المغرب وأميركا بحاجة إلى إصلاح المقاربة

المغرب وأميركا في الحاجة إلى إصلاح المقاربة . الكاتب :يحيى اليحياوي

undefined 

في النصف الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي قام ملك المغرب محمد السادس، يرافقه وفد كبير من المستشارين والوزراء والسياسيين ورجال المال والأعمال، بزيارة رسمية للولايات المتحدة الأميركية.

وهي الزيارة التي طالما بشر بها المسؤولون والإعلام الرسمي من خلفهم، اعتبارا منهم "لدقة الظرف" الذي تأتي في سياقه، و"لحساسية الملفات" التي سيتم التداول فيها، في ظل زيارة هي الثانية للملك منذ اعتلائه العرش، أواخر تسعينيات القرن الماضي.

الخطاب الرسمي المواكب لهذه الزيارة المؤطر لها لدى المتلقي المغربي والأميركي على حد سواء، ناهيك عمن يلتقط إشاراتها ودلالاتها غير المباشرة هنا أو هناك، وقف بقوة عند ثلاثة سياقات تبدو له أساسا لفهم توقيت هذه الزيارة وطبيعتها.

– السياق الأول سياق تاريخي صرف، ويتم الاعتداد به دائما للتذكير بأن المغرب هو أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الأميركية في العام 1777، وأن طبيعة العلاقة بين البلدين لا يمكن -يقول الدافعون بهذا السياق- إلا أن تستحضر هذه "المرجعية التاريخية" التي على الولايات المتحدة بموجبها أن "ترد الجميل"، لا سيما أن مسألة الوحدة الترابية/الوطنية للمغرب باتت مطروحة على المحك.

السياق الأول للزيارة تاريخي للتذكير بأن المغرب هو أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الأميركية في العام 1777، وعلى الأخيرة رد الجميل،
لا سيما أن مسألة الوحدة الترابية للمغرب على المحك

– السياق الثاني سياق إستراتيجي وأمني خالص، ومفاده تذكير الأميركيين
-يزعم أصحاب هذا السياق- بأن المغرب قد غدا بعد أحداث "الربيع العربي" نموذجا يحتذى، ليس فقط كونه لم يتعرض للهزات التي طالت نظما شبيهة له، تقاطع بصلبها الظلم بالفساد بانسداد الأفق، ولكن أيضا لأنه استطاع استشرافها والتهيؤ لها، واستباقها بإصلاحات حالت دون سقوطه في الفوضى الدامية العامة التي أضحت الخيط الناظم العميق لأنظمة "الربيع العربي" منذ ثلاث سنوات مضت.

هو "نموذج" لم يبدِ الخطاب الرسمي المغربي خجلا أو ترددا في النصح بالأخذ به من لدن هذه الدولة العربية أو تلك، ولم يخفِ في الآن ذاته حاجته إلى توظيفه بهذا الشكل أو ذاك، لإدراك مغنمة ممكنة أو لدرء مفسدة محتملة.

– أما السياق الثالث فهو سياق خاص، أعني مباشرا في الغاية، غير متحايل كثيرا على الوسيلة، ومفاده القول بأن المغرب ظل منذ العام 2004 -سنة زيارة محمد السادس الأولى لأميركا- مطمئنا إلى الموقف الأميركي إزاء وحدته الترابية، حتى وإن كان هذا الموقف متذبذبا أحيانا (باعتبار أن المسألة من اختصاص الهيئات الدولية، حسب ما يقول هؤلاء) ومجاملا لهذا الطرف من الصراع أو ذاك بأحايين أخرى، كالقول إن القضية تخص طرفي النزاع المباشرين، هم وحدهم أهل الحل والعقد.

من هنا، يبدو أن الملك محمد السادس قد ذهب لملاقاة الأميركيين -رئيسا ونوابا بالكونغرس ولوبيات مصالح وأصحاب نفوذ- متسلحا بهذه السياقات، إن لم يكن لإعادة التذكير ببعضها، فعلى الأقل للتأشير على كونها ستبقى برأيه عناصر أساسية في تحديد بوصلة وطبيعة العلاقة بين المغرب والولايات المتحدة الأميركية.

