أميركا والسودان.. تلك العصا فأين الجزرة؟

أميركا والسودان.. تلك العصا فأين الجزرة؟ - الكاتب: عبد الله علي إبراهيم

 undefined

ألقى برنستون ليمان، مبعوث الرئيس الأميركي الخاص، محاضرة في المجلس الأطلنطي للعلاقات الدولية، عن العلاقات الأميركية السودانية عربها الأستاذ بابكر فيصل بابكر. وربما سنحت بها الفرصة لنفحص هذه العلاقات بصورة تدنيها إلى علم السياسة بعد طول تشرد في وساوس الحكومة من أميركا واستنفاع المعارضة منها.

فالحكومة موسوسة من غدر أميركا ولن تصدق زعمها بأنها لا تريد لها ربيعاً عربياً بل تغييراً مدروساً. وأميركا صادقة هذه المرة وحرصها على الحكومة ليس اعتباطاً بل لأنها خدمت الأميركان في محاربة الإرهاب، والالتزام باستفتاء جنوب السودان، والنزول عند نتيجته.

وبلغت من هذه الخدمة شأواً سمى الدكتور خالد التيجاني، محرر جريدة إيلاف، الإنقاذ بـ"الحليف من نوع خاص" لرخص كلفته.

أما المعارضة المسلحة للإنقاذ فقد صار نضالها بأميركا أوثق من نضالها بقواعدها. وتذيع فضل أميركا الديمقراطية عليها بينما لو تمعنت الأمر لوجدت أنها "ربيبة" اللوبي من هذه الديمقراطية وهو وجه القمر المظلم، لسفور سلطان المال، لا الحق، فيه.

جاءت محاضرة ليمان في أعقاب نهوض شارع المدينة السودانية الذي خمد (أو أُخمد) لعقود انسحبت به قواه النقابية والجماهيرية الحية من مضمار السياسة فخلت للعصب المسلحة في الدولة والمعارضة

جاءت محاضرة ليمان في أعقاب نهوض شارع المدينة السودانية الذي خمد (أو أُخمد) لعقود انسحبت به قواه النقابية والجماهيرية الحية من مضمار السياسة فخلت للعصب المسلحة في الدولة والمعارضة.

وذكر ليمان هذا الشارع متأسفاً لأنه يحز في نفس الأميركيين أمثاله، الذين يعرفون التاريخ الغني للسودانيين وحسن المعشر، ألا يكونوا على علاقة ودية به كما في الماضي. ثم أشاد بمقاومة الشارع لإجراءات الحكومة التقشفية الأخيرة واستنكر فظاظة الإنقاذ حيالها.

وخص الشارع السياسي العائد بالذكر لمطلبهم أن يكون لهم صوت مسموع في تكييف أوضاع البلاد تكييفاً يتطابق مع ما يريدونه هم للسودان.

ومع ذلك ستظل العلاقة الشاغلة للبلدين هي التي بين الإنقاذ والدولة العظمى حتى يسترد الشارع السوداني، الذي يقف على تاريخ سياسي ثوري معروف، عافيته ويفرض نفسه على الإنقاذ قبل حسابات أميركا السودانية.

وبالفعل أنفق ليمان أكثر زمن محاضرته في الحديث عن عقدة المسألة بين النظامين وهي التطبيع. فقال إن القطيعة قائمة بين الدولتين بقرينة وضع أميركا للسودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب (1993) ثم العقوبات الاقتصادية (1998). ودعا إلى الصراحة بخصوص مصادر الخلافات بين البلدين وتوقعات كل من الآخر.

من رأي أميركا حسب ليمان أن تطبيع العلاقات مع السودان صار حلقة مفرغة من الفرص المهدرة. فهو كلما أنجز مطلوباً استحق عليه التطبيع جاء بكبيرة محقت جائزته. في وقت يرى السودان أنه أوفى بمطلوب العصا الأميركية ولم يلق جزرتها. فأميركا، المتربصة بالإنقاذ، مماطلة في التطبيع عن سوء نية.

