مانديلا.. السياسة وسمفونية التآخي

مانديلا.. السياسة وسمفونية التآخي . الكاتب :عبد الله علي إبراهيم

undefined

سنذكر لنيلسون مانديلا نضاله الطويل من أجل حرية شعبه، وستكون سنوات سجنه السبع والعشرين بيت القصيد في ذكرى الرجل والمرجع.

ولكن قيمة مانديلا الحق ليست في طول نضاله ولا عنفوانه، فهناك أفارقة زادوا عليه في سنوات حبسهم، مثل سيمون كيمبانقو الكاهن الكنغولي الذي اشتبهت السلطات البلجيكية الاستعمارية في نفوذه الطاغي بين أهله ممن عدوه مبعوث المسيح إليهم، فسجنوه من 1921 حتى مات بسجنه في 1951.

ولا يضارع نضال مانديلا حتى نضال زوجته ويني التي حلت محله في إلهام النضال وتدبيره ضد نظام الفصل العنصري منذ سجنه في 1964 حتى خروجه في 1990.

هناك أفارقة زادوا على مانديلا في سنوات حبسهم مثل سيمون كيمبانقو الكاهن الكنغولي الذي اشتبهت السلطات البلجيكية الاستعمارية في نفوذه الطاغي بين أهله ممن عدوه مبعوث المسيح إليهم فسجنوه من 1921 حتى مات بسجنه في 1951

ليس سحر مانديلا مع ذلك في النضال الذي لم يترك فيه بابا إلا طرقه، وليست المقاومة منتهى ذلك السحر، فمبعث كيميائه حقا هو في قول لمارتن لوثر "سيمفونية التآخي" التي سعى بها في قومه فترك فيهم وطنا موحدا من بيض إنجليز وأفريكان، وسود من شعوب شتى، وهنود، وخليط من ذلك كله، وهو بلد ما تصور أحد أن يبقى موحدا.

فالبيض خططوا منذ 1948 أن يقسموه قسمة ضيزى بينهم وبين السود، ومع التزام حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (1912) بوحدة شعوب جنوب أفريقيا كما جاء في ميثاق الحرية (1953)، فإنه قل من تصور أن يولد البلد معافى هكذا بعد طول مخاض عنيف.

بل كان من الأفارقة مثل جماعة المؤتمر الأفريقي الجامع من أراده للسود لا غير وليتكفل البحر بالبيض.

كما كان لقيادة شعب الزولو السود في ولاية ناتال دعوة كونفدرالية قاتلوا دونها لتحفظ لهم استقلالا ذاتيا في وطن هش، كانت جنوب أفريقيا المستقبل في رحم غيب خطر شقاقي.

نخطئ في طربنا بطول سجن مانديلا وتعزينا به في مقاومتنا للشر، فالرجل انتهز سانحة السجن ليتحرر من مصطلح المقاومة وأشجانه فخلصت نفسه من أوشاب الأضغان على العدو إلى التآخي معه.

لم يطلب هذا التآخي عن هوان، بل عن ثقة في أنه على الجانب الصحيح من التاريخ، وتنبع من هذه الثقة في النفس قوة قد نمارسها ولا نعتقد في كيميائها، وهي قوة الحقيقة وقوة الروح، وهما ما تضمنهما مفهوم "الساتياقراها" للمهاتما غاندي. وجوهره هو الإصرار على الحق، وهي خلاف "المقاومة السلبية" كما يتبادر للذهن، فالمقاومة السلبية ترهن الشوكة بالمستبد، في حين أن مركز دائرة الشوكة في "الساتياقراها" هو المضطهد.

وكانت ساحة التطبيق الكبرى لقوة الحق المانديلانية هي محاكم الحقيقة والتآخي (1996-1998) التي أرادت طي سجل نحو أربعة قرون من ظلم المستوطنين البيض للسود وفتح صفحة جديدة لبلد آخر، فلم تنعقد تلك المحاكم للقصاص، وعليه لم تطلب الحقيقة الجنائية كمحاكم القانون لتقدير الجرم فالعقوبة، خلافا لذلك طلبت تلك المحاكم الحقيقة السردية.

فالجاني يروي على العلن وقائع جنايته فتدون، فيحصل على العفو، فاستغرب خلق كثير مثلا كيف انطوت صحائف جريمة مقتل إستيف بيكو، قائد شباب حركة الوعي بالسواد في الستينات، بجرحها الغائر بمجرد أن روى حراسه البيض في السجن دقائق اغتياله.

