مؤتمر روما وعولمة الصراع السوري

مؤتمر روما وعولمة الصراع السوري - الكاتب: غازي دحمان

undefined 

شكل مؤتمر روما لأصدقاء الشعب السوري فرصة ثمينة للإدارة العالمية للأزمة السورية لإعادة صياغة مقولاتها وتبرير مواقفها، بل حتى يمكن القول إنه شرعن سياسات الأطراف المختلفة عبر إعطاء كل طرف حرية التعاطي مع الطرف الذي يؤيده على الأرض السورية، دون أي اعتبار لحقيقة أن الأزمة تفتك كل يوم بما تبقى من سوريين خارج المخيمات والمعتقلات والقبور!

تجسد قرارات مؤتمر روما لأصدقاء سوريا حال الارتباك والتردد، وربما الخبث، في العقلية السياسية العالمية في إدارتها للأزمة السورية، التي تنتعش في هذ المناخ المأزوم، ومن خلال حزمة من الحسابات الإستراتيجية "عسكريا وسياسيا واقتصاديا". ذلك أن فكرة إرسال عربات قتالية لمساعدة الثوار في سوريا تبدو وكأنها أضعف الإيمان، أو الرد على استخدام النظام لصواريخ سكود والطائرات الحربية، فيما بدا أنه تقسيم للأدوار بين روسيا والغرب، وتطبيقا لمبدا "لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم". وهو انعكاس لدقة المرحلة الدولية وحساسيتها.

الغرب وخط الانتظار
سياسة الانتظار التي يتبعها الغرب تجاه الحالة السورية تحمل في طياتها مخاطرة مضاعفة، فمن ناحية تؤدي إلى إطالة أمد الصراع وتضمن استمرار تعفن الجرح المفتوح، ومن ناحية أخرى تسهم في زيادة تمزيق النسيج الوطني الذي بدأت مخاطره تفيض على المنطقة بكاملها.

سياسة الانتظار التي يتبعها الغرب تجاه الحالة السورية تحمل في طياتها مخاطر مضاعفة، فمن ناحية تؤدي إلى إطالة أمد الصراع ومن ناحية أخرى تسهم في زيادة تمزيق النسيج الوطني

لقد عكست مواقف الغرب في مؤتمر روما نمطا غريبا من الاستجابة تجاه الأزمة السورية، فقد تبين أن هذه الدول لم تستطع تطوير سياسة واقعية ودفعها باتجاه الالتزام الفعلي تجاه أزمة لم تعد خافية على أحد إفرازاتها المدمرة، كما أن مشهدية أفقها باتت واضحة لمن يبتغي القراءة الواقعية.

القرارات التي اتخذت في مؤتمر روما لأصدقاء الشعب السوري، القاضية بدعم قوى المعارضة المسلحة ببعض الوسائل القتالية "غير الفتاكة" تمثل نمطا سياسيا انتظاريا، ليس القصد منه مساعدة الشعب السوري في تحقيق أهدافه، بقدر ما هي توافق في إطار سياق أعم يهدف إلى خلق أوراق تفاوضية في مواجهة الأطراف الأخرى الفاعلة والمؤثرة في الحدث السوري "روسيا وإيران"، وهي وفق هذا الطرح تخدم إستراتيجية الغرب في عدم الانجرار إلى مواجهة مكلفة مع الأطراف المذكورة، ولكي تضمن أن نوعية الأسلحة لا يمكن أن تؤثر في الأمن المستقبلي لإسرائيل.

لا يجادل أحد بأن من حق أي طرف أن يجري حساباته الدقيقة بخصوص خطواته في واقع معقد كالواقع السوري، يكتنف تطوراته وطبيعة القوى الفاعلة فيه لبس شديد، وتحيط به أسئلة كثيرة من نوع أفق العلاقة المستقبلية مع هذه القوى وإمكانية ضبطها، ومدى القدرة على معرفة سلوكها المستقبلي، وبالتالي تصبح مسألة الاندفاع في عمليات تسليحها وتمويلها مغامرة لا يمكن أن ترتكبها الدوائر السياسية.
 
لكن ما يفند هذه الافتراضات أن ممارسة الحذر بحده الأقصى قد أفضى إلى هذا الواقع المعقد، أو هو نتيجة طبيعية له، الذي كان من الممكن عدم السماح بتخليقه وجعله معطى واقعيا وحيثية، خاصة أن كل الوقائع تشير إلى أن المسرح السوري جرى الشغل عليه بعناية فائقة وبطريقة فيها الكثير من التريث ليصبح على هذه الشاكلة، فلم يكن الواقع السوري وبعد عام على الثورة يتضمن العناصر "المعطيات" الموجودة فيه، ولم تكن الأمور في الإقليم والمنطقة قد تضمنت كل هذه التعقيدات.
 
والحقيقة أن من اشتغل على المسرح السوري كان يعمل وفي حساباته أن الغرب المتلهي بأزماته الاقتصادية والاجتماعية غير معني بأزمة لا يقتل فيها أفراد من الغرب ولا تؤثر في أمن إسرائيل ولا تهدد منابع النفط وطرق تصديره، كما أنه، الطرف المشتغل، التزم تماما باشتراطات الغرب في إدارته للأزمة ولم يستخدم الأسلحة المحرمة ولا قام بمجازر تتعدى آلاف الضحايا في يوم واحد، وبناء على هذه الأسس أكمل عبثه بالمسرح.
 