فتعاطيها معه كمثل من "يرحل قوائم المرمى" في لعبة كرة القدم. وجاء ليمان نفسه بهذا الوصف الدقيق لقلق الإنقاذ من كيدهم. والمجاز أميركي عن من يغير قواعد اللعبة بينما هي ما تزال كراً وفراً ليحصل على ميزة على غريمه.

من رأي ليمان أن الإنقاذ هي التي أهدرت بهياجها السياسي فرص التطبيع الذي أزف. فقد سنحت الفرصة لرم العلاقة معها بعد اتفاقية السلام الشامل مع الجنوب (2005) ولكن سرعان ما نشأت أزمة دارفور فعادت حليمة إلى قديمها. ثم جاءت الفرصة للتطبيع بقبول السودان لاستفتاء الجنوب ونتيجته. وانتظر الرئيس أوباما الستة شهور قبل أن يطلب من الكونغرس رفع رعاية الإرهاب عن كاهل السودان حسب العرف في التطبيع.

وبادر بتوجيه البنك الدولي للنظر في وجوه إعفاء ديونه، وحث الشركات الأميركية لعونه زراعياً. ولكن تعثرت تلك الجهود بحرب "الجنوب الجديد" في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في 2011 ثم تجدد الحرب مع الجنوب القديم. وهكذا لم تقم لجهود التطبيع قائمة.

لا ترى حكومة السودان في حلقة أميركا المفرغة سوى تحريك منها لقوائم المرمى خلال اللعب. فكل ما ظنت أنها وصلتها، واستحقت الجائزة، جرها الأميركان وبعدت بينهما الشقة

ولا ترى حكومة السودان في حلقة أميركا المفرغة سوى تحريك منها لقوائم المرمى خلال اللعب. فكل ما ظنت أنها وصلتها، واستحقت الجائزة، جرها الأميركان وبعدت بينهما الشقة.

فقال علي كرتي، وزير الخارجية، إن أميركا بلغت في العتو حداً لم تسمع معه حتى من مبعوثي رؤوسائها الخاصين للسودان الذين اتفقوا على استحقاقه للمكافأة نظير التزامه بكثير مما وعد به.

فكتب عبد المحمود الكرنكي، الصحافي الإسلامي، كلمة عن كيف تخلص الأميركيون من هؤلاء المبعوثين الذين جنحوا إلى التطبيع مع السودان. فقد أبعدوا تباعاً روبرت زوليك وأندرو ناستيوس وريتشارد ليمسون لمطلبهم بالإحسان للسودان. بل طالت عقوبة الخلع موظفاً في الأمم المتحدة قال إن حرب دارفور انتهت.

وفي أرشيف خذلان أميركا للسودان حكايات. فروى الكرنكي أن ليمسون كان بصدد التوقيع على اتفاق برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب بالنادي الدبلوماسي بالخرطوم. فتلقى مكالمة هاتفية قبل التوقيع ليغادر النادي على الفور.

ثم لقي سكوت غرايشن، المبعوث قبل الأخير، نفس المصير لأنه طلب بشطب السودان من قائمة رعاة الإرهاب ورفع الحظر الاقتصادي.

وأيده في المسألتين جون كيري زعيم لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. وكيري هو الذي شكى منه كرتي وزير الخارجية لأنه وعد، متى أنجز له مطلوباً، أن يكون بخلاف من سبقوه في الوفاء بالعهد. وفي المحك لم يف وتخفى ثم اختفى.

ومما ساء كرتي أنه زار واشنطن في 2006 بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل مع الجنوب ليناقش المسؤولين في التطبيع فتفادوه. فرتب للقاء مع زوليك في وزارة الخارجية الأميركية. وحين بلغه وجد سفيرة ما في انتظاره. واعتذرت للرجل لغيابه لظرف طارئ.

لو عَدَلت أميركا لأطبق قيدها على مجانين منتهكي حقوق الإنسان من كل حدب وصوب. فالسودان ليس "أمة" وحده في انتهاك حقوق الإنسان الموجبة لوصفه برعاية الإرهاب

ناشت العقوبات الأميركية السودان حتى تكسرت النصال على النصال. وبالطبع فهذه جناية الإنقاذ على بلدها، فاستكبروا في الأرض ومكروا المكر السيئ "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله".

