آليات الاختراق الإسرائيلي وتبعاته

تصميم بالعنوان: آليات الاختراق الإسرائيلي وتبعاته

undefined 

اعرف عدوك
تبعات الغفوة
حرب العقل للعقل

هب أن هناك جارا بغيضا ملاصقا لك، غفوت ذات ليلة ظلماء لتصحو على وجوده على غير إرادتك، وأدت مطامعه وعدوانيته اللانهائية إلى نشوب صراع متعدد الأبعاد وقتال بغير منتهى، وأمكن لعدوك هذا –عبر هذا الصراع وعبر استغلال غيبتك ومكامن ضعفك- قهرك واحتلال أجزاء عريضة من مناطق سيادتك.. ماذا سيكون حينها رد فعلك الشخصي وموقف كل عشيرتك؟

البديهي أنك سترفض بإباء هذا الواقع، وستلجأ إلى كل الحيل والطرائق لاسترداد كل ما أخذ، وقبل كل ذلك ستبقى متيقظا تجاه ذلك العدو، وستعمل جاهدا على ترجيح كفة الميزان المختل. هذا هو المنطقي والبديهي في مثل هذه الحالة، لكننا نتفق أن ردة الفعل ستكون مختلفة تماما إذا ما اعترتك غيبوبة مفاجئة أو غفوة ممتدة، وإذا ما أخذت أوجه التشرذم مع بقية أفراد عشيرتك وقبيلتك تتسع وتتسع، دون أن تبدو هناك بارقة أمل في الاتحاد أو توحيد القوى.

للأسف هذا هو الحادث وهذا ما ينطبق حرفيا على وضعية الصراع العربي الإسرائيلي، الممتد الآن لأكثر من 60 عاما، وعلى موقفنا التخاذلي من العدو الصهيوني المتضخم باطّراد والساعي بكل السبل الممكنة لفرض السيطرة ومحاولة تغيير خارطة المنطقة.

أما الأنكى والأخطر من هذا، فهو سماحنا لذلك العدو باختراقنا من كل الجوانب، وباستباحة محيطنا البشري والبري والبحري والجوي بكل أدوات التجسس والتلصص المتاحة بشكل آني ودائم، وهذا إلى حد يصعب تصوره، وينبئ في الوقت ذاته باستمرار التفوق الإسرائيلي الإستراتيجي إلى ما لا نهاية!

ولعل هذا الأمر تحديدا يستدعي منا ومن كل ذي بصيرة كل الانتباه، لأن انكشافنا بهذه الطريقة، والسماح للعدو بالتلصص والتنصت علينا ليلا ونهارا، يمثل لنا -بلا شك- تهديدا إستراتيجيا خطيرا، ويحد في ذات الوقت من قدرتنا على الرد والردع. وهذا وإن كان غير خافٍ على الجهات العسكرية والأمنية المعنية، فإن كثير منه ما زال خافيا على العامة فينا، لذا وجب هنا التوعية به وبجميع جوانبه، يحدونا في ذلك أمل كبير بأن يتم اتخاذ كل ما يلزم لدرء مكامن ذلك الخطر الكاشف النافذ.   

اعرف عدوك
تقوم العقيدة العسكرية الإسرائيلية على عدة مبادئ ومفاهيم راسخة وأساسية، من أهمها ضمان تفوق الجيش الإسرائيلي على الجيوش العربية والإسلامية مجتمعة، والأخذ بسياسة المبادأة لتجنب أي هجوم مباغت، ونقل المعركة إلى أرض الخصم، وعدم القتال على أكثر من جبهة واحدة في ذات الوقت، والتوسع في الاحتلال والسيطرة، والسعي بكل السبل الممكنة لحرمان الآخر من تحقيق التفوق الإستراتيجي والعسكري، مع العمل في نفس الوقت على إضعافه وتبديد موارده، حتى لو تطلب الأمر استهداف كوادره والقيام باغتيالات منظمة أو غيرها من الأعمال الدنيئة والعدائية.

العقيدة العسكرية الإسرائيلية تقوم على عدة مبادئ ومفاهيم راسخة وأساسية، من أهمها ضمان تفوق الجيش الإسرائيلي على الجيوش العربية والإسلامية مجتمعة، والأخذ بسياسة المبادأة لتجنب أي هجوم مباغت

وبطبيعة الحال لا تعد هذه المبادئ من الثوابت المقدسة، بل يمكن الحياد عنها بقدر أو بآخر، تبعاً للمستجدات والتطورات الحادثة. وفي كل الأحوال فإن تحقيق معظم هذه المبادئ يعتمد في الأساس وفي المقام الأول على جمع المعلومات الاستخباراتية واختراق كافة جبهات الخصم المنافس، بطريقة آنية وبكل السبل والوسائل المتاحة.

ويعمل الجيش الإسرائيلي وبقية الأجهزة الأمنية والمخابراتية المعنية (الموساد وأمان والشاباك) على تحقيق ذلك، وجمع المعلومات والبيانات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة بطريقة منظمة، مستعينا في هذا بوسائل وآليات تجسس عديدة ومتنوعة.

