ثورة مصر في منظور انقلاب السودان

ثورة مصر في منظور انقلاب السودان - كمال الجزولي - أحداث مصر شتت معظم المواقف العربية، ومنها السودانية، ودفعت بمواقف بعض القادة في أعرق الديمقراطيات إلى التزحزح عن الثوابت الراسخة التي ترفض تدخل جيوش في السياسة

 undefined

يكاد السودان يكون الأكثر إغواءً بين بلدان المنطقة لمحللي تأثيرات الأحداث المصرية الراهنة، لكون الجيش هو الذي لعب الدور الحاسم في حل قضية السلطة هنا وهناك، بصرف النظر عن المفارقة القائمة عملياً في وقوع ذلك، بالنسبة للنموذج السوداني، لصالح تحالف عسكري/إسلاموي أزاح نظاماً ديمقراطياً تعدديا، وبالنسبة للنموذج المصري لصالح تحالف عسكري/حزبي أزاح رئيساً إسلاموياً منتخباً.

أما نظرياً، فإن الصراع المحتدم في مصر حول تقدير ما وقع بين "الثورة والانقلاب"، وإن كان بلا مثيل حتى الآن في النموذج السوداني، لانعدام أي خلاف بين معسكري الحكم والمعارضة حول تقدير ما وقع هنا، قبل زهاء ربع قرن كـ "انقلاب" خالص، إلا أن انفجار هذا الصراع غير مستبعد مع تصاعد الأحداث خلال الفترة القادمة!

(1)

يتجلى التناقض النظري بشأن "العلاقات المدنية العسكرية" سودانياً ومصرياً في كون إسلامويي النموذج السوداني يحتاجون -قطعا- إلى "المواضعات الجديدة" التي ما انفكت تبرر منذ حين لتدخلات الجيوش في السياسة، كاسحة أمامها جملة "المواضعات القديمة" المغايرة، وذلك كداعم إضافي لـ"شرعية القوة" التي اعتمدوها منذ انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989.

في المقابل، يحتاج إسلامويو النموذج المصري -يقينا- إلى مواصلة الإعلاء الشعاري من شأن "قوة الشرعية" لمناهضـة حـراكات 30 يونيو، و3 يوليو 2013، ودحض "المواضعات الجديدة" التي لو استقرت في قلب العقيدة السياسية المصرية لأضحت وبالاً على مستقبلهم السياسي في الأمداء القريبة والمتوسطة والبعيدة، وتلك -لعمري- مفارقة أخرى!

تاريخياً، ساد في التنظير والعمل أن النمط التقليدي لتدخل الجيش في السياسة هو "الانقلاب العسكري" الذي يعتبر -وفق أعمِّ تعريفاته- مؤامرة سرية مسلحة ذات طابع صفوي، تستهدف السلطة، فحسب، معبرة عن مصالح طبقية ضيقة، غالباً ما ترتب لأوضاع شمولية، رغم الديماغوجيا التي تصاحبها عادة، لتعلي من بروباغاندا "مصالح الجماهير"! بالمقابل ساد أيضاً رجحان كفة "الخيار الديمقراطي" المتولد عن "الثورة"، كفعل جماهيري جهير، شديد الوسع، تعبيراً عن المصالح الطبقية لأغلبية المجتمع في تفكيك النظم الاقتصادية السياسية والاجتماعية الثقافية القائمة، واستبدالها بأخرى تكفل التغيير الراديكالي الشامل.

في ضوء هذا الفهم، وعلى حين تكاد لا تنتطح عنزان، مصرياً كان، أو عربياً، أو عالمياً، على أن ما وقع في 25 يناير 2011 هو ثورة شعبية كاملة الدسم، فإن الجدل ما زال يدور ساخناً داخل وخارج مصر، حول توصيف الأحداث التي وقعت في 30 يونيو، و3 يوليو، فضلاً عن 26 يوليو 2013، بين فريقين، يدعم أحدهما "المواضعات الحديثة" لتدخل الجيش في السياسة كـ "ضرورة ثورية" لصالح "التغيير الديمقراطي"، بينما يتمسك الآخر بـ"المواضعات القديمة" الرافضة لهذا التدخل باعتباره محض "انقلاب عسكري" يعرقل "الديمقراطية"، إن لم يجهضها تماماً.