ولكن، من الجهة الأخرى، فإن بلاداً تستكبر استكبار الإنقاذ لا تجد سوى القرص الأميركي للأذن. ففي مناسبة مرض ملس زناوي، رئيس وزراء إثيوبيا الراحل، عرضت "الإيكونومست" لسجله الأسود في خرق حقوق الإنسان حتى أنه أراد فرض عقيدة الأحباش، التي هي نهج لشيخ مسلم متبوع، فرضاً على جمهرة المسلمين كترياق للوهابية مما أثار ثورة المساجد ما تزال.

ونبهت أمنستي إنترناشونال إلى وجوب ألا يشتري ملس صمت العالم عن فظاظاته بما يزعم من نجاحات اقتصادية تورد فقراء إثيوبيا مورد الهلاك.

فشعب الأنواك، المشترك مع السودان، جرى تشريده عن أرضه التاريخية لصالح مستثمرين أجانب. وأرسلت أمنستي نفس التحذير لبول كاغمي، رئيس جمهورية رواندا، الذي يستغفل العالم عن فظاظاته بورقة النجاح الاقتصادي أيضاً.

نقول في السودان المجانين كثر ولكن شقي الحال يقع في القيد. فلو عَدَلت أميركا لأطبق قيدها على مجانين منتهكي حقوق الإنسان من كل حدب وصوب. فالسودان ليس "أمة" وحده في انتهاك حقوق الإنسان الموجبة لوصفه برعاية الإرهاب. ولكن ما افترق به السودان عن مجانين ابتذال حقوق الإنسان أنه شقي الحال، فوقع دون غيره في براثن اللوبي الأميركي.

ولمعرفة ثقل القيد الذي يطوق السودان نظرت في تواتر القرارات التي صدرت في إدانته في مجلس النواب الأميركي، وبخاصة في سنوات تفاقم مأساة دارفور، ونمط التصويت فيها. فبلغت تلك القرارات 18 وجرى التصويت عليها بما يشبه الإجماع السكوتي عدا قرارين. ونعرض لها:
1-قانون بسلام في دارفور (2004)، له 412-3
2- صلاة خاصة لمأساة دارفور (2005)، له 364-2.
3- قانون سلام دارفور (2005)، له 416-3.
4- قانون بعقوبات على جنوسايد السودان (2006)، له 416-3.
5- زيادة المخصص لقوات حفظ السلام (2006)، له 213-208.
6- تحية لجون قرنق في واشنطن (2006)، دون تصويت.
7- قانون تحسين أمن دارفور (2006)، له 412-7.
8- تعيين ممثل رئاسي للسودان (2006)، له 414-3.
9- قانون بتمويل إغاثي (2006)، له 198-225.
10- قانون لسحب الاستثمار عن السودان (2007)، له 411-صفر.
11- قانون بتعميم مأساة دارفور (2007)، له 366-صفر.
12- قانون بالضغط على الصين لعزل السودان (2007)، له 410-صفر.
13- قانون بحمل الجامعة العربية لتقر بالجنوسايد في السودان (2007)، له 425-1.
14- قانون آخر عن الصين والسودان (2008)، له 419-1.
15- قانون لحماية المدنيين الدارفوريين (2008)، له 371-صفر.
16- طلب من الرئيس لعرض خطة عن دارفور (2009)، له 429-صفر.
17- قانون غوثي (2009)، له 205-224.
18- مواجهة الأزمة الناشبة (2010-2011)، له 429-صفر.

ووجدت أنه لم يسقط سوى مشروعيّ قرار (رقم 5 و17) كانا سيلزمان أميركا بنفقة مالية.
لا بد للمرء أن يستعجب لهذا التصويت المسرف ضد السودان.

وسبق لرون بول، عضو مجلس النواب من تكساس والمنافس الأزلي لنيل ترشيح الجمهوريين للرئاسة، أن استنكر ثقة النواب الزائدة في فطانتهم في شأن السودان حتى هان أمره.

