الاحتجاجات التركية والثورات العربية

الاحتجاجات التركية و"الثورات" العربية

undefined

أمور متشابهات
ليسوا سواء
ديمقراطية غير مكتملة

بعدما راج الحديث عقب الثورات العربية عن إمكانية استلهام الدول التي أظلتها تلك الثورات للنموذج التركي، كونه يجسد الإسلام المعتدل الحداثي الليبرالي المتصالح مع الديمقراطية والحداثة والآخر، إلى حد أتاح له تحقيق إنجازات ونجاحات يلمسها القاصي والداني على مختلف الصعد، أغرت المظاهرات التي شهدتها تركيا مؤخرا ضد حكومة العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، محللين كثيرين للتفكير في احتمالات استلهام الأتراك للثورات العربية كآلية لإحداث تغيير سياسى يطيح بتلك الحكومة، التي استعصى على المعارضة التركية إزاحتها عبر الآليات الديمقراطية التقليدية كالانتخابات الحرة النزيهة.

أمور متشابهات
ربما ارتكن أنصار هذا الطرح إلى معطيات شتى من أبرزها:
– وجود نقاط تلاقِ بين "المظاهرات الاحتجاجية" التركية و"الثورات" العربية، كتشابه طريقة أردوغان في التعاطي مع مظاهرات معارضيه مع ذلك النهج الذي انتهجته أنظمة عربية سقطت أو بسبيلها إلى السقوط، من حيث إفراط الشرطة في استخدام العنف، واتهام وسائل الإعلام المعارضة بتهييج الرأي العام وتجييش الجماهير ضد الحكومة، وإرجاع الأمر إلى مؤامرات داخلية وخارجية تحاك ضد أردوغان وحزبه.

فبعد أن وصف المتظاهرين بالرعاع والمتطرفين، رافضا التراجع عن موقفه، اعتبر أردوغان أن اعتلاءه رئاسة الحكومة بموجب انتخابات ديمقراطية كفيل بمنحه التفويض الكافي لفعل ما يراه مناسبا لشعبه وبلاده، دونما اعتبار لحفنة المتظاهرين، الذين توعدهم بالرد على تجمعاتهم بحشود مضاعفة من مؤيديه.

لا تتورع بعض دول الجوار الطامحة إلى حماية مصالحها وتصفية حسابات قديمة ومستحدثة مع تركيا، عن استغلال الملف الإثنى والطائفي الملتهب منذ عقود للنفخ في نيران المظاهرات وإلباسها رداءً طائفيا وإثنيا

ومن جانبهم، جنح المتظاهرون الأتراك لاستلهام تجربة المصريين الثورية، حيث طفقوا يعززون من الرمزية الثورية لميدان تقسيم، إن من خلال إيثار بعض الشباب على التقاط الصور التذكارية فيه بلباس الزفاف، أو إقامة المتظاهرين لجانا شعبية ومستشفيات ميدانية. وبعد تنديدهم بقسوة الشرطة ومطالبتهم بعزل قياداتها، وإلحاحهم لوقف قطع الأشجار، ارتفع سقف مطالبهم إلى استقالة رئيس بلدية إسطنبول ثم حكومة أردوغان برمتها.

كما أشعل بعض المتظاهرين النار في عدد من مقرات حزب العدالة والتنمية، ونظم اتحاد نقابات عمال القطاع العام اليساري في تركيا، والذي يضم 240 ألف عضو ينتمون إلى 11 نقابة، إضراباً تحذيرياً، كما تجمع الآلاف للتنديد بتغطية وسائل الإعلام التركية للحركة الاحتجاجية متهمينها بعدم الموضوعية في تناولها للأحداث.

– إن خبرات المنطقة مع الثورات الشعبية التي أحاطت بها مؤخرا، تؤكد سلامة الحكمة العربية التي تقول إن "معظم النار من مستصغر الشرر"، حيث إن الثورات العربية التي أطاحت نظماً شموليّة مزمنة، كانت قد بدأت بحركات احتجاجية شبابية سلميّة محدودة النطاق تحمل مطالب متواضعة، بيد أنها سرعان ما تفاقمت واتسعت رقعتها وارتفع سقف مطالبها مع تصاعد وتيرة عنف الأجهزة الأمنية ضدّ المتظاهرين واستعلاء النخبة الحاكمة عليهم وتجاهل مطالبهم.

