرانية
تعود العلاقات السورية الإيرانية في سياقها الراهن إلى العام 1979، وهو العام الذي تأسست فيه الجمهورية الإسلامية في إيران على يد الإمام روح الله الخميني.

أما منظر هذه العلاقات، وواضع فلسفتها فهو محمد حسين منتظري مؤسس الحرس الثوري الإيراني. وكان محمد منتظري (أو منتظري الابن) أحد الكوادر التي عملت تحت ظلال الخميني حين كان في منفاه بالعراق، وكان يُعرّف على أنه تلميذ نجيب له.

وقبل انتصار الثورة الإيرانية، مثل منتظري الابن همزة الوصل بين الخميني وعدد من القوى السياسية في الساحة العربية، بينها حركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح).

تعود العلاقات السورية الإيرانية في سياقها الراهن إلى العام 1979، وتولى التنظير لها ووضع فلسفتها محمد حسين منتظري مؤسس الحرس الثوري الإيراني

وكانت لدى منتظري الابن رؤية مفادها أن الثورة الإيرانية الوليدة لا يُمكن أن تقف على قدميها إلا بالارتكاز إلى منظومة وثيقة من التحالفات مع كافة القوى التي تشاركها الأهداف الأساسية، وأن هذه التحالفات تُعد جزءاً من الثورة ذاتها.

وكانت لدى هذا السياسي الشاب جملة يرددها على نحو دائم تقول: "ثورة مستمرة لا دولة مستقرة".

وعلى خلفية رؤيته هذه، تحرك منتظري الابن لوضع اللبنات الأولى لعلاقات إيران مع عدد من الدول الموصوفة حينها بالراديكالية في الوطن العربي، بما في ذلك سوريا وليبيا واليمن الجنوبي، فضلا عن حركة فتح.

وكان يحظى في تحركه هذا بدعم من الخميني وبقية القادة التاريخيين للثورة الإيرانية، مثل المرشد الحالي آية الله علي خامنئي، والرئيس الأسبق الشيخ هاشمي رفسنجاني.

نجحت المحاولة سريعاً في إقامة روابط خاصة مع ليبيا، وظلت هذه الروابط نشطة لسنوات، قبل أن تتعرض لانتكاسة سببتها جملة عوامل، من بينها ضغوط الرأي العام الإيراني الذي نظر إلى العقيد معمر القذافي باعتباره مسؤولا بصفة مباشرة عن اختطاف وتغييب الإمام موسى الصدر، مؤسس حركة أمل اللبنانية.

أما في جنوبي اليمن فبدت المهمة أكثر صعوبة أمام الإيرانيين، إذ كان الحزب الاشتراكي اليمني بقيادة عبدالفتاح إسماعيل قد تولى للتو زمام السلطة وأزاح تيار الرئيس سالم ربيّع علي (سالمين).

كان الرئيس سالمين قريبا للخط الماركسي القومي الماوي الاتجاه، وكان قد تمكن من عقد تحالفات عريضة في الداخل والخارج. أما الحزب الاشتراكي فكان حينها شديد الالتصاق بالسياسة السوفياتية.

وكان السوفيات ينظرون إلى إيران بكثير من الوجل والريبة، ويصنفون نظامها الجديد على أنه نظام "ثيوقراطي".

ومن هنا لم يكتب لعلاقات إيرانية بالجنوب اليمني إلا القليل من النجاح.

من ناحيتها، بدت سوريا حالة مختلفة عن التجربتين الليبية واليمنية الجنوبية، وكان لموقعها الإستراتيجي في الشرق الأوسط إيحاءاته الخاصة في حسابات طهران. 

لقد تقاطرت الوفود الإيرانية على دمشق طارحة الكثير من التصوّرات الداعية في مجملها إلى إقامة روابط خاصة ومتقدمة، وذلك بعد أسابيع فقط من انتصار الثورة الإيرانية. وكانت تلك البداية.

ثانيا: بيئة إقليمية متحولة
في ذلك الوقت أثير نقاش حول تعريف العلاقة "المميزة أو الخاصة" التي يُمكن إقامتها بين سوريا وإيران.

بدت سوريا حالة مختلفة بالنسبة لإيران عن التجربتين الليبية واليمنية الجنوبية، وكان لموقعها الإستراتيجي في الشرق الأوسط إيحاءاته الخاصة في حسابات طهران

وقد طُرحت حينها الأسئلة التالية:

هل هذه العلاقة حاجة إيرانية بالدرجة الأولى، أم هي حاجة إيرانية سورية بالقدر ذاته؟ ما هو حجم واتجاه تأثير هذا الخيار على سياسة سوريا العربية، وخاصة مع العراق، الذي أبرمت معه للتو ميثاق العمل القومي المشترك؟ وبعد ذلك، ما الذي يُمكن أن تتركه الروابط السورية الإيرانية الجديدة على ميزان القوى في الشرق الأوسط؟

بطبيعة الحال، لم تجد هذه الأسئلة ما يكفي من إجابات، وفي الأصل لم يكن بالمقدور الوصول إلى تلك الكفاية، في ظل بيئة دولية وإقليمية متحوّلة وعاصفة.

