حول آثار سوريا ومقاماتها

عبد الجليل زيد المرهون- حول آثار سوريا ومقاماتها

undefined

ما الذي يُمثله التاريخ الحضاري في حسابات الشعوب؟ هل هو جزء من الوزن الجيوسياسي للدول؟ وكيف يبدو المشهد السوري الراهن على هذا الصعيد؟

بداية، نحن بصدد مفهوم إشكالي، توليفي أو مركب، تعددي المضمون والنطاق.

إن تعريفا مبدئيا للتاريخ الحضاري يُمكن صياغته على النحو التالي: هو التاريخ الثقافي، والإبداعي العام، في صيرورته التراكمية، التي نمت عبر الزمن، وأخذت صورا وأشكالا معنوية ومادية، ذات صلة بتطور الإنسان ونظام حياته.

والتاريخ الحضاري، بهذا المعنى، ليس اصطلاحا رديفا للتراث الثقافي، أو الموروث المادي، وإن دخل ذلك في إطاره.

يعرف التاريخ الحضاري بأنه التاريخ الثقافي، والإبداعي العام، في صيرورته التراكمية، التي نمت عبر الزمن وأخذت صورا وأشكالا معنوية ومادية، ذات صلة بتطور الإنسان ونظام حياته

إن العلوم والفنون والآداب، التي أبدعتها الأمم وإنتاجها وتجلياتها الروحية والمادية، وما أفرزته من نظم وتقاليد وعمران، تُعد جميعها من التاريخ الحضاري، كما يُعد روادها ومبدعوها رموزا تاريخيين للأمم التي أنجبتهم.

وفي حسابات الشعوب، فإن الإرث الحضاري هو مَعِين للحاضر، بقدر كونه أثيل مجد، هو مَعِين للحاضر لأنه أحد ركائز النهوض الروحي والمادي، وهو أثيل مجد لكونه مصدر شعور بالتميز بين الشعوب والأمم.

إن التاريخ الحضاري يترجم، في التحليل الأخير، ثقلا معنويا وماديا للدول، ليغدو جزءا من وزنها الجيوسياسي.

وكأية دولة أخرى، يُمكن النظر إلى تاريخ سوريا الحضاري باعتباره أحد روافد حاضرها الثقافي والاجتماعي، وبالضرورة المادي.

بيد أن هذا التاريخ، الذي ألقى بظلاله على كافة مناحي الحياة، يتعرض اليوم لحملة عبثية، تستهدف معالمه ورموزه، والرسالة التي بشر بها، حيث تتوالى الأخبار، بوجه خاص، عن استهداف الآثار، ومقامات الأولياء، والمجسمات التي تخلد الأدباء والعلماء العظام.

بداية، ثمة سؤال صعب، مُحير أو ذو شجون، هو: لماذا يحدث كل ذلك؟

هل هذا جزء من هدفنا الوطني في بناء سوريا الحديثة؟ أو هل هو جزء من العقيدة التي آمن بها السوريون، ومضوا عليها هم وأسلافهم؟ والأهم من ذلك، هل يحق لأحد أن يرغم السوريين على ترك معتقداتهم واستبدالها بأخرى، منافية لفطرتهم وسجيتهم، وهم من نشر الإسلام في أصقاع الأرض وجهاتها الأربع؟

أجل، نحن بصدد مأزق ثقافي وسياسي مزدوج، هذا المأزق يتمثل ثقافيا في سيادة رؤية أحادية التفسير للإسلام، تسعى لتكبيل المجتمع بقيود وأغلال ما أنزل الله بها من سلطان.

وإذا كان الهدف الأخير لأي تحديث وطني هو الإنسان، فإن محاولات الدفع القسري بالحياة الاجتماعية إلى الوراء تُمثل النقيض التام لهذا الهدف، كما أنها منافية في الأصل لسنن التاريخ.

إن أحدا لا يُمكنه أن يقنع المواطن السوري، في أي مدينة أو بلدة، بعادات وسلوكيات تفوح منها رائحة القرون الوسطى، وما قبلها، فهذه ردة اجتماعية في غير مكانها وزمانها.

ومن شأن هذه الردة الاجتماعية، متى استمر الترويج لها، على النحو القائم الآن، أن تؤسس لشقاق مديد في صفوف المجتمع، وتعمل على تفجيره من الداخل، وهي بذلك أشد خطورة عليه من الدبابة والمدفع.

سياسيا، يتجسد هذا المأزق في منطق الاستحواذ، والسعي للهيمنة على المجتمع، وجعله تابعا، لا حول له ولا قوة.