وليس بخاف أن طول مدة الاحتجاجات التركية يفاقم من تداعياتها الاقتصادية السلبية، خصوصا في ظل تعاظم نشاط من أسماهم أردوغان بـ"جماعة ضغط سعر الفائدة "، التي تكثف من مضاربتها المشبوهة في البورصة بغية إرهاق الاقتصاد وإحراج الحكومة في خضم الأزمة، وهو ما بدأت آثاره في الظهور تدريجيا، حيث شهدت بورصة إسطنبول تراجعا بنسبة 11%، كما انخفضت قيمة الليرة التركية مقابل اليورو والدولار.

 ومن شأن استمرار المظاهرات أن يفتح المجال واسعاً أمام تدخل جهات خارجية لدعمها وتأجيجها، في ظل بقاء حالة العداء والتوتر في العلاقات بين تركيا وغالبية جيرانها إثر اشتعال الثورات العربية وتعثر سياسة "صفر مشاكل" التي تبناها أردوغان بإيعاز من وزير خارجيته داوود أوغلو.

فقد لا تتورع بعض دول الجوار الطامحة إلى حماية مصالحها وتصفية حسابات قديمة ومستحدثة مع تركيا، عن استغلال الملف الإثني والطائفي الملتهب منذ عقود للنفخ في نيران المظاهرات وإلباسها رداءً طائفيا وإثنيا.

ومن جانبهم، استغل خصوم الإسلاميين ومناهضو المشروع الإسلامي في الحكم ممن يرون أن تجربة حزب العدالة والتنمية التركي توفر له معينا مهما، المظاهرات التركية للتنديد بتجربة الإسلاميين في السلطة مدعين أن هذا المشروع قد أثبت فشله بعد اهتزاز أكثر صوره نجاحا في تركيا، وهو نموذج الإسلام الليبرالي الحداثي المتصالح مع الديمقراطية والآخر، والذي ظل الغرب بقيادة الولايات المتحدة يروج له شرق أوسطيا لسد الطريق أمام صعود الإسلام الجهادي المتطرف، ووقف تغلغل النفوذ الإيراني الشيعي في المنطقة.

ليسوا سواء
في وسع الملم بالشأن التركي والمتتبع لتطورات ومآلات الثورات العربية أن يكتشف بغير عناء وهن ادعاءات المبشرين بتكرار سيناريو الثورات العربية في تركيا، وذلك لأسباب عديدة، أهمها:
– إن الثورات العربية، وإن حملت في طياتها بعض مظاهر وأسباب العدوى، إلا أنها لم تتمخض عن ربيع ديمقراطي وتنموي يصلح نموذجا ناجحا، حتى الآن على الأقل، بمقدوره أن يغري بالاستلهام أو المحاكاة من قبل شعب لا يتسم بالثورية كالشعب التركي.

– برغم انتشار المظاهرات التركية المناهضة لأردوغان وحكومته في 48 محافظة، إلا أنها لم تصل بعد إلى مستوى الفعل الثوري، بكل ما يتضمنه من سمات، فقد بقيت أسيرة السمت النخبوي الفئوي، إذ تصدرتها المعارضة العلمانية، بأطيافها الليبرالية واليسارية والقومية، بينما لا تزال الكتلة الحرجة من الجماهير التركية خارج الإطار، وإن انضم إلي المظاهرات مئات من غير المسيسين، أو خرج بضعة ألوف من مؤيدي أردوغان وحزبه لاستقباله بمطار إسطنبول إبان عودته من جولته المغاربية.

– لا يصنف الشعب التركي كشعب ثوري، فهو يؤثر الإصلاح بدلا من الهدم، كما اعتاد فرقاؤه السياسيون إدارة معاركهم السياسية بالنقاط ووفق قواعد دولة القانون والديمقراطية. لذا، لم يبد المتظاهرون رغبة في استلهام تجارب ثورية دامية أو عنيفة، بقدر ما أظهروا ميلا إلى تمثل المحتجين في حركة "احتلوا وول ستريت"، التي ظهرت بنيويورك في سبتمبر/أيلول 2011، حيث أطلقوا على حركتهم "احتلوا تقسيم الآن" ، ومن ثم توقع لها مراقبون مآلا مشابها لذلك الذي آلت إليه الحركة الأميركية.