(2)

تاريخياً ساد في التنظير والعمل أن النمط التقليدي لتدخل الجيش في السياسة هو "الانقلاب العسكري" الذي يعتبر -وفق أعمِّ تعريفاته- مؤامرة سرية مسلحة

المقصود بالعلاقات المدنية العسكرية علاقات المجتمع المدني ككل بالمنظمة العسكرية المنشأة لحمايته، أو علاقات السلطة السياسية في الدولة بشقها العسكري. وقد ذهبت كل "المواضعات القديمة" إلى ضرورة خضوع "الشق العسكري" إلى "الشق المدني".

وكان أستاذ العلوم السياسية الأميركي بجامعة هارفارد صامويل فلبس هنتنغتون -الذي درس هذه العلاقات- قد أكد ضمن كتابه "الجندي والدولة" عام 1957م على ضرورة إبعاد الجيش عن السياسة، حفاظاً على مهنيته، وصونا لكفاءته، وحماية للديمقراطية.

كما نشر في ستينيات القرن المنصرم بحثاً عن "النظام السياسي في مجتمعات متغيرة" عرض من خلاله لنظرية التحديثيين حول كفالة التقدم الاقتصادي والاجتماعي لديمقراطيات مستقرة في البلدان الحديثة الاستقلال. لكن "المواضعات الحديثة" ظلت تقاوم هذا الطرح، مستندة إلى ما شهده تاريخ علم السياسة المعاصر من تجاذب نظري لافت حول علاقة الجيش بالسياسة.

أومأ بشير عبد الفتاح إلى هذا الصراع ضمن مقالته "مصر بين أوهام الثورة وهواجس الانقلاب"، فأشار إلى الجهود العلمية التي كُرِّست لنقد نظرية هنتنغتون المشمولة بكتابه "الجندي والدولة" بالذات.

فقد ذهب عالم السياسة والتاريخ البريطاني صامويل إدوارد فاينر إلى وجوب استثناء الدول النامية وغير الديمقراطية من طرح هنتنغتون، على خلفية ما وصفه بخصوصية الأدوار التنموية والسياسية للجيوش في هذه الدول!

كما سدد الباحث الأميركي أوزيان فارول في مؤتمر كلية نيويورك للقانون مطلع العام الجاري نقداً جديداً لنظرية هنتنغتون، لافتاً إلى أن الجيوش الوطنية المتماسكة، والتي تؤمن قياداتها بالديمقراطية، يمكن أن تضطلع بدور الحارس والضامن لعملية الانتقال الديمقراطي، بالنسبة للدول التي تعاني نخبها المدنية من العجز عن تحقيق الديمقراطية. وفي هذا الإطار اعتبر فارول الجيش المصري بالذات مؤهلاً لهذه المهمة في مرحلة ما بعد مبارك (الجزيرة نت 26 يوليو/تموز 2013).

(3)

لم تتسبب أحداث مصر في 30 يونيو، و3 يوليو 2013، فقط، في تشتيت معظم المواقف العربية، عموماً، والسودانية خصوصاً، حول "المواضعات القديمة" لهنتنغتون، و"المواضعات الحديثة" لنقاده، تماماً كما نثار الحديد على سطح ورقة تتحرك تحتها قطعة مغناطيس، وإنما دفعت حتى بمواقف بعض القادة في أعرق الديمقراطيات العالمية إلى التزحزح عن ثوابت "المواضعات القديمة" الراسخة، وتبني "المواضعات الحديثة" التي لا ترى تثريباً على تدخل جيوش بعض الدول في السياسة!

الناس إذا ووجهوا بفشل الحكومات -حتى المنتخبة- أو إذا شعروا بأن ثمة طغمة في قمة السلطة تسد عليهم طريق التطور، يبدؤون في الاحتجاج، دون انتظار للانتخابات التالية

أبرز هؤلاء توني بلير رئيس الوزراء وزعيم حزب العمال البريطاني السابق والمبعوث الخاص لرباعية الشرق الأوسط، فقد تجرأ على "الديمقراطية" من أعتى معاقلها بقوله إنها "ليست وحدها التي تحقق فعالية الحكم"، وإنه "لم يكن أمام الجيش المصري من خيار سوى الإطاحة بمرسي، استناداً إلى قوة الحراك المعارض في الشوارع، أو ترك البلاد تغرق في الفوضى.. فنزول 17 مليون شخص إلى الشوارع ليس مساوياً لنتيجة الانتخابات، لكنه يمثل في ذات الوقت تمظهراً أخاذاً ومذهلاً لإرادة الشعب!" (موقع الأوبزيرفر على الشبكة العنكبوتية 7 يوليو/تموز 2013).