ففي 2004 عاب بول قراراً للمجلس يحث الرئيس بوش للتدخل في السودان ولو منفرداً متى ما فشلت الأمم المتحدة لمنع الجنوسايد فيه. وانتقد القرار لأن المجلس عده من القرارات التي لا جدال حولها وتُعرض، إجرائياً، للتصويت في المجلس بغير نقاش في لجنة السياسة الخارجية.

ولا يتفق هذا مع رأي رايان من أن أميركا لا تعرف عن العالم الذي تسعى لحل أزماته. وقال في تعليق على اتفاقية السلام الشامل في السودان (2005) "إنه لمن الغرور الخطر أن نعتقد أن بوسعنا أن نسوح الدنيا نحشر أنفسنا في حروب العالمين الأهلية التي لا دخل لها بنا، وبغير أن نلزم أنفسنا بمواجهة النتائج التي تترتب على ذلك… فالصراع في دارفور ليس بين مسلمين ومسيحيين. ولا أدري لم هذا التركيز على السودان وليس على الكونغو الذي بلغ ضحاياه من مليونين إلى ثلاثة. إن مساعدتنا لطرف يزيد المسألة تعقيداً".

لن يطول استعجابنا لإسراف مجلس النواب في إدانة السودان متى اعتبرنا أن مأساة دارفور صارت قضية إسرائيلية.. فقد صار معلوماً أن اللوبي الإسرائيلي استأثر بالكونغرس فأحاله إلى منبر خالص لخدمة مصالح الدولة العبرية

ولأن القطع في الأمور عن جهل مخالف للدستور في رأي بول، المعروف بدكتور "نو" (لا)، صوت ضد كل قرارات المجلس المتعلقة بالسودان أو امتنع عن التصويت. ومتى ما مر قرار بإجماع من حضر تجد بول غائباً عن الجلسة سوى مرتين وافق القرار مزاجه لأنه تعلق بتوافر بيانات للمجلس أو تدبير عون لتلافي كارثة دارفور.

وفي المرتين اللتين صوت فيهما المجلس ضد قرار كان بول مع الأغلبية. فصار يوصف في التصويت عامة بـ"الاستثناء الوحيد لعصابة الـ533 في مجلس النواب".

ولن يطول استعجابنا لإسراف مجلس النواب في إدانة السودان متى اعتبرنا أن مأساة دارفور صارت قضية إسرائيلية من الدرجة الأولى. فقد صار معلوماً أن اللوبي الإسرائيلي استأثر بالكونغرس فأحاله إلى منبر خالص لخدمة مصالح الدولة العبرية.

فنشرت الواشنطن ربورت (مايو-يونيو 2011) ما أنفقه ذلك اللوبي على انتخابات مجلس النواب. فوجدته بلغ في انتخابات 2009-2010 نحو ثلاثة ملايين دولار، وبلغ جملة ما أنفقه اللوبي على النواب بين 1978 و2010 نحو 51 مليون دولار.

وأنفق على أميز أقطاب اللوبي السوداني وهما فرانك وولف (فرجينا) ودونالد بين (نيوجيرسي). فتبرع لحملتيهما بألف دولار لكل في عام 2010. ولو حسبت جملة ما أنفقه عليهما خلال حملات مسيرتهم الإنتخابية لوجدته أجرى 29 ألف دولار على ولف و73 ألف دولار على بين. فالنائبان عالة على ذلك اللوبي وحسن صنيعه.

التطبيع الأميركي السوداني طال مداه حتى كدنا نيقن باستحالته مثل الغول والعنقاء والخل الوفي.

فواضح أنه مما يصعب تحقيقه في الظروف والبولتيكا التي تكتنفه. وبدا لي من إشارات ليمان المتكررة المتفائلة بحركة الشارع السوداني أنه ينتظر أن تهز ساكن الإنقاذ والحكومة الأميركية معاً فيأتي التطبيع كاختراق الذي هو، مصطلحاً، أن يلتقي فجأة ما أصبح ممكناً بما هو ضروري ضربة لازب.

فلربما ذاب جليد الجمود حول التطبيع باسترداد قوى الشارع موقعها في السياسة السودانية لتنقذ الطرفين من وعثاء عقدين من السفر الضال. والخير على قدوم الواردين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.