– غياب المقدمات الواقعية الملحة التي يمكن أن تفضي إلى توسيع نطاق المظاهرات وتحويلها إلى حالة ثورية ثم إلى فعل ثوري تلتئم تحت لوائه جموع الشعب التركي. فرغم أن الثورات والانتفاضات الشعبية تنطلق بحثا عن الحرية، تظل الأسباب الاقتصادية والدوافع الاجتماعية محركات أساسية لاندلاعها.

الثورات العربية، وإن حملت في طياتها بعض مظاهر وأسباب العدوى، إلا أنها لم تتمخض عن ربيع ديمقراطي وتنموي يصلح نموذجا ناجحا، حتى الآن على الأقل، بمقدوره أن يغري شعبا لا يتسم بالثورية كالشعب التركي

وبالنظر إلى الحالة التركية، لا يبدو الوضع الاقتصادي الذى يتصدر أولويات غالبية الأتراك من قاطني الريف والمناطق الجبلية والحدودية، مواتيا لتفجير ثورة شعبية، حيث تضاعف الدخل الفردي عدة مرات، وتحولت تركيا من دولة مدينة إلى دولة مانحة للمساعدات، وصار اقتصادها الخامس أوروبيا والخامس عشر عالميا. وذلك بعد أن تمكنت الحكومة من إعادة الاستقرار المالي والنقدي للاقتصاد عبر تخفيض الدين العام وتقليص العجز في الموازنة ومحاصرة معدلات التضخم, ورفع معدلات النمو الاقتصادي إلى أكثر من 8% عام 2011.

– براغماتية حكومة أردوغان التي تخولها التراجع في الوقت المناسب. فقد دفع تعامل أردوغان الحاد مع المتظاهرين ببعض قيادات حزبه وحكومته إلى السعي لتدارك الموقف وامتصاص غضب المتظاهرين بغية الحيلولة دون تفاقم الأزمة وتحول ميدان تقسيم إلى سلاح رمزي في يد المعارضة، بينما البلاد على موعد مع استحقاقات ثلاث مهمة كالانتخابات البلدية في مارس/آذار 2014، ومن بعدها الرئاسية منتصف العام ذاته، ثم الاستفتاء على الدستور الجديد، الذي لم يتوافق على نصوصه ثلثا نواب البرلمان بجريرة خلافات حول أمور شتى كمفهوم العلمانية وشكل النظام السياسي الجديد.

فمن جانبه، دعا الرئيس عبد الله غل إلى ضبط النفس واعتماد الحوار للوصول إلى حل وسط يرضي جميع الأطراف في كافة المسائل المعلقة، وشدد على ضرورة احترام الرأي الآخر، بغض النظر عن ميزان القوى في البرلمان، مؤكدا أن الديمقراطية لا تختزل في الانتخابات فقط. وبدوره، قدم نائب رئيس الوزراء، بولنت أرينش، اعتذارا للمتظاهرين مؤكدا أن الحكومة تحترم "أنماط الحياة المختلفة لكل المواطنين وأن الاختلافات تشكل الثروة الأكبر لتركيا". وللمرة الأولى منذ تشكيل حزب العدالة لأول حكومة له عام 2002، اجتمع أردوغان مع قيادات الهيئة العليا للحزب لمناقشة الأزمة.

– حياد الجيش التركي، حيث يبدو أن محاولات أردوغان ومساعيه القانونية والدستورية لإبعاد الجيش عن السياسة قد آتت أكلها، إذ لم يصدر عن قياداته أي تصريح أو تعليق رسمي معلن على ما يجري، ولم يفكر في إصدار بيان هو إلى الانقلاب الإلكتروني أقرب. ومن جانبهم، لم يلجأ المتظاهرون الأتراك إلى مطالبة الجيش بالتدخل في الأزمة على غرار ما فعل الثوار في الدول العربية، ما يعنى صلابة التوافق العام داخل تركيا على أن يبقى الجيش بعيدا عن السياسة، مهما بلغت حدة الخلاف السياسي بين القوى المدنية.

وبقدر ما يمكن أن تبتعد مظاهرات تركيا عن الثورات والانتفاضات الشعبية العربية، فإنها تقترب من موجات الاحتجاج التي شهدتها دول أوروبية عديدة خلال السنتين الماضيتين لمناهضة التوجهات النيوليبرالية لحكوماتها وما يرتبط بها من سياسات توزيعية ضمن نموذج للتنمية تعوزه العدالة الاجتماعية, رغم تحقيقه معدلات نمو مرتفعة نسبيا.