المفارقة هنا أن طرفي العلاقة ليس لديهما المرجعية نفسها في مقاربة هذه السياقات، ولا يولونها  الدلالة نفسها الرمزية والمادية التي قد تبدو -لأول وهلة- ناظمة لهذه العلاقة في شكلها ومضمونها، فالمغرب لا يمل من التفاخر بمعزوفة أنه كان "أول بلد يعترف باستقلال الولايات المتحدة الأميركية"، بل ويلمح إلى أن له بعنق الأميركيين "جميل تاريخي" المفروض أن يردوه له، اعترافا معنويا بحالات اليسر، مواقف وسياسات بحالات الشدة والعسر.

الأميركيون -بهذه النقطة- لا ينكرون حقيقة أن المغرب كان أول من اعترف رسميا بكيانهم الجغرافي ووحدتهم الترابية، لكنهم لا يعتبرون ذلك عنصرا حاسما في تحديد نوعية وطبيعة علاقتهم به.

إن جنوحهم للبراغماتية واحتكامهم المطلق لمبدأ المصلحة والمصلحة أولا وأخيرا هما اللذان يرشدانهم، يوجهانهم، بل ويمليان عليهم ما المفروض اعتماده من سياسات وتسطيره من توجهات، أما ما سوى ذلك من اعتبارات و"قيم" فهي لا تتعدى بنظرهم التمثل العاطفي الذي لا يقدم العلاقة في شيء.

ولهذا السبب، فاعتداد الدبلوماسية المغربية -ومن خلفها الإعلام الرسمي- "بمعزوفة" الاعتراف لا يتماهى بالمرة مع ما تمثله "نموكلاتورا" الحكم في أميركا، أو يتراءى للوبياتها ومراكز نفوذها، إذ لا حساب -بنظرهم- للغة العواطف والمشاعر والانطباعات بالعلاقات بين الدول، حتى وإن ارتبطت بـ"معاهدات صداقة" أو "تفاهم" أو "حسن جوار"، فما بالك باعتراف رمزي أكل عليه الدهر وشرب.

– أما القول -قول الرسميين المغاربة والإعلام من خلفهم- إن المغرب قد أضحى استثناء لما عرفته بلدان "الربيع العربي" بفضل حنكته وقدرته على استشراف المستقبل، والتجاوب معه بما يستوجب من مبادرات وإصلاحات، فهو قول لا يجانب كثيرا تموجات الحقائق على الأرض، إلا أن الأميركيين لا يعتدون بذلك كثيرا في تحديد توجهات سياساتهم بإزاء هذه الدولة أو تلك.

إنهم يقيسون "مكانة" هذا البلد أو ذاك -ملكيا كان أم جمهوريا، ديموقراطيا كان أم مغيبا لحقوق الإنسان- بمدى ما يخدم مصالحهم، أو يحافظ عليها، أو يصونها ضد الصدمات التي قد تطالها أو تعطل مسيرتها.

لذلك، فـ"النموذج" لدى الأميركيين ليس طبيعة النظام القائم، ولا قدرته على ضبط المجتمع قهرا أو تراضيا، بل بمدى حمايته لمصالحهم الآنية والمستقبلية، حتى وإن كان في ذلك التضحية بهذا الرئيس أو الأمير أو الملك.

الأميركيون لا يولون اعتبارا كبيرا للماضي، حتى وإن كان تاريخا مضيئا، إنهم لا يعتدون إلا بالمباشر الحي الذي يضمن لهم مصلحة مباشرة آنية أو بعد حين، حتى وإن كان ذلك ضد مؤشرات الأخلاق أو معايير الحق والباطل

بالتالي، فإن الادعاء بأن المغرب قد غدا نموذجا يحتذى، المفروض الاعتداد به وإيلاؤه "امتيازا خاصا"، لا يستسيغه الأميركيون كثيرا حتى وإن تفهموا موقف المعتدين به.

