هل اقترب الغروب السياسي لأردوغان؟

هل اقترب الغروب السياسي لأردوغان؟ الكاتب :بشير عبد الفتاح

undefined

لم تحل الإنجازات الهائلة -التي حققها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان طوال السنوات الإحدى عشرة التي أمضاها على رأس الحكومة في بلاده- دون بروز معطيات عديدة تطوى بين ثناياها مؤشرات لتراجع فرص الزعيم التركي في الاحتفاظ ببريقه السياسي والاستمرار في قلب المشهد السياسي.

ولعل أبرزها هذه المؤشرات ما يلي:

أولا: كانت ترتيبات أردوغان للبقاء في بؤرة الساحة السياسية التركية ترتكز على الاستمرار برأس السلطة عبر إحدى طريقتين، إما الاستمرار في رئاسة الوزراء من خلال تمكن حزبه خلال الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها عام 2015 من حصد الأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة منفردا مثلما فعل مرات ثلاث سابقة متوالية، أو تغيير شكل نظام الحكم في تركيا بموجب تعديل دستوري يتضمنه مشروع الدستور الجديد.

وهو الدستور الذي شكل أردوغان قبل نحو عامين لجنة مكونة من اثني عشر عضوا يمثلون الأحزاب السياسية الأربعة الكبرى في البلاد لصياغته ليحل محل دستور عام 1982، الذي وضع تحت إشراف العسكر عقب انقلابهم العسكري الثالث على السلطة المدنية المنتخبة عام 1980، ليتحول من نظام برلماني على النمط البريطاني إلى آخر رئاسي أقرب إلى النموذج الفرنسي، على أن يستهل هو هذا المنصب الرفيع بصلاحياته الجديدة الواسعة عبر الترشح لرئاسة البلاد والفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة.

سعى أردوغان للبقاء برأس السلطة عبر إحدى طريقتين: إما الاستمرار في رئاسة الوزراء من خلال تمكن حزبه خلال الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها عام 2015 من حصد الأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة منفردا، أو تغيير شكل نظام الحكم في تركيا بموجب تعديل دستوري

غير أن كلتا الطريقتين قد سدتا أمام أردوغان، فمن جهة لن يكون بمقدوره الاستمرار كرئيس للوزراء بعد عام 2015، إذ إن اللائحة الداخلية لحزب العدالة والتنمية تحظر عليه تقلد منصب رئيس الوزراء لأكثر من ثلاث ولايات متتالية، وبما أنه قد استنفد ثلاثتها بالفعل فلن يتسنى له تقلد منصب رئيس الوزراء للمرة الرابعة على التوالي إذا ما فاز حزبه في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وشكل الحكومة منفردا.

ومن جهة أخرى، لن يتاح لأردوغان أن يبلغ مراده في أن يكون رئيسا وفقا لنظام رئاسي يحظى فيه الرئيس بصلاحيات واسعة حقيقية على غرار الرئيسين الأميركي أو الفرنسي، إذ أعلن فشل لجنة الدستور الجديد في صياغة هذا الدستور.

وإلى جانب عدم تعديل الدستور، كان يحول دون أردوغان والرئاسة واسعة الصلاحيات معوق من نوع آخر، حيث كانت تتربص به التيارات العلمانية والكمالية التركية المتخوفة من نزوع أردوغان -إذا ما صار رئيسا للبلاد في نظام رئاسي- نحو المضي بخطى واثقة وسريعة صوب أسلمة البلاد وعثمنتها توطئة لتحقيق حلم "العثمانية الجديدة" التي راج الجدل بشأنها، فيما دأب أردوغان وحزبه على نفيها والتبرؤ منها.

ثانيا: شكلت التداعيات الإقليمية السلبية -التي طوت بين ثناياها اندلاع الثورات العربية- تحديا خطيرا أمام أردوغان وطموحاته.

