المشروع الصهيوني بين أشواق اليهود وعقائد الغربيين

العنوان: المشروع الصهيوني بين أشواق اليهود وعقائد الغربيين - الكاتب: عمر الترابي

 undefined

لعله ما ذكرت القضية الفلسطينية في منطقتنا العربية إلا وذكرت معها الحركة الصهيونية، إلا أن مسألة الصهيونية لا تزال تغمض على كثير من الناس فيتعبون في فهمها ويمترون فيها، وربما أوجب ذلك النظر إليها ببعض التفاصيل علَ ذلك يفيد في فهم أبعاد ومستقبل الصراع الحالي على فلسطين.

فما هي هذه المنظمة الصهيونية؟ وهل هي قاصرة على اليهود وحدهم أم يشاركهم فيها آخرون؟ وما هي أهدافها ولماذا تحظى بكل هذا الدعم من الدول الغربية المسيحية؟

أول ما نذكره في هذا المضمار أن كلمة صهيون التي تنسب إليها المنظمة الصهيونية هي في الأصل اسم التل الذي قامت عليه مدينة القدس، ولكنها أصبحت تنسب إلى كل من ينادي بعودة اليهود إلى أرض فلسطين.

كلمة صهيون التي تنسب إليها المنظمة الصهيونية هي في الأصل اسم التل الذي قامت عليه مدينة القدس، ولكنها أصبحت تنسب إلى كل من ينادي بعودة اليهود إلى أرض فلسطين

وأول ما استخدمها على هذا النحو هو اتحاد الطلاب اليهود في فينا (كاديما) في نهاية القرن التاسع عشر، قبل أن تتسمى بها المنظمة اليهودية الجامعة التي نحن بصدد الحديث عنها، والتي أصبحت الممثل الشرعي لليهود منذ نهاية القرن 19 وحتى قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في عام 1947. والتي تبنت تحت قيادة الدكتور تيودور هرتزل، مشروعا لإقامة وطن قومي يضم كل أسباط اليهود الاثني عشر في فلسطين في مؤتمرها الأول في مدينة بازل السويسرية في عام 1897.

ولكن هل كانت الحركة الصهيونية هي أول من دعا لوطن لكل اليهود في فلسطين؟ في الحقيقة لا، لأنه قبل نصف قرن من هذا التاريخ وتحديدا في عام 1844، أصدر البروفيسور جورج بوش من جامعة هارفارد الأميركية كتابا باسم (عودة عظام اليهود الجافة للحياة) دعا فيه إلى توطين اليهود في فلسطين. والبروفيسور بوش مسيحي بروتستانتي، وربما هو جد الرؤساء بوش الأب وبوش الابن، والعهدة على الراوي. والمدهش في هذا الكتاب أنه قد احتوى على خريطة مفصلة لفلسطين بين فيها أماكن المستوطنات التي يجب أن تقطن فيها القبائل اليهودية المختلفة، رغم أنه لم يُظهر في كتابه أي اهتمام باليهود كشعب أو تعاطف مع معاناتهم. 

وإذا كان جورج بوش ليس مهتما باليهود كشعب فلماذا يدعو إذن إلى عودة اليهود إلى فلسطين؟  السبب هو أن جورج بوش كان يتبع عقائد مسيحية بحتة انتشرت في إنجلترا وأميركا منذ القرن السابع عشر، تقول بأنه وفقا للنبوءات الإنجيلية فإن عودة المسيح رهينة بعودة اليهود إلى الأرض التي وعدهم الله بها، وإقامة دولتهم عليها ثم تحولهم للمسيحية. وهذا ما نعنيه بالصهيونية المسيحية في هذا المقال.

وبالرغم من أن هذه الطوائف لا تمثل التيار العام في الكنيسة البروتستانتية إلا أن نفوذها الكبير في دول عظمى مثل إنجلترا والولايات المتحدة الأميركية جعلها تلعب دورا حاسما في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الحالي.

أما من قِبل اليهود فلقد قوبلت الفكرة المسيحية الداعية لإقامة دولة لليهود في فلسطين بالرفض الكامل من اليهود، عدا طائفة دينية صغيرة تعتبر من المتطرفين، وعلي سبيل المثال رفضها مؤتمر حاخامات اليهود الإصلاحيين في مدينة فرانكفورت في عام 1845 وفي مدينة فيلادلفيا في عام 1869 وفي مدينة سانت بطرسبورغ في عام 1885 بحجة أنهم لم يعودوا دولة، بل مجتمع ديني، ولا يرغبون في العودة إلى فلسطين ولا إقامة دولة.