وأياً يكن الأمر، فقد انطلق قطار العلاقات السورية الإيرانية بسرعة عاتية.

وفي سبتمبر/أيلول من العام 1980، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، لتفرض تحديا غير محسوب على هذه العلاقات.

وهذا التحدي، لم يتبد في السياق الثنائي للعلاقات السورية العراقية، بل في سياقها القومي العام، وهنا مكمن الخطر والامتحان.

يومها، كانت العلاقة بين دمشق وبغداد قد عادت لنقطة الصفر، أو قريباً من ذلك، حيث أطاح "النائب" صدام حسين، بالرئيس أحمد حسن البكر، وقام بعملية تصفية شملت كوادر كبرى بحزب البعث الحاكم في العراق، بينها الوزيران محمد عايش وعدنان حسين.

 
انسحب العراق من ميثاق العمل القومي المشترك، متذرعا بمؤامرة تحاك من دمشق، وكان هذا الميثاق في جوهره بين دولتين، ولم يكن بين جناحي البعث في سوريا والعراق، أو لنقل لم يكن بين القيادتين القوميتين للحزب في دمشق وبغداد.

تدهورت العلاقات بين القطرين بوتيرة متسارعة. وبدت الظروف ضاغطة بشدة على السياسة السورية في الكثير من المحاور والجبهات. وصارت الحرب العراقية الإيرانية تلقي بظلها الثقيل والخطر على هذه السياسة.

جاء الإيرانيون إلى دمشق، وفداً بعد آخر، يشرحون تطوّرات الأحداث ومقدماتها، وسياقها السياسي، لكنهم لم يطلبوا دعماً أو عوناً عسكرياً، لإدراكهم بحساسية الموقف وخطورته.

وعلى خلاف ما قد يعتقد البعض، فإن الحرب العراقية الإيرانية لم تُمثل عامل دفع للعلاقة بين دمشق وطهران، بل قوة كابحة لها، كما جلبت الحرب قدراً متعاظماً من الأخطار على سوريا.

نتيجة لظروف الحرب الضاغطة، لم يكن بمقدور إيران تطوير تفاعلات اقتصادية واجتماعية متقدمة مع أي من القوى المصنفة في خانة أصدقائها، بمن فيهم سوريا.

من جهة أخرى، ونتيجة لاستنزاف القوة العراقية، لم تعد هناك من جبهة شرقية، يُمكن أن تهب للسوريين توازنا، أو تحجب عنهم خطرا.

على خلاف ما قد يعتقد البعض، فإن الحرب العراقية الإيرانية لم تُمثل عامل دفع للعلاقة بين دمشق وطهران، بل قوة كابحة لها، كما جلبت الحرب قدراً متعاظماً من الأخطار على سوريا

وعلى صعيد ثالث، قادت البيئة السياسية والأمنية التي أفرزتها سنوات الحرب إلى ظهور سياسة محاور واستقطاب في الساحة العربية، عبرت عن نفسها خصوصا بتشكيل مجلس التعاون العربي، الذي دفع باتجاه عزل سوريا من جهة، وتحييد القوة العراقية من جهة أخرى.

في سياق مواز، دفعت الحرب العراقية الإيرانية إلى خروج العراق قوة عسكرية متقدمة في الشرق الأوسط لديها قدر متعاظم من الخبرات القتالية، لكنها ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية قوية وخانقة.

وفي ضوء هذا الواقع ونتيجته، أصبحت الكويت الوجهة الجديدة للجيش العراقي. وهنا، كان غزو الكويت إحدى النتائج الكبرى للحرب العراقية الإيرانية ذاتها. إنها حرب أنتجت أخرى.

في المشهد الجديد، تغيرت مواقع اللاعبين. وفي هذا التغير، كانت العلاقات الإيرانية السورية أمام امتحان آخر.

لقد تفاجأ الإيرانيون بإعلان سوريا نيتها المشاركة في حرب الخليج الثانية، واعتقدوا للحظة أن علاقتهم بها سوف تنهار أو تنكمش، بيد أن شيئاً من ذلك لم يحدث.

وفي العام 1991، صدر "إعلان دمشق" الذي قضى في أحد بنوده بمرابطة قوات سورية ومصرية في الخليج.