وقد أسفر تعاطيه المرتبك والمتهور مع هذا التحدي عن اهتزاز شعبيته في الداخل وتراجع مكانته إقليميا، لا سيما بعد أن بدأت المكتسبات السياسية والاقتصادية التي حققها قبل تفجر تلك الثورات علاوة على عوائد سياسة "صفر مشاكل" التي تبناها قبل سنوات بغية تذويب الخلافات التاريخية والمزمنة بين تركيا وجيرانها في التآكل تدريجيا.

وهو الأمر الذى بدا جليا في تدهور علاقات أنقرة مع أصدقاء وشركاء إقليميين على شاكلة كل من دمشق والقاهرة بشكل ملفت، كما تنذر بفقدان النمو الاقتصادي التركي لروافد مغذية مهمة تتمثل في العلاقات الاقتصادية الحيوية مع قوى اقتصادية إقليمية بارزة كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

وعديدة هي التطورات الدولية والإقليمية الملفتة التي بدأت تصب في غير مصلحة أردوغان وحساباته ورهاناته خلال الآونة الأخيرة وعلى مشارف الاستحقاقات الانتخابية التي تستعد لها البلاد، بدءا من الانتخابات البلدية في أبريل/نيسان عام 2014، ومن بعدها الرئاسية في أغسطس/آب من العام ذاته، ثم البرلمانية عام 2015.

فمع ظهور شبح الإرهاب والتطرف الإسلاميين في سماء المنطقة بجريرة تعثر تجربة الإسلاميين في الحكم بدول الثورات العربية التي سقطت أنظمتها التقليدية المتسلطة، أصبح أردوغان في موقف لا يحسد عليه بعد أن اهتزت صورته أمام حلفائه الغربيين كعراب لصعود الإسلام المعتدل إلى سدة السلطة في المنطقة.

ففي حين يستند دوره ومشروعه المدعوم من قبل الغرب بالأساس إلى ترويجه للاعتدال الإسلامي بغية إيصاد الأبواب أمام قوى التطرف شنت وسائل إعلام غربية في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي حملة شرسة على رئيس الاستخبارات التركية حاقان فيدان، المعروف بأنه الذراع اليمنى لأردوغان، واتهمته بدعم تدفق المقاتلين المتطرفين والجهاديين التكفيريين إلى سوريا، وتحديدا جبهة النصرة وداعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام).

ثالثا: رفض قطاع واسع من الأتراك لما بات يعرف في تركيا خلال السنوات القليلة المنقضية بـ"الأردوغانية"، فقد بدا أن قطاعا كبيرا من الأتراك سئم استمرار أردوغان في أروقة إدارة الدولة لما يقارب العقدين من الزمان، حيث ظل في رئاسة بلدية إسطنبول من عام 1994 وحتى عام 1998، ثم انتقل إلى رئاسة الحكومة منذ عام 2002 ولمدة 11 عاما وضع خلالها كثيرا من السلطات في يده، كما كان يتطلع إلى أن يكون رئيسا ذا صلاحيات واسعة بعد تركه رئاسة الوزراء إثر تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي.

كما كان يتطلع إلى البقاء في الرئاسة حتى عام 2024، حتى يتسنى له الاحتفال بالذكرى المئوية للجمهورية التركية في العام ذاته، والتي يريد لها أن تكون جمهورية إسلامية جديدة لا مكان فيها لأتاتورك أو تماثيله وضريحه وربما صوره.

كان أردوغان يتطلع لأن يكون رئيسا ذا صلاحيات واسعة بعد تركه رئاسة الوزراء، والبقاء في الرئاسة حتى عام 2024، حتى يتسنى له الاحتفال بالذكرى المئوية للجمهورية التركية في العام ذاته، والتي يريد لها أن تكون جمهورية إسلامية جديدة لا مكان فيها لأتاتورك أو تماثيله وضريحه وربما صوره

فلم تكن مشكلة أتراك كثر مع أردوغان في طول بقائه على رأس السلطة فقط، إنما في إصراره على تمرير مشروعه الذى يرونه منصبا على الأسلمة والعثمنة.

