فلسطين.. استحقاق "أيلولي" جديد

فلسطين.. استحقاق "أيلولي" جديد - الكاتب: إبراهيم حمامي

undefined

لا توجد دولة غير كاملة العضوية
نتائج الخطوة
في صف الأعداء
إلى أين؟

دأبت السلطة الفلسطينية -على مدار سنوات التفاوض، وعند كل إخفاق- على استحداث ما تسميه "استحقاقا"، تنفخ فيها الروح إعلامياً بالتصريحات واللقاءات، ثم تكون النتيجة لا شيء. واختيار تعبير "استحقاق" مقصود للإيحاء بأنه حق لا جدال فيه، حان وقته ووقت المطالبة به، وبالتالي فإن أي معترض عليه يقف تلقائياً في خانة الأعداء، وهو أسلوب لإسكات أي صوت معارض باعتباره يتنازل عن "الاستحقاق" الذي رسمه رئيس السلطة، حتى وإن كان استحقاقاً وهمياً أو عبثياً أو كارثياً.

لا نعرف تحديداً متى وكيف أصبح هدف الشعب الفلسطيني هو دولة بأي ثمن، دولة مسخ مقابل التنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني الأخرى، ولا تسجل ذاكرة التاريخ أو ذاكرتنا أن الشعب الفلسطيني استفتي يوماً إن كان هدفه هو دولة مقابل التنازل عن باقي فلسطين مثلاً، لكن ما نعرفه هو أن سياسة الاستفراد بالقرار هي سياسة موروثة في منظمة التحرير الفلسطينية ومن بعدها السلطة الفلسطينية، التي خرقت وتخرق حتى ثوابتها المعلنة والمكتوبة كل يوم.

هي ليست المرة الأولى التي تعلن أو تهدد فيها قيادة التفاوض بإعلان "دولة" ما، فقد سبق أن أعلن عرفات عام 1988 قيام دولة فلسطين ليصبح رئيساً لها، ومع دخول أوسلو حيز التنفيذ وفشلها بعد سنوات، هدد عرفات في عام 1999 بإعلان الدولة الفلسطينية -المعلنة أصلاً والتي كان يرأسها – باعتبار ذلك "استحقاقاً" مع نهاية الفترة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاق أوسلو، ولم تُعلن تلك الدولة.

أما محمود عبّاس -الذي ورث سياسة الاستحقاقات- فقد شهدنا في عهده استحقاقات رئاسية وتشريعية واستحقاق أنابوليس، ومن بعدها مفاوضات التقريب واللجوء لمجلس الأمن كاستحقاق عربي في عام 2011، و"استحقاق أيلول" 2011 -الذي لا قبله ولا بعده- للحصول على عضوية دائمة في الأمم المتحدة، والذي فشل فشلاً ذريعاً، ولقاءات عمّان الاستكشافية بداية هذا العام، إلى الاستحقاق الجديد: أيلول 2012 – دولة غير كاملة العضوية!

لقد عانى الشعب الفلسطيني وما زال من مآسي التفرد بالقرار، والوصول دائماً لنتائج كارثية على مسيرة قضيته، رغم كل النصائح والفتاوى القانونية التي تحاول ثني فريق التفاوض عن الاستمرار في عبثيته.

لا يوجد في الأمم المتحدة مسمى "دولة غير كاملة العضوية"، وهذا الطرح يحمل الكثير من الاستهتار والاستهزاء، لكن المفاوض الفلسطيني يصر عليه للإيحاء بأن هناك إنجازا ما سيتم الحصول عليه

لا توجد دولة غير كاملة العضوية
لا يوجد في الأمم المتحدة مسمى "دولة غير كاملة العضوية"، وهذا الطرح يحمل الكثير من الاستهتار والاستهزاء، لكن المفاوض الفلسطيني يصر عليه للإيحاء بأن هناك إنجازا ما سيتم الحصول عليه، ليسوقه بعد ذلك كانتصار وفتح كبير تقام له الاحتفالات، وربما أعلن يوماً وطنياً وإجازة رسمية.

تحدد الأمم المتحدة عضويتها بشروط أهمها توصية مجلس الأمن، وهو ما فشلت فيه سلطة التفاوض، ولا يوجد أي نوع آخر من العضوية المنقوصة أو غير الكاملة أو غيرها، لكن هناك وضعية مراقب استثنائية لدولة واحدة غير عضو تلقت دعوة دائمة للمشاركة بصفة مراقب في دورات الجمعية العامة وأعمالها هي الكرسي الرسولي (الفاتيكان)، إضافة لبعثة المراقبة الدائمة لفلسطين والمصنفة تحت بند كيانات أخرى لأنها تمثل منظمة التحرير الفلسطينية.