وأن يقوم شخص بهدم مقام لنبي مرسل، أو مجسم لشاعر عظيم، فهذا يعني أنه يقول للآخرين أنا من يفكر نيابة عنكم، وأنا من يقرر شكل عقيدتكم، وفلسفتكم الدينية.

هذه باختصار دكتاتورية فائقة، لا قبل لأحد بها، ومن يقول إنه يعمل من أجل الحرية لا يجوز له ممارسة نقضيها.

إن الأمر يدور تماما حول تكميم الأفواه، وقمع الرأي الآخر، وفرض منطق القوة، بدلا من قوة المنطق، وهذا ليس طرحا نظريا، ففي عين العروس، على سبيل المثال، خرج الأهالي يعترضون على هدم مقام نبي الله إبراهيم الخليل، لكنهم ووجهوا بالقوة وأجبروا على الصمت.

وللتذكير، فإن سوريا مثوى لعدد كبير من الأنبياء والصحابة والأولياء الصالحين، ومن ذلك مقام نبي الله هابيل، ونبيه إبراهيم الخليل، وأهل الكهف، وأم المؤمنين السيدة (أم حبيبة) رملة بنت أبي سفيان، زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والسيدة زينب، والسيدة رقية، ابنتا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

ومن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر، وبلال الحبشي، وخالد بن الوليد، وأبو الدرداء الخزرجي، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن عنبسة، والعرباض بن سارية، وحجر بن عدي رضي الله عنهم جميعا.

وبالنسبة لعلاقة الناس بمقامات الأنبياء والأولياء، لا بد من الرجوع إلى مبدأ التنوع الثقافي، وترك الحرية لكل المؤمنين، كي يعبروا، كل بطريقته، عن مكنونهم الروحي والوجداني، دونما وصاية أو قيود، وذلك على النحو الذي عاشوا عليه، هم وآباؤهم، على مدى قرون من الزمن.

ونحن نؤكد على ذلك لأنه ليس بين البشر من بيده قسمة الجنة والنار.

وإذا كان مطلوبا احترام طقوس المسلمين كافة، بمختلف مذاهبهم وطرق تعبدهم وتصوفهم، فإنه من الواجب أيضا احترام طقوس بقية المواطنين، من غير المسلمين، وفي ذلك تأكيد على حقيقة تنوع المجتمع وتعدديته.

تحدثت تقارير دولية عديدة عن عمليات تنقيب منظمة عن الآثار في سوريا، تقوم بها عصابات تهريب وأفراد ومجموعات مختلفة، بغرض بيعها في أسواق الدول المجاورة وحول العالم

ويدور الحديث هنا، بوجه خاص، عن الوجود المسيحي في البلاد، الذي يعود إلى فجر المسيحية ومطلعها.

وإذا كانت بيت لحم مهد السيد المسيح، فإن مدينة معلولا تُعد وجه المسيحية المشرقية الراهنة، وهي تزخر بكنائسها وأديرتها، ولغتها الآرامية، التي لا تزال محكية.

كذلك، تعتبر كاتدرائية السيدة العذراء (أم الزنار) في حمص إحدى أقدم كنائس العالم، حيث تعود للقرن الأول الميلادي، وتحديدا إلى العام 59 ميلادية، وقد شُيدت على يد أحد التلامذة السبعين لسيدنا المسيح.

وكما حدث لعدد من المقامات الإسلامية، كذلك بدا العبث بالكنائس، الذي سجل في أنحاء مختلفة من البلاد، بمثابة تعد على الوحدة الوطنية، بقدر كونه انتهاكا للحرمات الدينية، وحرية الدين والمعتقد.

وهو يعبر عن ذات المعضلة، التي تجسدت في هدم مقامات الأولياء، ويترجم ذات النهج وذات العقلية.

وكما حدث للمقامات والدور الدينية المختلفة، لم تسلم مجسمات علماء وأدباء الوطن، هي الأخرى، من هذا النهج، وهذه الرؤية الأحادية للدين والحياة.

وكنموذج لذلك، جرى نسف مجسمات لكل من الشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعري (973-1057م)، والشاعر أبي تمام، حبيب بن أوس الطائي (804-846 م)، والشاعر محمد الفراتي.

ولمن لا يعرف الفراتي، هو شاعر كبير من مدينة دير الزور، عاش في الفترة بين عامي 1890 و1978، وتلقى علومه في الأزهر الشريف، ومن أشهر قصائده قصيدة "الفرات الخالد".