فعلى مدى السنوات العشر المنقضية، نجح أردوغان وحزبه تدريجيا في السيطرة على الحكومة والشرطة والرئاسة والمحكمة الدستورية ثم الجيش الذى نجح في الإطاحة بجميع قيادته عام ‬2011 ومحاكمة الباقين بتهمة التآمر على الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطيا ثم استبدالهم بأهل الثقة وبمن يدينون له بالولاء، وأغلق المؤسسات الإعلامية المعارضة، وزج بصحافيين معارضين لنظام الحكم في السجن، إلى درجة صارت تركيا تحتل المركز الثالث بعد روسيا والصين في عدد الصحافيين المسجونين، طبقا لتقرير منشور في مجلة الإيكونوميست البريطانية عام 2013.

وتقهقرت تركيا من المركز الـ‬99 في عام ‬2002 إلى المركز الـ‬154 في عام ‬2013، بالنسبة إلى حرية التعبير عن الرأي، طبقا للتقرير السنوي لمنظمة "مراسلون بلا حدود".

وبكلمات موجزة علق على ذلك المحلل ألتر توران من جامعة بلجي الخاصة في إسطنبول بالقول "منذ توليه الحكم، تحول أردوغان تدريجيا من ممارسة براغماتية للسلطة إلى مواقف أيديولوجية، ومن العمل الجماعي إلى قرارات فردية، ومن الديمقراطية إلى التسلط، ومن سياسات مدروسة إلى أخرى ارتجالية".

وحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، فقد لطخ القمع العنيف للانتفاضة ضد الحكومة -التي هزت البلاد برمتها خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من يونيو/حزيران الماضي- سمعة أردوغان كثيرا، سواء داخل أو خارجها.

وكشفت قراراته -التي أصبحت تثير انتقادات متزايدة- شروخا حتى داخل حزبه، حزب العدالة والتنمية.

بدوره، أكد نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري فاروق لوغوغلو أن "الاستياء الناجم عن سياسة رئيس الوزراء يتزايد داخل وخارجها".

وأضاف أن "الديمقراطية والحريات مهددة، وثمن هذه السياسة هي أن تركيا أصبحت مهمشة على الساحة الدولية، ومقسمة في الداخل".

رابعا: اصطدام أردوغان وهو على أبواب ثلاثة استحقاقات انتخابية مصيرية بالأصدقاء والحلفاء الداعمين له في الداخل والخارج كجماعة فتح الله غولن.

فقد تفجرت التوترات العلنية بين أردوغان وغولن على خلفية أمور شتى، أبرزها: إدارة أردوغان لأزمة أسطول الحرية، والتي حمله غولن خلالها المسؤولية، كون الأسطول التركي لم يحصل على إذن إسرائيلي لدخول غزة، ثم رفض جماعة غولن تعيين أردوغان حاقان فيدان المقرب إليه على رأس جهاز الاستخبارات العامة.

ومثلما رفض فتح الله غولن محاكمات أردوغان لرموز الجيش التركي بتهمة التآمر لإثارة الفوضى والإطاحة بالحكومة التركية، انتقد أسلوب أردوغان في التعاطي مع احتجاجات ميدان تقسيم بوسط إسطنبول الصيف الماضي، ووصفه للمتظاهرين السلميين بـ"الفوضويين"، وصولا إلى إغلاقه ما يسمى بالمدارس التحضيرية الخاصة التي تمتلك جماعة غولن ما لا يقل عن ربع تعدادها.

وفيما أكدت إحصاءات أجراها حزب العدالة والتنمية أن نسبة الناخبين التابعين لجماعة فتح الله غولن من إجمالي الناخبين الأتراك لا تتجاوز 3%، في حين تشير إحصاءات أخرى إلى أنها قد تصل إلى نسبة 8%، إلا أن قوة غولن وجماعته تكمن بالأساس في تغلغلهما داخل العديد من مؤسسات الدولة الحيوية كالشرطة والقضاء، فضلا عن دعمهما أردوغان وحزبه ماديا وتصويتيا خلال الانتخابات، وبالتسويق له محليا ودوليا عبر مؤسساتها المتشعبة والمنتشرة في كل مكان، سواء داخل تركيا أو حول العالم.