والأكثر غرابة لمن لم يتهيأ لسمفونية التآخي وقوف ويني مانديلا بجلالة قدرها في النضال أمام محاكم الحقيقة والتآخي تسرد تفاصيل قتل فريق من عصبتها من الشباب لواحد منهم اتهموه بأنه غواصة للعدو.

مثل هذا الصبر على الأذى التاريخي هو جوهر الستياقراها، ولا يقع إلا لمن خلصت روحه من الضغينة خلال النضال وامتلأت باليقين في قوة الروح والحقيقة. فمنذ ترأس تلك المحاكم الأسقف الأنجيلكاني ديسموند توتو كان قد طور -منذ الثمانينيات- مفهومه لـ"دبلوماسيي المسيح"، فقال إنه إن لم يكن من المصالحة بد في جنوب أفريقيا فمن لها غير قسيسي المسيح ودبلوماسييه؟
وواتته الشجاعة في مجلس رهباني في 1990، اجتمع فيه مع قسيسين من كنيسة البيض ذات العقيدة والممارسة في الفصل العنصري، ليقول لهم "عفونا عنكم"، ولم يأبه للضجة التي ثارت حول عبارته وسط السود.

ميّز مانديلا المسائل التي أثارها حزبه ولكنه رأى في "عزتهم بالماضي" شغبا على الحاضر وتملصا من المستقبل لأنهم صموا آذانهم عن سمفونية التآخي ومستحقيها، ولا نستحقها -بحسب غاندي- إلا حين تفطم أنفسنا من الخطأ بالصبر والحمية، ونحق الحق بأن نتأذى نحن لا الخصم

وبهذه الروحانية، أبعد مانديلا نفسه عن شغل المحكمة، ولم يحرك ساكنا حين جاءته قيادة حزبه، المؤتمر الوطني الأفريقي، تطلب أن يُعفى الحزب ومناضلوه من أن يعرضوا على محكمة الحقيقة، ثم جاؤوه ثانية يحتجون على إدانة المحاكم لمناضليهم، وكل ذنبهم أنهم قاوموا الظلم وانتصروا.

بالطبع، ميّز مانديلا المسائل التي أثارها حزبه، ولكنه رأى في "عزتهم بالماضي" شغبا على الحاضر وتملصا من المستقبل لأنهم صموا آذانهم عن سمفونية التآخي ومستحقيها، ولا نستحقها -بحسب غاندي- إلا حين تفطم أنفسنا من الخطأ بالصبر والحمية، ونحق الحق بأن نتأذى نحن لا الخصم.

إذا كانت السياسة هي فن اختراع الرموز وتداولها فقد أظهر مانديلا ملكة غير عادية في هذا الميدان.

وقد خلّد الفيلم "إنفكتس" (2009) رشاقتة في ميدان في تدوير الرموز، فاختار مانديلا ساحة الرياضة ليستنبط منها رموزا تقترب بها أمته المنقسمة هونا من بعضها بعضا.

وهي أمة تدابرت حتى في اللعب، فكان لسادتها البيض لعبة الرقبي ولأسيادها السود لعبة كرة القدم، وكان السود يتمنون لفريق البيض القومي للرقبي، سبرينقبوك، الهزيمة متى لعب ضد أي كان من فرط الخصومة، واعترف مانديلا بأنه كان يريد لهم الخزي نظير اضطهادهم الطويل لشعبه.

جاء الفيلم بحيل مانديلا في التربص بالرموز وإشاعتها بلسما بين الناس، فنراه يستعد بعد عام من تسنمه رئاسة الجمهورية للمباراة النهائية بين جنوب أفريقيا ونيوزيلندا في كأس العالم للرقبي لعام 1995.

واتفق لمانديلا أن يرفع من وتيرة المباراة لتكون "قداسا" للوطنية جنوب الأفريقية وجسرا لعبور (أو اقتحام) السود إلى البيض في محفل ظل لقرون سمة امتيازهم ووحشتهم في آن واحد.

وواجه مانديلا في الفيلم موقفين خارجين على مقتضى سمفونية التآخي، كان الأول هو قرار متنفذين سود في مجلس حكومي إذلال فريق سبرنقبوك، معبود البيض، بتجريده من ألوانه الرامزة له، الأخضر والذهبي، عقابا له لهزائمه المتكررة أخيرا، وأرادوا حقيقة إشباع غرائز الانتقام من بيض ساموهم الخسف مذ حلوا بأفريقيا في 1651.

