معضلة واشنطن مع الإخوان المسلمين

العنوان: معضلة واشنطن مع الإخوان المسلمين - الكاتب: محمد المنشاوي - الاقتباس: دفع الصراعُ الطويل بين المبادئ والمصالح الإدارةَ الأميركية لأن تتخذ موقفا رماديا مما يحدث في مصر

undefined 

 

تمثل تجربة علاقة الإخوان المسلمين بالولايات المتحدة نمطا فريدا في علاقات دولة عظمى بجماعة سياسية. وترجع جذور معضلة واشنطن في التعامل مع تلك الجماعة المصرية لمنتصف القرن الماضي.

فبعد يوم واحد على تأسيس دولة إسرائيل واعتراف واشنطن الفوري بها، أرسل المرشد المؤسس لجماعة الإخوان المسلمين السيد حسن البنا يوم 16 مايو/أيار 1948، خطابا للرئيس الأميركي هاري ترومان يحمل تهديدا واضحا جاء فيه "أن اعترافكم بالدولة الصهيونية يعد إعلان حرب على العرب والعالم الإسلامي. وأن اتباعكم لهذه السياسة الخادعة الملتوية هو انتهاك لميثاق هيئة الأمم والحقوق الطبيعية للإنسان وحق تقرير المصير، وسيؤدي حتما إلى إثارة عداء دائم نحو الشعب الأميركي، كما سيعرض مصالحه الاقتصادية للخطر ويؤذى مكانته السياسية، فنحملكم المسؤولية أمام العالم والتاريخ والشعب الأميركي".

وبسبب الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل من ناحية، والتنكيل بجماعة الإخوان تحت حكم الرئيس جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك من ناحية أخرى، لم يجمع واشنطن والجماعة أي نوع من العلاقات. 

استمر النظام المصري في إقناع واشنطن بعدم وجود بديل لنظام حكمه. ولم تمانع واشنطن في قبول هذا المنطق، وغضت الطرف عن عمليات القبض المتكرر على كبار قادة جماعة الإخوان، وتقديمهم للمحاكمات العسكرية، وسجنهم لسنوات طويلة

غير أن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 أعادت الجماعة لدائرة الاهتمام الأميركية. وعلى الرغم من مراجعة واشنطن لسياستها الخارجية عقب وقوع تلك الهجمات، واتفاق المدارس الفكرية الأميركية على أن الفكر الوهابي، إضافة للاستبداد وغياب الحريات، هي الأسباب التي أفرزت تنظيم القاعدة، وسهلت تجنيد شباب مسلم للقيام بهذه العمليات الإرهابية، إلا أن عدة دول عربية وظفت ما لها من نفوذ وممثلين في العاصمة الأميركية للعمل على تشويه سجل جماعة الإخوان المسلمين ووصمه بالإرهاب، وأن الجماعة هي "أم لكل الجماعات الإرهابية". وعرفت واشنطن وجود لوبي مؤقت حركته عدة سفارات عربية، منها السعودية والمصرية والإماراتية بهدف إلصاق تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري بجماعة الإخوان المسلمين.

وبعد تبني الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش (بصورة مؤقتة) لأجندة نشر الديمقراطية في العالم العربي، والضغط على نظام الرئيس مبارك من أجل السماح بتوسيع نطاق الحريات، ظهرت رغبة مشتركة إخوانية أميركية للتعارف المتبادل.

في الوقت نفسه استمر النظام المصري في إقناع واشنطن بعدم وجود بديل لنظام حكمه. ولم تمانع واشنطن في قبول هذا المنطق، وغضت الطرف عن عمليات القبض المتكرر على كبار قادة جماعة الإخوان المسلمين، وتقديمهم للمحاكمات العسكرية، وسجنهم لسنوات طويلة.

وهذا على العكس من استغلالها اعتقال بعض رموز التيار الليبرالى مثل الدكتور سعد الدين إبراهيم أو الدكتور أيمن نور للضغط والحصول على تنازلات مهمة من النظام المصري فيما يتعلق بقضايا الأمن الإقليمي، وتحديدا القضية الفلسطينية.

وقبل سقوط الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير/شباط 2011  خرجت أصوات متعددة من داخل الكونغرس، الذي أصبح أكثر الجهات عداء للإخوان في واشنطن، محذرة من مخاطر وصولهم للحكم حال سقوط مبارك.