إن القول بتميز طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة، وضرب جذورها في أعماق التاريخ، بمقياس اعتراف المغرب بها، واحتساب اجتماع الرئيس روزفلت بكبار القادة السياسيين أثناء الحرب العالمية الثانية في الدار البيضاء المغربية، هذا القول لا يشفع للمغرب في أن يحصل على امتياز مادي أو معنوي لدى الأميركيين.

الأميركيون لا يولون اعتبارا كبيرا للماضي، حتى وإن كان تاريخا مضيئا، إنهم لا يعتدون إلا بالمباشر الحي الذي يضمن لهم مصلحة مباشرة آنية أو بعد حين، حتى وإن كان ذلك ضد مؤشرات الأخلاق أو معايير الحق والباطل.

إنهم عمليون، اللاحق لديهم لا يحتكم إلى السابق، والقادم المحتمل لا قيمة له تذكر إذا لم يكن بمحصلاته فائدة مادية خالصة يمكن لمسها باليد حالا أو بالمقبل من أيام.

لذلك، إن تحرج المغرب من سلوك الولايات المتحدة الأميركية المتذبذب بإزاء قضية الصحراء هو تحرج بالإمكان تفهمه من لدن المغاربة، لكن من الصعب فهمه من لدن الإدارة الأميركية، على الأقل من زاوية الاعتبارات التي تحكمها، والتي تجعل الإدارة ذاتها فاعلا ضمن فاعلين آخرين من بين ظهرانيها، أو موازين لها في القوة ونفاذ الكلمة وآلية صياغة القرار.

لنعطِ مثالين اثنين على ذلك:
– المثال الأول: عندما تقدمت سفيرة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة في أبريل/نيسان العام 2013بمشروع توصية تعطى بموجبه لقوات الأمم المتحدة المرابطة بالصحراء (المينورسو) صلاحية مراقبة وضعية حقوق الإنسان بهذه المنطقة الجغرافية، فإن توصيتها لم تثر بذهن الإدارة الأميركية إشكالا كبيرا يذكر، لأنها لا تخرج عن سياق توسيع مهام البعثة الأممية هناك، لتشمل جانبا إضافيا بمنطقة متنازع بشأنها.

الأمر عادي بالنسبة لصانع القرار الأميركي، بل وشرعي وفق مرجعيته في حقوق الإنسان وقراءته لمواثيق الأمم المتحدة، غير أنه يعتبر -بالنسبة للمغرب- تطاولا على السيادة الكاملة للبلاد، وتدخلا في مهام للقوات الأممية تم تحديدها بالتوافق داخل مجلس الأمن.

نحن هنا إزاء حالة نموذجية لتوصية لم تصدر عن الإدارة الأميركية مباشرة، لكنها كادت تعتمد من لدن الإدارة ذاتها، وتصبح بالتالي موقفا رسميا أوشك -لو تسنى له أن يعتمد- أن يقلب بعضا من موازين القوى ويفجر الأوضاع بالصحراء.

– المثال الثاني ويتمثل -قبلما تطرح سوزان رايس مشروعها بالأمم المتحدة- في التقرير الذي أعدته مؤسسة روبرت كنيدي للعدالة وحقوق الإنسان، وطالبت صانع القرار السياسي الأميركي في أعقابه بضرورة "إدراج آلية مراقبة حقوق الإنسان ضمن مهمة المينورسو".

بهذا المثال أيضا، لم يمل المغرب الرسمي من ترديد أسطوانة "الاعتراف التاريخي للمغرب بالولايات المتحدة"، و"علاقات الصداقة" التي تربط البلدين، لتقديمها كدفوعات ضد هذا الاقتراح، وثني الإدارة الأميركية عن الأخذ بمضامينه، في الوقت الذي لم يكن الطرف الآخر يعير ذات الدفوعات قيمة اعتبارية تذكر.