إن ما ستحصل عليه قيادة السلطة من توجهها للجمعية العامة للأمم المتحدة هو نقل صفة "مراقب" من منظمة التحرير للسلطة الفلسطينية، وهذا لا يسبغ أي شرعية إضافية، أو صلاحيات دولة، أو غيرها مما يروج له الفريق المفاوض من الحصول على دولة غير كاملة العضوية، بل ستكون له نتائج وخيمة!

نتائج الخطوة
لا يطالب الفلسطينيون -في سياق مسعاهم إلى الانضمام لعضوية الأمم المتحدة- بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة، بل إنهم يطالبون بالحقوق الناشئة عن وضعهم كدولةٍ قائمة، ولا يطالب الفلسطينيون بحقهم في السيادة على إقليمهم أو استقلالهم، وإنما يطالبون بالوسائل التي تمكنهم من ممارسة السيادة والاستقلال على أرض الواقع وفي ظل الاحتلال.

أوضحت دراسات قانونية طلبها الفريق المفاوض نفسه –كالوثيقة القانونية التي أعدها خبير القانون البروفيسور جاي جودوين جيل حول استحقاق أيلول 2011، وكذلك دراسات وتحليلات لا تخفى على متابع- المخاطر الكبيرة التي تشكلها مبادرة السلطة الفلسطينية للتوجه إلى الأمم المتحدة.
ويمكن تلخيص أهم تلك المخاطر في:
• التنازل عملياً وعالمياً عن 78% من فلسطين التاريخية.
• إسقاط حق العودة عملياً، فالدولة المفترضة هي على حدود عام 1967، وسيطرح السؤال التالي في كل مرة تحاول فيها الدولة الدفاع عن حق اللاجئين: إن كانت دولتكم هي دولة الفلسطينيين فلماذا لا يعود الفلسطينيون إليها؟

سيحاول البعض القول بأن منظمة التحرير الفلسطينية ستكون المدافع عن حق اللاجئين، متناسين أن منظمة التحرير نفسها ستكون في مهب الريح فور قبول دولة فلسطين عضواً، ناهيك عن أن محاولة الحديث عن العودة إلى الديار الأصلية ستعتبر تدخلاً في شؤون دولة أخرى.

• سيتحول الفلسطينيون خارج حدود الدولة إلى مغتربين مقيمين في دولة شقيقة أو صديقة، ويحملون جوازات سفر "فلسطينية" بإقامات، وبشكل تلقائي تسقط ولاية "الأونروا" وصفة اللاجئ عنهم، وهو ما تطمح إليه إسرائيل للتخلص من حق العودة.

• منظمة التحرير الفلسطينية التي تتمتع بصفة عضو مراقب في الأمم المتحدة ستفقد هذه الصفة لصالح تمثيل أقل للشعب الفلسطيني وحقوقه، وستؤدي تلك الخطوة إلى نقل تمثيل الشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة من منظمة التحرير الفلسطينية إلى دولة فلسطين، وهو ما يقود إلى إلغاء الوضعية القانونية التي تتمتع بها منظمة التحرير في الأمم المتحدة منذ عام 1975. وأضاف أن ذلك سيقود إلى وضع لن تكون فيه مؤسسة قادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني بأكمله في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية المتصلة بها.

• حتى بالنسبة لمن يؤمن بالمفاوضات، فإن إسقاط ورقة الدولة الواحدة -بغض النظر عن قناعاتنا- يضعف موقف المفاوض الفلسطيني الذي لا يملك أي أوراق قوة، لأن خطوة أيلول ستسقط خيار الدولة الواحدة الذي يعتبر في رأي الباحثين أهم الأوراق التفاوضية في جعبة المفاوض الفلسطيني، حيث أكد أن خيار الدولة الواحدة أكثر ما يرعب الجانب الصهيوني، ويعتبر آخر سلاح في جعبة المفاوض الفلسطيني في حال تعنت الطرف الآخر.

• سيفتح اتخاذ مثل هذه الخطوة الباب أمام تنفيذ خطة شارون الأحادية، بحجة أن الجانب الفلسطيني خرق ومن طرف واحد اتفاقية أوسلو، مع قناعتنا بأن الاحتلال لا يحتاج لأعذار في ذلك، لكنه سيملك حجة قانونية.

• سيتحول الصراع مع الاحتلال من صراع شعب وأرض وحقوق ومقدسات وصراع لإنهاء الاحتلال، إلى صراع على الحدود بين دولتين.