وعبر عدد من كبار أعضائه عن القلق من فكر جماعة الإخوان المسلمين، وخطورتهم على المصالح الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. فقد ذكر السيناتور مارك كيرك (جمهوري-إلينوي) في أكثر من مناسبة ضرورة أن تقوم "الولايات المتحدة بما في وسعها من أجل منع جماعة الإخوان المسلمين الراديكالية من الوصول لحكم مصر".  

كذلك ذكر الرئيس الأميركي باراك أوباما في حديث لمحطة فوكس الإخبارية وبث مساء الأحد 7 فبراير/شباط (قبل أربعة أيام من سقوط مبارك) عند سؤاله ما إذا كان يعتقد أن الإخوان يمثلون تهديدا للولايات المتحدة، فرد قائلا "إنهم جماعة منظمة جيدا، وهناك بلا شك بعض الشرائح داخل أيديولوجيتهم تعادي الولايات المتحدة".

وبعد السماح للجماعة بتأسيس حزبها السياسي (الحرية والعدالة) ودخولها العملية السياسية بصورة قانونية، وما تبعه من اكتساحها المشهد السياسي المصري، أدركت واشنطن بوضوح أن الانتخابات الحرة في مصر سواء كانت برلمانية أو رئاسية ينتج عنها فوز ممثلي جماعة الإخوان المسلمين.

بعد وصول محمد مرسي للحكم لم تضع واشنطن تصرفاته في سلة واحدة، امتدحته عندما قام بجهود تثني هي عليها كما حدث أثناء عدوان غزة، وانتقدت نفس الرئيس عندما عارض التدخل الغربي في دولة مالي، أو عندما ذكر ضرورة الإفراج عن الشيخ عمر عبد الرحمن

وبعد وصول محمد مرسي للحكم لم تضع واشنطن تصرفاته في سلة واحدة، امتدحته عندما قام بجهود تثني هي عليها كما حدث أثناء عدوان غزة خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وانتقدت نفس الرئيس عندما عارض التدخل الغربي في دولة مالي، أو عندما ذكر ضرورة الإفراج عن الشيخ عمر عبد الرحمن.

ونددت واشنطن كثيرا بالإعلان الدستوري المعيب الذي أصدره مرسي، وأعربت عن غضبها من سيطرة حزب الرئيس على كتابة دستور 2012.

من هنا خرج أوباما أثناء خطاب حالة الاتحاد في فبراير/شباط الماضي بهجوم كبير على القيادة المصرية، وقال "لا يمكننا افتراض أن نملي نحن مسار التغيير في دول مثل مصر، لكن يمكننا وسنصر على احترام الحقوق الأساسية لجميع الناس"، وبعد ذلك خرجت السفيرة الأميركية السابقة في القاهرة آن باترسون لتهاجم القيادة الإخوانية الحاكمة بصورة واضحة في خطابها أمام نادى روتاري الإسكندرية، واتهمتهم "بغياب مهارات القيادة وعدم اتخاذ القرارات المناسبة".

ومع اتساع نطاق الاحتجاجات على حكم الرئيس مرسي، عبرت الولايات المتحدة عن وقوفها على نفس المسافة من كل القوى السياسة في مصر في أكثر من مناسبة. ووضع الجيش المصري الإدارة الأميركية في موقف لا تحسد عليه بعد الانقلاب في الثالث من يوليو/تموز الماضي على الرئيس المنتخب.  

وبعد بيان الفريق عبد الفتاح السيسي خرج الرئيس أوباما ببيان غير متلفز (على العكس مما جرى عند تنحي مبارك) قال فيه "إذا اعتبرنا أن تحرك الجيش انقلاب، فإن الولايات المتحدة ستكون ملزمة بقطع المساعدات العسكرية عن مصر".

وأضاف أن "الأجهزة الأميركية المعنية، تعكف حاليا على تقييم أبعاد الخطوة التي اتخذها الجيش المصري ومدى تأثيرها على المساعدات الأميركية".  

وعلى النقيض من أوباما، خرج السيناتور باتريك ليهي (ديمقراطي-فيرمونت) في بيان حاد يؤكد فيه أنه "من الأكيد أن القوانين الأميركية تتطلب قطع المساعدات عن أي دولة ينتخب رئيسها تتم إزاحته عن طريق انقلاب عسكري أو بيان عسكري".

وأضاف ليهي "نحن كأقدم ديمقراطية في العالم علينا التأكيد بالتزامنا بمبدأ نقل السلطة والذي ينبغي أن يكون بصناديق الانتخاب وليس بقوة السلاح".