في مقابل كل ذلك، يبدو لنا أن الزيارة الأخيرة لمحمد السادس للولايات المتحدة تختلف نسبيا عن تلك التي سبقتها بالعام 2004، والتي كانت -في ما ثبت من معلومات- زيارة للمجاملة و"للتعرف على أميركا عن قرب" ليس إلا.

وقولنا بهذا إنما مرده ثلاثة اعتبارات أساسية:

– الاعتبار الأول، أن الملك محمد السادس بات يدرك أن التعامل مع الأميركيين يستوجب مقاربة جديدة، براغماتية، عملية، مباشرة وذات طبيعة نفعية.

لذلك، فعندما اصطحب معه وفدا موسعا من مديري المؤسسات العمومية ورجال المال والأعمال الخواص ومستشارين في القضايا الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية، فلأنه يدرك أن لا شيء يعلو على المصلحة مع الأميركيين، وأن المفتاح الناعم الذي يستقطبهم ويلين من خشونة مواقفهم إنما يكمن في مدى ما تضمنه لهم من امتيازات اقتصادية ومالية ومصالح جيوإستراتيجية قريبة أو متوسطة أو بعيدة المدى، دع عنك استحضار هذا الطارئ التاريخي أو ذاك الذي لا يفسح المجال لمنفعة، ولا هو بقادر على درء مفسدة.
بات الملك يدرك أن التعامل مع الأميركيين يستوجب مقاربة جديدة، براغماتية، عملية، مباشرة وذات طبيعة نفعية، ولذلك اصطحب معه وفدا موسعا من مديري المؤسسات العمومية ورجال المال، ومستشارين في القضايا الأمنية

– الاعتبار الثاني أن الملك بات يدرك جيدا أنه كان ولا يزال يتمتع بقوة رمزية، سياسية ودينية، جنب المغرب بفضلها متاهات وفوضى "الربيع العربي"، وبدا للعالم ولأميركا -على وجه التحديد- حالة متقدمة في استباق الاحتمالات السيئة والحيلولة دونها ودون العصف بحاضر كما بمستقبل الأفراد والجماعات.

 
الملك يدرك ذلك جيدا والأميركيون أيضا، لذلك فمن المؤكد أنهم سيطلبون منه توظيف الرمزية ذاتها لدفع نظم عربية (بالخليج تحديدا، حيث للملك مكانة خاصة) إلى تليين موقفها مما ترتب له أميركا مع إيران، وما تراهن على ترتيبه لبلدان الإقليم.

المعادلة هنا عملية وبراغماتية صرفة، للأميركيين فيها المصلحة على الأرض، وللمغرب الاعتراف له بالدور النافذ.

– أما الاعتبار الثالث فلأن الملك قد أبان حقا أنه حليف يعتد به في "الحرب على الإرهاب" التي رفعها الأميركيون بوجه تنظيم القاعدة بأفريقيا، والتي لم يتوانَ المغرب عن مواكبتها وتزكيتها والإسهام فيها بالعدة والعتاد.

كل هذه الاعتبارات تعطي لزيارة الملك طابعا خاصا بنظرنا، لكن تساؤلنا يبقى مطروحا مع ذلك: هل جنى الملك ثمن ما يراهن عليه؟

قد نجيب بالإيجاب لو احتكمنا لنجاح الملك في إعادة استدراج الموقف الأميركي دبلوماسيا، بخصوص مشروع الحكم الذاتي بالصحراء، وقد اعترف له مرة أخرى "بجدية" مشروعه وواقعيته ومصداقيته، وهذا مهم.

لكننا نبقى متحفظين من استدراكات الموقف ذاته عندما يردف أن المشروع لا يعدو كونه "مقاربة ممكنة يمكن أن تلبي تطلعات سكان الصحراء لإدارة شؤونهم في إطار من السلام والكرامة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.