وما إن تناهى إلى مسامع الإيرانيين نبأ هذا الإعلان حتى استشاطوا غضبا، ونددوا بما حدث، وأرسلوا وفودهم إلى كل حدب وصوب.

بعض هذه الوفود سمع من السوريين قولا بدد قسطا من هواجسه، فما كان منه إلا أن قابلهم بالقول إن الغضب والاعتراض على إعلان دمشق لا يرتبط بالسياسة السورية، بل المصرية.

وعند هذه النقطة انتهت زوبعة إعلان دمشق في شقها المرتبط بالعلاقات الإيرانية السورية، كما أن هذا الإعلان نفسه لم يُعمر سوى برهة من الوقت، نال فيها كل طرف بعضاً من مراميه، وتخلى عن الكثير من أمانيه.

ثالثاً: مقولة الرهان الجيوسياسي
اعتباراً من مطلع التسعينيات، بدأت العلاقات الإيرانية السورية تتجه نحو مرحلة جديدة، متأثرة بطيف عريض من تحولات البيئة الجيوسياسية الإقليمية والدولية.

أولى هذه التحولات، تمثلت في انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث خسرت سوريا حليفها التاريخي، الذي ارتكزت عليه في مشروعها الأمني والاقتصادي.

وفي الوقت ذاته، أدى سقوط الاتحاد السوفياتي، وانهيار الثنائية القطبية، إلى تقليص هامش المناورة السياسية أمام إيران، وجعلها أكثر إحساساً بالضغوط الغربية.

ثاني التحولات، تجسد في حرب الخليج الثانية، وما تبعها من انتشار عسكري أميركي واسع في منطقة الخليج العربي، رأت فيه إيران تهديداً كبيراً لأمنها القومي.

ومن ناحيتها، لم تكن سوريا رابحة من حرب الخليج، رغم مشاركتها الرمزية فيها، فهذه الحرب أنهت قوة العراق العسكرية وحيدته إستراتيجيا، وكشفت الجبهة الشرقية، واستتباعا كشفت سوريا.

وفي السياق ذاته، لم تكن التداعيات السياسية للحرب، بما فيها مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، عامل تعزيز لفرص المناورة أمام السياسة السورية، بل عامل ضغط عليها.

ثالث التحولات، تجسد في الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وقد وضع هذا الحدث كلا من سوريا وإيران على فوهة بركان. وكانت الدولتان هدفاً لاحقاً في مساره، وفق ما تقوله الآن المذكرات والوثائق المتداولة.

وعلى الرغم من أن سوريا وإيران تبنتا مقاربتين مختلفين للتعامل مع الغزو الأميركي للعراق، إلا أنهما اشتركتا في الشعور بالخطر المحدق، غير الافتراضي أو بعيد المدى.

على خلفية التطورات الكبرى هذه، تسارعت وتيرة التعاون السوري الإيراني، واتسع نطاقه، ليشمل جملة عريضة من القضايا الثنائية والإقليمية.

 

على الرغم من أن سوريا وإيران تبنتا مقاربتين مختلفين للتعامل مع الغزو الأميركي للعراق، إلا أنهما اشتركتا في الشعور بالخطر المحدق، غير الافتراضي أو بعيد المدى

وفي هذا الإطار برز التعاون العسكري، الفني والتقني بين الدولتين، وخاصة على صعيد الصناعات الصاروخية.

وتشير التقارير الغربية والإسرائيلية المتاحة إلى أن هذا التعاون قد بدأ فعلياً بدعم سوري للبرامج الإيرانية الناشئة، قبل أن تصبح إيران داعما رئيسيا للتصنيع العسكري السوري عامة، والصاروخي خاصة.

وقد ارتدى هذا التعاون مدلولا جيوسياسيا، مع الدعم الإيراني السوري المشترك لحزب الله في لبنان، حيث نقلت سوريا عمليا تجربتها الصاروخية للحزب.

وأخيرا، يُمكن القول إن التحول الأكثر راهنية في مسار العلاقات السورية الإيرانية قد حدث مع اندلاع شرارة التظاهرات في درعا، في مارس/آذار من العام 2011.

عند هذه النقطة، تحوّلت سوريا، بالنسبة لإيران إلى رهان جيوسياسي.

وهذا الرهان، لا يرتبط بالسياق العام لمصالح إيران الإقليمية، بل بجوهر الأمن القومي الإيراني، ومستقبل إيران كدولة. وهو بهذا المعنى رهان وجود.

وعلى ضوء ذلك، يُمكن قراءة الموقف الإيراني من كل ما يدور في سوريا. وتلك هي باختصار قصة العلاقات السورية الإيرانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.