وصف بلير تلك الأحداث بأنها مثال للتفاعل بين الديمقراطية والاحتجاج، وفعالية الحكم. فالديمقراطية كنهج لتحديد من يتخذ القرار ليست بديلاً -على حد تعبيره- عن اتخاذ القرار نفسه.

فالناس، إذا ووجهوا بفشل الحكومات -حتى المنتخبة- أو إذا شعروا بأن ثمة طغمة في قمة السلطة تسد عليهم طريق التطور يبدؤون في الاحتجاج، دون انتظار للانتخابات التالية.

ويسمي بلير ذلك بالروح الديمقراطي الحر الذي يتجلى خارج المعهود في "الديمقراطية" من أن صناديق الاقتراع هي التي تقرر الحكومة، ويعزو الانتعاش المتسارع لهذه الروح بالتسارع الهائل في انتشار وسائط التواصل الاجتماعي التي تعتبر في حد ذاتها ظاهرة ثورية. أما الحكومة التي يعجزها دحض مبررات هذا الاحتجاج فتواجه المتاعب.

ويضرب بلير مثلاً لذلك بمصر التي فاقم من مشاكل حكومتها المنتخبة الاستياء الشعبي الواسع من الأيديولوجيا الإخوانية المتشددة التي فرضت على حياة الناس اليومية. ومن ثمَّ انفتح الحوار -في مصر والشرق الأوسط كله- حول علاقة الدين بالسياسة، حيث بدأ الناس يقتنعون بإمكانية أن يلتزم المجتمع بالفروض الدينية. ومع ذلك تشتغل الديمقراطية فيه كمفهوم تعددي تُحترم فيه المعتقدات، كصوت لا كفيتو.

وربما تجدر هنا ملاحظة أن بلير ختم مقالته بدعوة الغرب لمساعدة الحكومة المصرية الجديدة في إحداث التغييرات الضرورية، خصوصاً في الاقتصاد، كي تستطيع العودة بمواطنيها إلى صناديق انتخابات "ديمقراطية" تلائمهم!

مصرياً، تطابقت مع رؤية بلير غالبية المواقف الليبرالية واليسارية التي رأت أنه لم يكن أمام الجيش من خيار سوى الانقضاض على نظام الإخوان، أو يأذن بحربهم على الدولة والمجتمع والجيش والشعب جميعاً، من القاهرة إلى سيناء (انظر مثلاً: خليل كلفت، موقع "الحوار المتمدن" على الشبكة 11 أغسطس/آب 2013).

(4)

اشتباك النموذج السوداني مع قضية "الديمقراطية" ناجم من جمـلة عوامـل تاريخـية، إذ عرف السـودانيون ".. نظام الشورى الذي هو لبُّ الديمقراطية منذ عهود تضرب في أعماق التاريخ

تتفاوت الدول العربية في مشهد الديمقراطية والاستبداد، حيث ".. هناك أقطار عديدة أصبحت فيها التعددية أمراً قانونياً مشروعاً ومستبطناً في ذاكرة النظام السياسية، وهي في مرحلة يمكن أن نطلق عليها [ما قبل ديمقراطية] أي تمهيدية. وهناك أقطار أخرى تشكل التعددية فيها أمراً واقعاً ليس من الممكن التراجع عنه، بالرغم من أن السلطات تقوم بكل الإجراءات القانونية وغير القانونية لتفريغها من مضمونها، ووقف الحراك السياسي.

وهناك -بالمقابل- أقطار تفتقر كليا للتجربة السياسية التعددية، بل لمفهوم السياسة وحدود ممارستها الدنيا، وتخضع لقوانين الاستثناء الدائمة التي تحولت إلى قوانين الحالة الطبيعية" (برهان غليون، "آفاق الديمقراطية في البلاد العربية"، موقع مجلة "بريق" على الشبكة العنكبوتية، أكتوبر 2009م).

وبينما تنتمي مصر -برأينا- إلى المجموعة الأولى، فإن السودان يمثل -يقيناً- أحد أبرز أقطار المجموعة الثانية التي أضحت "التعددية" فيها "أمراً واقعاً" لا يمكن التراجع عنه. ولعل هذا بالذات هو ما جعل النضال من أجل "استعادة الديمقراطية"، كلما جرى الاعتداء عليها قانوناً ثابتاً للثورة السودانية.