• سيمهد الإعلان غير المدروس تهديداً مباشراً لأهلنا في أراضي عام 1948، وسيكون بمثابة نقطة الانطلاق لتطبيق خطة إسرائيل بترحيلهم وإبقاء كيانهم دولة لليهود.

• سيكون مصير القدس والأراضي الواقعة بين خطيْ التقسيم و"الأخضر" في مهب الريح.

في صف الأعداء
ولأنه "استحقاق" فإن معارضته في رأيهم تعني الالتقاء مع نتنياهو وليبرمان في معاداة "خيارات" الشعب الفلسطيني، ليؤكدوا الموقف الرافض للاحتلال لقيام دولة فلسطينية.

لكن الوقائع تشير إلى أن الاحتلال لا يعارض قيام دولة فلسطينية بل يسعى لذلك جاهداً، ليس فقط بسبب ما ذكرناه سابقاً عن المخاطر التي تصب في مصلحة الاحتلال، ولكن أيضاً لأنه هدف إستراتيجي معلن وبوضوح من كافة الأطراف الإسرائيلية، وإن كان بشروطهم ورؤيتهم.

وما المعارضة الصوتية والإعلامية من قبل قادة الاحتلال إلا خدعة الهدف منها خداع الجانب الفلسطيني من جهة، ومن جهة أخرى الحصول على مكاسب سياسية وقانونية تتمثل في أخذ الشرعية اللازمة لفرض حل من جانب واحد، يتمثل في إعطاء الفلسطينيين دولة داخل الجدار الفاصل.

من مصلحة فريق المفاوضات الفلسطيني إظهار موضوع الدولة وكأنه معركة ضد إرادة المحتل، ليصور لاحقاً حصوله على دولة –إن حدث– بأنه إنجاز تاريخي وانتزاع من فم الأسد

أما فريق المفاوضات فمن مصلحته إظهار الأمر وكأنه معركة ضد إرادة المحتل، ليصور لاحقاً حصوله على دولة –إن حدث– بأنه إنجاز تاريخي وانتزاع من فم الأسد، محتفياً بالإنجاز العظيم لتبرير الفشل، حتى وإن كانت الخطوة هي في صالح الاحتلال ولمصلحته.

يقول مازن المصري إن الوضع الحالي في الضفة الغربية هو الأمثل بالنسبة إلى إسرائيل، الأمن مستتب بتمويل فلسطيني/عربي/دولي، والضفة الغربية تحت سيطرتها شبه المطلقة، وهي مفتوحة كسوق للبضائع الإسرائيلية، فلمَ التغيير إذاً؟ الأفضل من ناحية إسرائيل هو الوصول إلى دويلة فلسطينية (أو كيان سياسي يُسمى دولة)، بتصميم وقياس تمليه إسرائيل، ويقبل به الفلسطينيون، تُظهره للعالم كتنازل كبير، ويضع أمام الفلسطينيين التزامات كبيرة.

المسألة بالنسبة إلى إسرائيل إذاً هي مسألة تكاليف العملية، لا مبدأ الدولة بحد ذاته. لقد باتت الدولة الفلسطينية المحدودة السيادة على جزء من أراضي الضفة الغربية وغزة، موضع الإجماع الصهيوني، بل إنّها مصلحة إسرائيلية، إذ ستحل هذه الدولة "مشكلة" إسرائيل الديمغرافية من ناحية إنهاء السيطرة المباشرة على الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه تحل بعض التناقضات الداخلية لتعريف الدولة كدولة يهودية، وتطبيع مكانتها السياسية والدولية، ومنحها المزيد من الشرعية.

وما يؤكد هذه القراءة مسارعة عبّاس نفسه لنفي أي تحدّ للاحتلال أو الإدارة الأميركية، حين طمأن أكثر من مرة من يهمّهم الأمر إلى أنّ خطوته هذه لا تهدف أبداً إلى الخروج عن نهج التسوية، ففي خطابه الأخير أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الذي انعقد في 27/07/2011 شدد على أنّ الذهاب إلى الأمم المتحدة ليس على حساب المفاوضات، والمفاوضات بحسب تعبيره هي: "خيارنا الأول والثاني والثالث"، وأنّه إذا نجح في هذه الخطوة "فسيكون شكل المفاوضات مختلفاً"، وأنّ المفاوضات تبقى الخيار حتى بعد الذهاب إلى الأمم المتحدة, مؤكداً -في أكثر من مناسبة أن خطوته لا تهدف مطلقاً لنزع الشرعية عن "إسرائيل".