وتنازع من الجهة الأخرى حراس مانديلا السود مع حرس بيض جاؤوا بأمر منه نفسه ليكونوا بين طاقم حراسه، فتحرك مانديلا (لعب دوره الأمريكي الأسود مورقان فريمان). وقال للحراس السود أن يسمعوا ويعوا من الآن فصاعدا أن رئيس جمهورية جنوب أفريقيا سيكون محميا بالبيض والسود معا.

وغادر مكتبه بعد سماعه قرار التهزئة بسبرينقبوك، واقتحم الاجتماع وناقش أنصاره الطائفيين واستدرجهم للكف عن البغضاء وسحب قرارهم. وقال لهم إن البيض يحبون فريقهم، فلماذا لا نبدأ معهم بما يحبون، لا بما لم يعقلوه من قبل عن الآخاء؟

وكانت خطوته التالية أن طلب من فرانسواز باينار، كابتن سبرنقبوك، (أداه الأمريكي مات دمن) في مكتبه، وتبادلا حديثا شفافاعن القيادة ومقوماتها.

فطلب مانديلا من الكابتن أن يعقدا معا حلفا للنصر في كأس العالم للرقبي ليعطيا جنوب أفريقيا الجديدة سببا لتجاوز شقاقها التاريخي في مهرجان النصر.

إذا كانت السياسة هي فن اختراع الرموز وتداولها فقد أظهر مانديلا ملكة غير عادية في هذا الميدان، وقد خلّد الفيلم "إنفكتس"
(2009) رشاقتة في ميدان في تدوير الرموز، فاختار مانديلا ساحة الرياضة ليستنبط منها رموزا يقرب بها أمته بعضها من بعض

سأل مانديلا الكابتن: كيف يقود فريقه؟ فقال بالقدوة. فاتفق معه مانديلا. وقال إن علينا أن نلهم من حولنا إلهاما يستقطر منهم همة تزيد على توقعات أي منا، وعبّأ مانديلا السود والبيض معا للنصر، وأطلق شعاره: فريق واحد، بلد واحد.

وهذا التماهي بين الرياضة والسياسة هو ما حدّث مانديلا عنه كابتن الفريق قائلا: الرقبي عنيفة مثل السياسة. واستعد مانديلا مثل الكثيرين للمباراة.

كان يجلس إلى سكرتيرته "يذاكر" أسماء اللاعبين حتى يناجيهم بها حين يلقاهم في الميدان، ولم يقبل رأي أي خبير عن ضعف الإسبرينقبوك. فقال لوزير الرياضة حين حدثه بقول الخبراء عن ضعف الفريق "لو صدقنا الخبراء لكنت أنا وأنت لا نزال في السجن".

كان لقاء الرئيس والكابتن مناسبة لتربية جيل جديد للتعود على الوطن الجديد، فأطلع مانديلا الكابتن على بعض ذكرياته في سجنه الطويل الذي زاره باينار لاحقا مع زملائه في الفريق.

ومن ثنايا لقاء الرئيس والكابتن خرجت قصيدة قال مانديلا إنه كان يعزي نفسه بها في سكرات السجن، وهي لشاعر إيرلندي هو وليام إبنتلي (1849-1903) اسمها "إنفيكتس" وتعني "الذي لا يهزم" في اللاتينية. وصارت اسما للفيلم:

خارج الليل الذي يلفني
أسود كباطن حفرة من قطب لقطب
أنا حامد للأرباب أيا كانوا
لروحي التي لا تقهر

ولما خرج الكابتن سألته حبيبته: كيف وجدته؟ قال: كما لم أجد أي شخص آخر قبله. فسألته: كيف؟ قال: أظنه يريدنا أن نفوز بالكأس. وبالفعل فاز، وانطلقت أفراح النصر في الشوارع، أفراح ألغت تاريخا من التدابر.

ولا يتمالك المشاهد غصة في الحلق والفيلم يطوّف بمشاهد لتآخي السود والبيض على بينة النصر، وترقرقت عيون مانديلا نفسه عند معجزة الإخاء التي تفجرت في الشارع، وحين طلب منه الحرس أن يتخذ طريقا أهدأ قال "لا داعي للعجلة". وجاء الصوت من خلفية الفيلم:

أنا سيد قدري
أنا قبطان روحي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.