ديمقراطية غير مكتملة
رغم التحاق تركيا بركب الديمقراطية ضمن موجتها الثانية التي تلت الحرب العالمية الثانية، تبدو تجربتها الديمقراطية وكأنها لم تستكمل عملية ترسيخ دعائمها بعد، فلا زالت لدى المعارضة التركية ميول ارتدادية للتحرر من قيود الديمقراطية التمثيلية، التي ترى أنها لا تلبي تطلعاتها في التغيير، حيث لا يستطيع معارضو أردوغان إزاحته من الحكم أو تقويض سياساته طالما يستطيع حصد الأغلبية في الانتخابات.

لذا، هرعت المعارضة للتفكير جديا في تبنى الطريقة العربية في التغيير، والتي لجأ إليها العرب جراء انسداد أقنية التغيير الديمقراطية في بلادهم، بينما تهرول المعارضة التركية إليها اضطراريا بعدما فقدت الأمل في إدراك تداول سلمي حقيقي للسلطة ودوران فعلي للنخبة السياسية.

ومن زاوية أخرى، يبدو أن طول بقاء الحاكم في السلطة، ولو بآليات ديمقراطية، وتحقيقه إنجازات ملموسة قد يولد بداخله نزوعا إلى الاستبداد، وهى سمة عالمية اعترت زعماء كثيرين كان من أبرزهم شارل ديغول في فرنسا ومارجريت تاتشر في إنجلترا وهوغو شافيز في فنزويلا. وربما يكون أردوغان قد اتخذ من انتخابه ديمقراطيا وإنجازاته الملفتة مسوغا لإحداث تغييرات ثقافية صادمة في بنية المجتمع التركي لا يبدو قطاع كبير من الأتراك مؤهلا لتقبلها.

لذلك، اندلعت المظاهرات التركية احتجاجا على ما أسمته المعارضة بـ"الأردوغانية"، حيث نزوع أردوغان للتسلط وتكرار نموذج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين توطئة لفرض الأسلمة والعثمنة على الأتراك.

مظاهرات تركيا طوت بين ثناياها رسائل تحذيرية مهمة لأردوغان وحزب العدالة لمراجعة المسار وتصحيح المسيرة، خصوصا بعد نجاح المعارضة في زيادة مقاعدها بالبرلمان

وربما لا تخلو احتجاجات تركيا من صراع على الهوية، حيث يبدو أردوغان، الذي أعلن أن المعارضة "أخطأت التوقيت"، حينما ظنت أن بمقدورها استنساخ الثورات العربية في تركيا، قد أخطأ الحسابات هو الآخر، حينما اعتقد أن عشر سنوات من الإنجازات الاقتصادية والإصلاحات السياسية والاجتماعية، المشفوعة بإشادة ودعم دوليين، لهى كفيلة بمجابهة الثوابت العلمانية الأتاتوركية التي ضربت بجذورها في البيئة التركية طيلة عقود تسعة خلت وما برحت تستعصي على النيل منها أو العبث بمكنوناتها، وفرض مصالحة قسرية بين الأتراك وتاريخهم العثماني وإرثهم الإسلامي.

يبقى القول إن مظاهرات تركيا قد طوت بين ثناياها رسائل تحذيرية مهمة لأردوغان وحزب العدالة لمراجعة المسار وتصحيح المسيرة، خصوصا بعد نجاح المعارضة في زيادة مقاعدها بالبرلمان خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2011، ثم انخراط مواطنين أتراك غير مسيسين أو مؤدلجين أو منتمين لأي تيار سياسي في صفوف المحتجين بشكل عفوي وللمرة الأولى، وتأييد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان لها من محبسه رغم عملية السلام التي انطلقت بين مقاتليه وحكومة أردوغان.

ولعل خصوصية الحركة الإسلامية والنظام الحزبي في تركيا تجود بتيار سياسي جديد ينبلج من حزب العدالة والتنمية ويستمد العبر من تجربته مثلما سبق للأخير أن فعل مع حزب الرفاه، على أن تكون كوادره الجديدة أكثر ليبرالية وتصالحا مع المعارضة، بشتى أطيافها، وأشد براعة في استكمال عملية التنمية وترسيخ الديمقراطية في تركيا، من دون استنفار للخصوم أو تعجل في حسم المواجهات المؤجلة والممتدة حول الهوية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.