لكن هذه المعطيات تطرح جملة من التساؤلات التي تسلط الضوء على طبيعة التفكير السياسي الغربي في هذه المرحلة، فهل كان بالإمكان تجنب استدعاء واستحضار القوى المتطرفة في بيئة باتت مهيأة ومستنفرة لمثل هذا التطور، وهل ترك الحدث يتفاعل داخليا إلى حدوده القصوى يضمن عدم فيضه إلى تخوم إسرائيل ومنابع النفط، ولماذا ضاق التفكير الغربي ويضيق إلى حدود تفكير أطراف محلية رغم الضجيج عن دراسات الاستشراف المستقبلي والتخطيط بعيد المدى؟
 
ليست الأزمة الاقتصادية، على أهمية تأثيرها السبب الوحيد في سياسة الغرب تجاه سوريا، بل هي الردة على سياسات بوش والمحافظين الجدد هو الانتقام من نهاية التاريخ الفوكويامية، ما دامت الزعامة مكلفة ومرهقة وحصائلها قد تفوق قدرة الغرب، وبالتالي فإن الاستقالة غير المعلنة هي أفضل الطرق، ولكنها استقالة العقل الغربي عن المبادرة قبل كل شيء.
 
عالمية الصراع بالدم السوري
لكن ماذا يعني كل ذلك، وما معنى أن يحاول الغرب بمكر واضح ومفضوح الظهور بمظهر المستقيل وهو في ظنه أنه يورط الشرق وينهكه، في حين يندفع الشرق "روسيا وإيران" بجنون وحشي وهو يعتقد أنه يهزم الغرب؟ هذا يعني أن الصراع في سوريا وعليها تحول إلى صراع عالمي بأدواته وميكانيزمات تشغيله وطرق إدارة المعارك، ما دام كل طرف سيشرف على تجهيز وتدريب الفريق الخاص به، كما أن أهدافه أصبحت معولمة، وذلك بربط الصراع المحلي عضويا بقضايا النزاع الدولي وتشابكاته وتعقيداته، التي هي في الواقع أكبر من طموحات الثورة وقدرات النظام.
 
لقد أعاد مؤتمر روما تموضع أطراف الصراع السوري الخارجيين، وهؤلاء أعادوا صياغة مقاربتهم للحالة وفق أسس جديدة، الاتفاق كان واضحا بين روسيا والغرب، ويقتضي الضغط على أطراف الصراع، ولكن وبعكس سابقة جنيف حينما اختلفوا في التفسير وتعطلت العملية برمتها، أما الآن فيبدو أنهم اتفقوا على أن يأخذ كل طرف بالتفسير الذي يناسبه، وكما يظهر في التجليات يقوم كل طرف بتقديم المساعدة للطرف الذي يدعمه كي يضغط على الطرف الآخر ويدفعه إلى الاستسلام لشروطه.
عربات مؤتمر روما لن تحسم المعركة، حتى لو ساعدت على تحرير دمشق، بل هي تمنح الأزمة أفقا أوسع ليكتمل معها تشكيل المشهد التدميري والتفتيتي في سوريا
والحال أن مؤتمر روما أسس لعالمية الصراع وحولها إلى معطى راسخ في المشهد السوري، ولم تعد القضية محصورة بإسقاط دمشق أو الحفاظ عليها، وإنما الصراع طوّر نفسه وبدأ يتمظهر بأشكال مختلفة أخرى ومديات أكثر اتساعا، الشكل المعلن عنه هو الضغط باتجاه حل سياسي للأزمة السورية، وخلفها الأزمات المنتصبة بين الشرق والغرب، مع توسيع هامش أدوات هذا الضغط إلى حد السماح لكل طرف بتدمير الطرف الآخر، وفي الجوهر تكتسب العملية طابعا تجريبيا باستخدام نظرية اللعب على حافة الهاوية.
 
على وقع هذا التغير، ليس ثمة ما يشي بحدوث متغير مهم في تطورات الأزمة السورية، بل على العكس من ذلك جرت شرعنة الصراع باعتباره حربا أهلية بين طرفين داخليين، وطبيعي أن يمنحا فرصا متساوية لتحقيق النصر، ووضعه كحاضنة لحرب إقليمية موعودة بدأت تشد الرحال في الإقليم برمته.
 
وعلى وقع حريق دمشق ربما يضمن العالم فرصة للتفكير والوصول إلى نتائج معينة، وبهذا تكون روما قد أعادت إنتاج حريقها بجغرافية أخرى وبمدى قد يكون أوسع.
 
عربات مؤتمر روما لن تحسم المعركة، حتى لو ساعدت على تحرير دمشق، بل هي تمنح الأزمة أفقا أوسع ليكتمل معها تشكيل المشهد التدميري والتفتيتي، وهذه السياسة الانتظارية الحذرة تعطي لسياسة الأطراف الأخرى في الأزمة السورية تبريرا كما تشرعنها، وهي سوف تستدعي إجراءات مقابلة، منها" طائرات روسية ومليشيات إيرانية".
 
المقدر أن المشهد سيكتمل في سوريا صوب مزيد من الخراب الذي سيصنع آلياته ومعطياته وواقعه ليتحول في نهاية العام الحالي، وربما قبل ذلك، إلى أزمة تهدد الأمن العالمي، إن لم تفجره، ثمة من يقوم ببناء معطيات هذا الاحتمال وتثميرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.