ومن يا ترى بمقدوره رؤية مجسمات هؤلاء العظماء وقد جرى نسفها، أو تقطيعها، أليس في ذلك إهانة للذات الوطنية، وإثارة أخرى للشقاق الاجتماعي؟

وعلى صعيد رابع، وفي السياق ذاته، بدت آثار سوريا ومواقعها الأثرية، وبعض متاحفها، هدفا للعبث والتخريب، وبدت الغايات هذه المرة وقد تجاوزت فرض الرأي والرؤية، كما تجاوزت تداعياتها الاجتماع السياسي إلى ما هو حضاري، ووطني بعيد المدى.

وكما يعرف الجميع، فسوريا تضم أكبر مجمع آثار في الشرق، متفوقة في ذلك على كافة جيرانها بأشواط طويلة.

وسوريا هذه، ذات مدن قديمة، تعاقبت عليها حضارات بعد أخرى، فالعاصمة دمشق هي أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، أما حلب، فقد شيّد معالمها كل من الحثيين والآشوريين والإغريق والرومان، والدول والمماليك التي جاءت من بعدهم. وتُعد أيضا واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم.

ولا تختلف حمص القديمة عن هذه النتيجة، وكذلك هو حال مدن تاريخية أخرى في المحافظة ذاتها، وفي محافظات أخرى، على امتداد الوطن.

وعلى جناح الأزمة الراهنة، وفي جنح الظلمة والانفلات الأمني، حدثت عمليات نهب وسرقة لعدد غير محدد من القطع الأثرية، التي لا تُقدر بثمن.

وليس المقصود هنا فقط قطع الآثار الموجودة في المتاحف، إذ إن مواقع الآثار والتنقيب تُعد هي الأخرى مكانا افتراضيا لمثل هذه القطع.

ووفقا لبعض التقارير، يبيع المهربون القطع الأثرية السورية في العاصمة الأردنية عمّان بأسعار تتراوح بين 50 دولارا للسفينة الحجرية، وثلاثة آلاف دولار للتماثيل، ويقوم التجار الأردنيون بعد ذلك ببيعها بأسعار مضاعفة.

وفي السياق، ضبطت شرطة الحدود الأردنية أجهزة لكشف المعادن حاول بعض المهربين إدخالها إلى الأراضي السورية.

كذلك، تحدثت تقارير دولية عديدة عن عمليات تنقيب منظمة عن الآثار في سوريا، تقوم بها عصابات تهريب، وأفراد ومجموعات مختلفة، بغرض بيعها في أسواق الدول المجاورة، وحول العالم.

والجدير بالذكر هنا أن جميع بعثات التنقيب الأجنبية قد غادرت البلاد بسبب الظروف الأمنية السائدة.

وفي الأصل، هناك أكثر من عشرة آلاف موقع للآثار والتنقيب موزعة على مختلف محافظات القطر، وخاصة في المناطق الحدودية، وقد تضرر عدد غير محدد منها.

هناك أكثر من عشرة آلاف موقع للآثار والتنقيب تضرر عدد غير محدود منها، ولا توجد حتى الآن مسوحات شاملة عن الأضرار التي لحقت بالآثار السورية، ومن الواضح أن مثل هذه المسوحات يصعب إنجازها في الظروف الأمنية الراهنة

ففي محافظة دير الزور، على سبيل المثال، تعرضت للضرر تلال السن والبصيرة والعشارة وطابوس، ومواقع ماري ودورا أوروبس وحلبية.

كذلك، شملت الأضرار بعض القرى الأثرية في الكتلة الكلسية شمال البلاد، أو ما تعرف باسم المدن الميتة.

وكانت منظمة اليونسكو قد قررت في العام 2011 إدراج هذه القرى على لائحة التراث العالمي.

ولا توجد، حتى الآن، مسوحات شاملة عن الأضرار التي لحقت بالآثار السورية، ومن الواضح أن مثل هذه المسوحات يصعب إنجازها في الظروف الأمنية الراهنة.

وفي المنتهى، يبقى الأمل قائما بأن يلتزم الجميع بحرمة الحق العام، ويحافظوا على ثروة الوطن، بما فيها معالمه التاريخية والثقافية، وأن لا يكون التعدي على هذه المعالم مجرد وجهة نظر، أو هوى خاصا، ذلك أن حرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخر، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالوطن ذاته، المطلوب في الأصل صون كرامته، وتأكيد حرية أبنائه، بفئاتهم كافة، وانتماءاتهم الفكرية والاجتماعية.

هذه هي الرسالة التي يجب علينا حفظها، كي تبقى سوريا بفضائها الثقافي والحضاري الرحب، وبتعدديتها الاجتماعية الوافرة، التي لا غنى عن التمسك بها، والتأكيد الدائم عليها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.