كما رفضها الدكتور تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية في البداية وسخر منها في معرض تعليقه على مسرحية (زوجة كلود) للكاتب الفرنسي (ألكسندر دوم) بحجة أن اليهود قد انقطعوا من جذورهم واستوعبوا في شعوب مختلفة وتبنوا ثقافاتها وأصبح من الصعب عليهم أن ينجزوا مشروعا مشتركا، ولذا فعليهم الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة وخدمتها. إلا أن ما جد من أحداث في معاملة الأوروبيين لليهود، وخاصَة حادثة اتهام ضابط فرنسي من أصل يهودي يدعي دريفوس ظلما بالعمالة وتوقيع عقوبات قاسية عليه، اقنع هرتزل لاحقا بتبني فكرة إقامة وطن قومي لليهود ولكن ليس على شاكلة النظرية المسيحية الآنف ذكرها.

فلقد قامت الحركة الصهيونية وفقا لما ورد في كتاب مؤسسها تيودور هرتزل (دولة اليهود) على ثلاثة مبادئ، أولها توحيد القبائل اليهودية في شعب واحد وثانيها عدم السماح باستيعاب اليهود في أي شعب آخر، ولتحقيق هذه الأهداف إيجاد وطن يقيم فيه كل اليهود. ولقد أضافت الحركة الصهيونية هدفا رابعا لهذه الأهداف في مؤتمر الصهيونية الأول بمدينة بازل السويسرية وهو حق اليهود في الإقامة بفلسطين.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن عبارة وطن قومي لليهود لا تعني وفقا للوثائق الدولية قيام دولة ولا تعني انتزاع أرض بالقوة أو إزاحة شعب عن موطنه، وإنما تعني إقامتهم في دولة واحدة تتوفر لهم فيها الحماية ويتمكنون فيها من تحقيق ذاتيتهم الثقافية. وهذا ما نص عليه وعد بلفور في عام 1917 وما ورد في وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين وما ورد في قرار عصبة الأمم في يوليو/تموز 1922 والذي هو بمثابة التشريع الدولي الملزم وما سارت عليه قرارات الأمم المتحدة لاحقا وما سعى به حاييم وايزمان خليفة هرتزل في المنطقة العربية قبل وبعد وعد بلفور لطمأنة القادة العرب.

كان من الممكن أن يقوم وطن اليهود القومي في أي مكان وعلى أي مساحة من الأرض وبأي تنظيم إداري، بدليل أن هرتزل سعى في البداية لإقناع الإنجليز بمنحه مستعمرة في أفريقيا لإقامة وطن لليهود عليها

وبذلك كان من الممكن أن يقوم وطن اليهود القومي في أي مكان وعلى أي مساحة من الأرض وبأي تنظيم إداري، والشاهد على ذلك أن هرتزل سعى في البداية لإقناع الإنجليز بمنحه مستعمرة في أفريقيا لإقامة وطن لليهود عليها، لأن كل همه كان منصرفا لتخليص شعبه من الاضطهاد الذي يعانيه في أوروبا المسيحية منذ تحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية في عهد قسطنطين الأول في القرن الرابع.

والذي تتجلى أمثلته في انتهاك حرمات اليهود في إسبانيا بعد سقوط الأندلس وإبعادهم من دول أوروبا اللوثرية ثم استباحة أرواحهم وأموالهم في حملات البوق روم في روسيا وأوكرانيا وبولندا حتى نهاية القرن التاسع عشر.  

ثم سعى بعد تبني الصهيونية لحق اليهود في الإقامة بفلسطين لأن يتم ذلك بالاتفاق مع الحكام المسلمين والعرب في المنطقة، ولقد سافر بالفعل والتقى بالسلطان عبد الحميد لإقناعه بقبول إقامة اليهود في فلسطين، ولكن السلطان رد عليه بعبارته الشهيرة (إنني لأفضل أن يخترقني الحديد قبل أن أرى فلسطين تضيع).

غير أن هذا لم يوقف هرتزل فسعى إلى ملك مصر وطلب منه أن يمنحه مدينة العريش وسيناء لتوطين اليهود، ولكن الملك رفض رفضا قاطعا. ربما لقناعة هرتزل بإمكانية عيش اليهود بين ظهراني المسلمين لما يراه في ذلك الوقت من التعايش المثالي بين العرب واليهود في فلسطين ولعلمه بما تمتع به اليهود من حقوق وحريات في دولة الأندلس التي انتجت أبو عمران موسي القرطبي أشهر فلاسفة اليهود والإمبراطورية العثمانية التي حمتهم لقرون من اضطهاد الأوروبيين.

لكن بتبني حق إقامة اليهود في فلسطين وموت هرتزل في عام 1904 التقت مصالح الحركة الصهيونية مع الأطماع الاستعمارية وعقائد المسيحيين الصهاينة مما جعل أعدادا كبيرة منهم تنضم للحركة الصهيونية حتى فاقوا عدد اليهود، مما حول الحركة الصهيونية من حركة متحدة الأهداف والدوافع إلى حركة مختلفة الأهداف مختلفة الدوافع. حيث إنها تجمع بين فريقين قومي يهودي وديني مسيحي، تراهم جميعا وقلوبهم شتى، لا يأبه أحدهما بالآخر إلا بالقدر الذي يحقق به مآربه.