ثم حث أوباما الجيش المصري على تفادي "أي اعتقالات تعسفية للرئيس مرسي وأنصاره"، وشددت الإدارة الأميركية على ضرورة البعد عن استخدام العنف.

ساد الارتباك الموقف الأميركي، ففي الوقت الذي تندد فيه واشنطن بالانقضاض على العملية السياسية واللجوء للجيش لتغيير مؤسسات الدولة المنتخبة ودستورها المستفتى عليه من أغلبية المصريين، لا تريد أن تبدو كمن يدعم جماعة الإخوان المسلمين

غير أن القيادة الجديدة في مصر فعلت النقيض تماما. وبعد مقتل المئات من أنصار الرئيس مرسي في فض اعتصاميْ ميداني رابعة العدوية والنهضة، ألغى الرئيس الأميركي مناورات النجم الساطع التي كان من المقرر لها أن تجري الشهر القادم على الأراضي المصرية بين الجيشين المصري والأميركي.

وقبل ذلك اتخاذ بعض الخطوات العقابية مثل وقف توريد أربع طائرات إف 16، ووقف تزويد الجيش المصري بـ 12 طائرة أباتشي جديدة من طراز "أي إتش 64" دي، والذي كان مقررا الشهر المقبل.

ثم ساد الارتباك الموقف الأميركي، ففي الوقت الذي تندد فيه واشنطن بالانقضاض على العملية السياسية في مصر واللجوء للجيش لتغيير مؤسسات الدولة المنتخبة ودستورها المستفتى عليه من أغلبية المصريين، لا تريد أن تبدو كمن يدعم جماعة الإخوان المسلمين.

وفي تصريحات أفادت بوضوح دعم أميركا للانقلاب العسكري على أول رئيس مصري منتخب، قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري إن الجيش المصري لم يستول على السلطة، وإنما "استعاد الديمقراطية".

ورغم ذلك طالب الرئيس أوباما بضرورة مراجعة علاقات بلاده مع مصر بصورة شاملة. وقال خلال حوار له مع شبكة "سي إن إن" إنه "يجب علينا توخي الحذر مع مصر، كي لا نبدو كأننا نساعد على التصرفات التي تتعارض مع قيمنا".

وأشار أوباما إلى أن بلاده ستحاول دعم عودة العملية الديمقراطية والاستقرار لمصر، وأضاف "المساعدات لمصر لن تغير ما قامت وتقوم به الحكومة المؤقتة، إلا أني أعتقد أن معظم الأميركيين يريدون أن نكون حذرين حتى لا يتم اعتبارنا داعمين لما يتعارض مع مبادئنا وقيمنا. لهذا السبب نحن نقوم الآن بإعادة تقييم  شامل للعلاقات المصرية الأميركية. نحن نهتم كثيرا بالشعب المصري، والعلاقات مع مصر قضية هامة جدا لنا، وجزء من هذا بسبب اتفاقية السلام مع إسرائيل والتنسيق فيما يتعلق بسيناء، إلا أن العلاقات لن تعود إلى ما كانت عليه بسبب ما حدث".

وهكذا دفع الصراع الطويل بين المبادئ والمصالح الإدارة الأميركية لأن تتخذ موقفا رماديا مما يحدث في مصر. ولا يتخيل الخبراء الأميركيون عدم وجود علاقات خاصة مع جيش مصر، فهم يتذكرون جيدا دوره في حرب الخليج الأولى، تلك التي شارك فيها بما يزيد على ثلاثين ألف عسكري حاربوا بجوار الأميركيين، وهو ما سهل من انضمام دول عربية أخرى للتحالف.

ولا تريد أن تتخيل واشنطن وجود جيش مصري عقيدته إسلامية متشددة، ويسعى للحصول على سلاح نووي مثل نظيره الإيراني، ولا أن يكون موقفه رماديا من قضية الحرب على الإرهاب مثل الجيش الباكستاني.

وقطعا لا تريد واشنطن جيشا مصريا يحصل على سلاحه من دول أخرى منافسة مثل روسيا أو الصين، أو حتى صديقة مثل فرنسا وبريطانيا.

واقعية واشنطن وسعيها لتحقيق مصالحها يجعلها تحتفظ بعلاقات قوية مع من يحكم مصر، فهي تعاملت مع مبارك الديكتاتور، ومع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومع الرئيس محمد مرسي الإخواني. واليوم تتعامل واشنطن مع الحكومة الانتقالية والجنرال عبد الفتاح السيسي وتتناسى مبادئها التي جذبتها تجاه جماعة الإخوان في لحظة استثنائية من علاقات الطرفين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.