وهذه اقتباسات حرفية لبعض أقواله
• "ذهابنا للأمم المتحدة لا يعني أننا ضد المفاوضات، ولم نذهب إلى المنظمة الدولية إلاّ لأن المفاوضات غير موجودة".
• "لا نريد أن نتحدث بعنترية، فنحن لا نريد مواجهة مع الأميركان، وهم يقدمون للسلطة ومؤسساتها دعما يصل لـ470 مليون دولار سنويا".
• "يدعون أننا نريد نزع شرعية إسرائيل، وهذا ليس صحيحا، بل نريد أن نمنح الشرعية لأنفسنا للعيش إلى جانب إسرائيل..، ونحث الدول العربية على الاعتراف بها".
• "لدينا تجربة في التعاون ليل نهار مع إسرائيل على المستوى الأمني..، هذا التعاون يتواصل 24 ساعة يوميا من أجل الحفاظ على الهدوء..، سوف نواصل الجهود لمنع الإرهاب".

ومن هنا أيضاً تتم هذه المعزوفة التي تصف كل من يعارض النهج التفردي العقيم والكارثي بأنه في صف الأعداء، وبأن ما يقوله يتلاقى مع طرح الاحتلال، الوقائع تثبت العكس تماماً، لأن من يتقاطع مع مصلحة الأعداء، ويسقط حقوق الشعب الفلسطيني للحصول على نصر وهمي وإنجاز فاشل مسبقاً، هو من يعمل ليل نهار لتكريس الاحتلال وتطبيق خططه وإضفاء الشرعية عليه.

إلى أين؟
هذا النهج يقود إلى الهاوية السياسية، ويمكن وصف ما يجري في إطار ما ذهب إليه ماجد عزّام في قوله إنه "مع كل التحفظات والمعطيات السابقة، وبعدما تمّ فرض الاستحقاق بشكل يكاد يكون جبرياً وقهرياً، لا يجري التعاطي مع الجمهور الفلسطيني بشكل شفاف ونزيه، ولا يتمّ شرح الأمور بصدق وصراحة، فلا أحد يقول مثلاً إن من المستحيل الحصول على دولة كاملة العضوية في ظل التهديد الأميركي باستخدام الفيتو في مجلس الأمن، وإن ما سيتمّ غالبا هو الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على مكانة دولة غير عضو بموافقة ثلتيْ أعضائها أي مائة وثلاثين دولة، بينما تعترف الآن بالدولة الفلسطينية مائة وعشر دول تقريباً.

المعادلة الصحيحة في وجود احتلال واغتصاب واعتداء هي أنه طالما أن هناك احتلالا في أحد أطراف المعادلة، فإن طرفها الآخر هو المقاومة بكل الوسائل المشروعة حتى التحرير والعودة

والأهمّ من ذلك كله أنه لا أحد يتحدّث عن صباح اليوم التالي، وأن لا شيء سيتغيّر على الأرض، بل على العكس، قد يزداد الإحباط واليأس، وتبدأ سيرورة تنتهي بانهيار السلطة نفسها وأيضاً دون نقاش مرتب ومنهجي للفكرة، واستعداد وتحسّب لتداعياتها السلبية السياسية والاقتصادية والأمنية على الشعب الفلسطيني والمشروع الوطني بشكل عام".

ما تمارسه قيادة السلطة هو عملية خداع للنفس قبل أن تكون خداعاً للغير، في ظل صمت وترهل فصائلي لا يستثني أحداً، ومحاولة لتغيير ثوابت وقناعات وأهداف شعبنا، ولتصوير خطوة بائسة وكأنها انتصار تاريخي، ونختم بأن نستشهد بما قاله أحدهم يوماً في رفضه لفكرة الدولة قبل أن يكتب بنفسه إعلانها عام 1988، حيث يطرح محمود درويش في "مديح الظل العالي" عدداً من الإجابات الممكنة لسؤاله "ماذا تريد؟"، مثل العلم والجريدة والسيادة فوق الرماد، لكنّه ما لبث أن رفض تلك الإجابات وسخر منها، وكرر درويش إجابته هو عن تلك الأسئلة، قائلاً: "أنتَ، أنتَ المسألة"، وأنهى قصيدته ساخراً من رمزية فكرة الدولة قائلاً: "ما أوسع الثورة، ما أضيقَ الرحلة، ما أكبَرَ الفكرة، ما أصغَر الدولة!".

الحقوق لا تُمنح بل تنتزع، والمعادلة الصحيحة في وجود احتلال واغتصاب واعتداء هي أنه طالما أن هناك احتلالا في أحد أطراف المعادلة، فإن طرفها الآخر هو المقاومة بكل الوسائل المشروعة حتى التحرير والعودة، وما دون ذلك عبث وزيف ولن يمكث في الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.