اشتباك النموذج السوداني مع قضية "الديمقراطية" ناجم من جمـلة عوامـل تاريخـية، إذ عرف السـودانيون ".. نظام الشورى الذي هو لبُّ الديمقراطيّة منذ عهود تضرب في أعماق التاريخ. فملوك كوش القدماء كان ينتخبهم زعماء القبائل، وملوك الفونج وشيوخ العبدلاب كانوا يُختارون بنفس الطريقة .. صحيح أن الديمقراطية البرلمانية نشأت في الغرب مع الثورة الرأسماليَّة، وانهيار النظام الإقطاعي، ولكننا كنا نمارس مضمون الديمقراطية القائم على الشورى قبل ذلك العهد بكثير جداً" (ع. الخالق محجوب، دفاع أمام المحاكم العسكرية، ط 1، دار عزة، الخرطوم 2001م، ص 66).

وفي التاريخ الحديث، انعقدت حلقات النضال منذ بواكير الحركة الوطنية، ليس على الاستقلال عن الاستعمار كيفما اتفق، وإنما على بناء دولة "ديمقراطية" مستقلة، ولذا شكَّل الارتباط الجدلي بين النضال من أجل "الاستقلال" والنضال من أجل "الديمقراطية" الشرط التاريخي الذي أنتج باكراً حركة شعبية واسعة، متنوعة، ومنفعلة، بحكم تكوينها، ومنطق قانونها الباطني الخاص، بالحريات والحقوق الديمقراطية، كنقابات العمال، واتحادات المزارعين، وروابط المهنيين، وتنظيمات الشباب، والنساء، والطلاب، وغيرها.

ولعل من أهم أسباب فشل الحكم "الشمولي" في السودان -بعد الاستقلال وحتى الآن، على تطاول فتراته- أن تعدد وعدم تناسق تكوينات بلادنا الاقتصادية السياسية، والاجتماعية الثقافية، كان -وما زال- هو الأساس الموضوعي لتعدد القوى السياسية التي تعوِّل عليها الجماهير في حل مشاكلها في كل من المركز والهامش.

إن ما بذلته شعوب بلادنا تاريخياً من مهج وأرواح في سبيل قضية "الديمقراطية"، يوجب علينا إيلاءه احتراماً يقي أعيننا الحَوَل كلما طرحت علينا إشكاليات الغير، مع التفهم المستحق لتقديراتها

لذا، فمما لا يناسب النموذج السوداني البتة التنظير الرامي لإدراجه ضمن "المواضعات الجديدة" التي تبرر الانقلابات العسكرية كوسيلة لحل قضية السلطة، مهما تفانى في تزيينها منظرون من سنخ فاينر، أو فارول أو بلير، وبالغاً ما بلغ تبنيها عربياً أو سودانياً.

(5)

نخلص إلى أن الأجدى بالنسبة لنا في السودان من الانغماس في هذا الجدل -رغم تقديرنا لدواعيه في مصر وغيرها- إعادة ترتيب ما يلينا منه على نحو يجعل الأولوية لأمرين في غاية الأهمية:

أولهما أن ما بذلته شعوب بلادنا تاريخياً من مهج وأرواح في سبيل قضية "الديمقراطية" يوجب علينا إيلاءه احتراماً يقي أعيننا الحَوَل كلما طرحت علينا إشكاليات الغير، مع التفهم المستحق لتقديراتها، وإلا فكيف قضينا في 6 أبريل/نيسان 1985 بسداد الموقف المعادي لانقلاب 25 مايو/أيار 1969، مثلاً، بينما كانت الجماهير قد أيدته بالآلاف صباح الثاني من يونيو/حزيران 1969، وكانت تلك هي حُجَّة النميري نفسه (النهج الإسلامى لماذا، ص 85 ، 86)؟

وإذا جاز لنا أن نستقبل "المواضعات الجديدة" اليوم بالحفاوة الفكرية، فكيف سنعاود غدا رفع راية "المواضعات القديمة" ضد إسلامويي السودان الذين لم يعدموا جماهيراً يخرجونها في الشوارع لتأييدهم؟

أما الأمر الثاني فهو أدواء العلاقات الشعبية السودانية المصرية، والتي ثبت أن "تبويس اللحى" والتربيت على الأكتاف لا يكفي لعلاجها، كالعلاقات الدبلوماسية، والروابط الاقتصادية، ونزاعات مياه النيل، وقضايا الحدود وعلى رأسها حلايب. فإن لم نعجل باجتراح المعالجات المناسبة لها، فستبقى كجراح رُمَّت على صديد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.