وتشي تجارب التاريخ بأن طول أمد الحاكم على رأس السلطة، ولو بآليات ديمقراطية، إنما يجعله أكثر ميلا إلى التسلط كما جرى من قبل مع شارل ديغول في فرنسا ومارغريت تاتشر في إنجلترا وهوغو شافيز في فنزويلا، خصوصا إذا ما تسنى لهذا الحاكم تحقيق إنجازات اقتصادية أو اجتماعية على أرض الواقع.

لذلك، انصبت المعارضة التركية بالأساس ضد شخص أردوغان بسبب سعيه إلى التسلط أو تكرار نموذج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

فدعم الشارع للحاكم طوال ولايات متتالية يمنحه الانطباع بأنه الأفضل، وأنه منزه عن أخطاء غيره، وأن بإمكانه أن يستأثر بالحكم والقرار من غير مشاورة أحد في أي موضوع.

ربما يكون أردوغان قد اتخذ من كونه منتخبا بشكل ديمقراطي كما إنجازاته الاقتصادية مبررا للانطلاق صوب إحداث تغييرات ثقافية في المجتمع التركي لا يبدو الشعب التركي في مجمله مستعدا ومتقبلا لها.

رغم ما تبقى له من رصيد شعبي يبدو حزب العدالة والتنمية مضطرا لتقديم ترضيات للناخب التركي المحتقن في الداخل وأصدقاء تركيا الغاضبين في الخارج، تنطوي بين ثناياها على إعلان ضمني عن أفول الحقبة "الأردوغانية" في السياسة التركية

وتفصح تجربة الإسلام السياسي في تركيا عن حقيقة موحية، مؤداها أن الخروج من هذا المأزق السياسي والنجاة من أي مصير سياسي مؤلم قد ينتظر حزب العدالة الذي ينفرد وحيدا وبلا منازع بإدارة الدولة التركية منذ العام 2002، قد لا يتأتى من دون تضحيات سياسية يتعين على الحزب تقديمها قبيل الاستحقاقات المهمة المرتقبة.

فرغم ما تبقى له من رصيد شعبي، يبدو حزب العدالة والتنمية مضطرا إلى تقديم ترضيات للناخب التركي المحتقن في الداخل وأصدقاء تركيا الغاضبين في الخارج، تنطوي بين ثناياها على إعلان ضمني عن أفول الحقبة "الأردوغانية" في السياسة التركية.

بمعنى أن ينأى أردوغان عن الصفوف الأمامية لحزب العدالة ورئاسة الحكومة، وأن يعلن الحزب عدوله عن خوض الانتخابات الرئاسية المرتقبة، وأن يتوارى أردوغان عن صدارة المشهد السياسي التركي ويعود إلى الصفوف الخلفية بحزبه لعدة سنوات على الأقل مفسحا المجال أمام وجوه جديدة من الصفين الأول أو الثاني داخل حزب العدالة تكون مقبولة من جانب القواعد الشعبية للحزب، وكذا عموم الأتراك.

من جانبه، وانطلاقا من هذه الاعتبارات والتحديات قد لا يكون أمام أردوغان من خيارات أفضل من خوض الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها العام المقبل بالاقتراع المباشر لأول مرة، وأن يقنع -حالة فوزه بها ونجاح حزبه في تشكيل الحكومة المقبلة منفردا للمرة الرابعة على التوالي- بدور الرئيس الشرفي متواضع الصلاحيات، على أن ينأى بنفسه وحزبه وبلاده عن التداعيات السلبية المحتملة لمحاكاة أستاذه نجم الدين أربكان خلال سني عمره الأخيرة بالتدخل في شؤون الحكم ومباشرة الضغوط على الحكومة أو ممارسة التأثير في عملية صنع القرارات، مستندا إلى تاريخه النضالي ودوره في تأسيس حزب العدالة، علاوة على النجاحات والإنجازات التي حققها إبان فترة حكمه، والتي شهد لها القاصي والداني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.