ولعل أطرف تعليق على هذا الحلف ما قاله جيرشوم قورن بيرق، رئيس تحرير تقرير القدس، مازحا بأن عقيدة المسيحيين الصهاينة رغم أننا نفرح لها إلا أنها تمثل مسرحية من خمسة فصول سيختفي اليهود في فصلها الرابع.

ومن المهم أن نذكر هنا الاختلاف الكبير بين فكرة الوطن القومي لليهود الواردة في قرار عصبة الأمم وفكرة الدولة اليهودية لدى المسيحيين الصهاينة واليهود المتطرفين والتي تقوم على الدولة اليهودية الكبرى على ضفتي نهر الأردن وعاصمتها الأبدية القدس، وأضاف إليها اليهود المتطرفون حق طرد كل من هو غير يهودي منها لأنهم يدَعون أن موسى عليه السلام قد أمر اليهود بطرد كل من هو غير يهودي من أرض كنعان حينما وصلوا إليها.

لكن رغم ذلك ظل التيار القومي اليهودي يمسك بقيادة الحركة الصهيونية حتي بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948، وبذلك أبعد التيار الديني الذي يتزعمه مناحيم بيجين عن المشاركة في الحكومات الإسرائيلية حتى عام 1967. إلا أن القوميين اليهود خرجوا تماما عن القانون الدولي والمبادئ الأخلاقية وأهداف الحركة الصهيونية بعد حرب 1948 لتبنيهم سياسة التوسع بالقوة ومنع عودة الفلسطينيين لديارهم ولممارستهم للتمييز ضد من تبقى من العرب في فلسطين.

وبسبب الخطأ الإستراتيجي للقوميين اليهود وهزائم العرب في حربي 1948 و1967 أمام الجيش الإسرائيلي واحتلال إسرائيل للقدس نجحت التيارات الدينية في إسرائيل بإيهام الرأي العام بأن انتصار الجيش الإسرائيلي معجزة تثبت صحة النبوءة الإنجيلية مما كان له من أثر صعود الأحزاب الدينية في إسرائيل وهيمنتها على حكوماتها منذ سبعينيات القرن الماضي إلا من بعض الاستثناءات.

وهذا ما حوّل الصراع على فلسطين من نزاع مدني على الحقوق إلى صراع ديني على الأماكن المقدسة، على نهج الصراع القديم إبان الحروب الصليبية. مما دفع باليهود القوميين إلى مواقع المقاومة وجعلهم يفكرون في تغيير قواعد اللعبة بالتصالح مع الفلسطينيين لوقف هيمنة التيار الديني على إسرائيل. وما إن سنحت لهم فرصة حكومة إسحق رابين في عام 1992 حتى عقدوا اتفاق أوسلو في عام 1993 مع الفلسطينيين بعيدا عن مركز المسيحيين الصهاينة في الولايات المتحدة، إلا أن التيار الديني سرعان ما اغتال رابين واستعاد السلطة فجعل من اتفاق أوسلو نسيا منسيا.

الحركة الصهيونية لم تحقق أهدافها بقيام دولة إسرائيل لأنها لا تزال بلا حدود وبلا عاصمة معترف بها، ولا يزال خمس سكانها من العرب غير المنتمين إليها ولا تزال تبحث عن استراحات الأمن بين حرب وحرب

وفي الختام: هل حققت الحركة الصهيونية أهدافها بقيام دولة إسرائيل الحالية؟ قطعا لا، لأن دولتهم التي أقاموها بثلث اليهود، على حفنة من تراب، وسط رمال العرب المتحركة قبل نيف وستين عاما لا تزال بلا حدود وبلا عاصمة معترف بها، ولا يزال خمس سكانها من العرب غير المنتمين إليها ولا تزال تبحث عن استراحات الأمن بين حرب وحرب ولا يزال وجودها رهين عوامل خارجة عن سيطرة اليهود. 

 ليس هذا فحسب بل لقد أصبح الشعب اليهودي في مواجهة مع كل العالم حتى أصبحت الصهيونية مرادفا للاستعمار والفصل العرقي، ولكن الأهم من ذلك  خسران اليهود لتعاطف وصداقة المسلمين الذين كانوا يلجأون إليهم كلما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت فيجدون عندهم الحماية والإكرام والمساواة، ولا حاجة في ذلك إلى دليل، فلقد استقبلتهم الإمبراطورية العثمانية آخر دول المسلمين الجامعة، مفتوحة الذراعين حينما انتهكوا في إسبانيا الكاثوليكية وحينما استبيحوا في روسيا الأرثوذكسية وحينما طردوا من دول شمال أوروبا البروتستانتية، وساوت بينهم وبين المسلمين وجعلت منهم الوزراء والحكام وأعضاء مجلس الدولة، بل ودافعت عن حريتهم الدينية بالسلاح في عهد السلطان أبي يزيد  حينما فرض البابا المسيحية على بعض يهود الإمبراطورية قسرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.