فعن طريق الجو يمكن لإسرائيل وعبر الجيل التاسع من القمر الاستطلاعي "أوفق" (Ofek) التجسس وجمع معلومات استخباراتية عن كل شبر في البلاد العربية والإسلامية، بقوة توضيح مكانية كبيرة تصل إلى 70 سم، مما يعني أن بإمكان الصور الملتقطة بهذا القمر، التعرف على الأشياء والمعدات الصغيرة الحجم والمحمولة بواسطة الأشخاص. كما يوجد أيضا القمر "تكسار" (TechSAR) الذي يتميز بقدرته على التقاط صور وجمع معلومات في الظروف الجوية الصعبة. هذا إلى جانب أقمار التجسس الأخرى المتاحة والمصنعة في إسرائيل، مثل القمر "إيروس" (Eros C)، فضلا عن قرب إطلاق الجيل العاشر من "أوفق" والذي يشاع أنه سيتيح للكيان الصهيوني التجسس على كل تحركات الأفراد بدول الشرق الأوسط!

اللافت أن الجيش الإسرائيلي لم يكتف بهذا، بل يسعى حاليا لتطبيق ما يعرف بمفهوم "قمر صناعي لكل قائد عسكري"، وهذا عبر تزويد كل قائد عسكري فيه بقمر صناعي صغير يعمل على إمداده بالمعلومات الاستطلاعية، ورصد أي شيء يتعلق بمهامه القتالية وخاصة أثناء العمليات الحربية.

الطائرات بدون طيار تعتبر أيضا من التقنيات الحديثة الآخذة أهميتها وفاعليتها في الازدياد، والتي باتت تعتمد عليها إسرائيل بشكل كبير في أعمالها العدائية والتجسسية، وبخاصة في حيز الأراضي الفلسطينية، نظرا لقدرتها على القيام بمهام الاستطلاع الجوي ومراقبة الحدود وعمليات التهريب بشكل دوري وغير مكلف نسبيا، ونظرا أيضا لقدرتها على استهداف الأشخاص وتنفيذ المهام الهجومية المحدودة، بدقة عالية.

ما أكثر البصاصين والعساسيين، وما أكثر ضعاف النفوس ممن يمكن إغواؤهم أو الضغط عليهم بالمال أو الجنس، لجمع المعلومات أو نشر الشائعات والعمل لصالح إسرائيل

بحريا تستطيع إسرائيل اختراق المياه الإقليمية لأي دولة عربية مشاطئة لها في أي وقت، وهذا من واقع ما تمتلكه من غواصات حديثة تتسم بقدرة عالية على المناورة والتنصت المائي وكشف وتعقب الأهداف البحرية الراسية والمارة. ويبلغ إجمالي ما تمتلكه الدولة العبرية حاليا نحو ست غواصات، معظمها من طراز "دولفين" القادر على إطلاق صواريخ "كروز" وحمل رؤوس نووية، وأحد أكثر الغواصات التي تعمل بالديزل تقدما على مستوى العالم.

مفهوم الحرب الإلكترونية أصبح أيضا من المبادئ والمفاهيم الرائجة بقوة في العقيدة القتالية الإسرائيلية، نظرا لقدرة فيروسات الحواسيب ووسائل القرصنة الإلكترونية على اختراق المواقع الحساسة وشبكات الهواتف والاتصالات، والوصول إلى المعلومات بطريقة خفية، ولقدرتها أيضا على التخريب وإلحاق أكبر الخسائر الاقتصادية والعسكرية بالخصم، دون تكبد خسائر بشرية أو تكلفة مادية تذكر.

وعملا بهذا المبدأ، فقد تم استحداث قيادة جديدة للحرب الإلكترونية داخل وحدة التنصت المعروفة باسم "الوحدة 8200" التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، كما تتناثر معلومات عن تجييش إسرائيل لمجموعات قرصنة وحماية إلكترونية نظامية، ومنها ما يعرف باسم "مقاتلي السيبر" ومجموعة "آي.دي.أف" بغرض تنفيذ الهجمات الإلكترونية، والحيلولة دون تنفيذ الهجمات المضادة أو اختراق المواقع الحساسة والحيوية، سواء العسكرية أو المدنية.
 
أما على البر، فما أكثر البصاصين والعساسيين، وما أكثر ضعاف النفوس ممن يمكن إغواؤهم أو الضغط عليهم بالمال أو الجنس أو خلافهما، لجمع المعلومات أو نشر الشائعات والعمل لصالح إسرائيل.

ولعل الكشف مؤخرا عن أكثر من شبكة تجسس في كل من مصر والأردن ولبنان، إضافة إلى حوادث الاغتيال المنهجي لقادة المقاومة الفلسطينية والعلماء الإيرانيين، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بمعاونة أرضية، يدل على استمرار اعتماد أجهزة المخابرات الإسرائيلية على هذه الوسيلة التقليدية، من أجل جمع المعلومات وتحقيق أهدافها الدنيئة.

تبعات الغفوة
لا توجد غفلة بلا ثمن، ولا يمكن أن تكون سماؤك وكل حدودك مخترقة ومستباحة على النحو النافذ والطاعن المذكور سابقا، من غير وقوع أضرار أو خسائر كثيرة منظورة وغير منظورة. ونحسب أن هذا ما ينطبق حاليا على وضعية العالم العربي في مواجهة محاولات الاختراق الإسرائيلية الواضحة والمستمرة، وما أكثر المؤشرات والأمثلة الدالة على ذلك!

يمثل نجاح إسرائيل في اختراق شبكات الاتصالات والهواتف المحمولة في لبنان، وتخريب البرنامج النووي الإيراني بفيروس ستاكسنت الإلكتروني، شكلا جديدا من أشكال الاختراق النافذ للجسد العربي الإسلامي الواهن

الصراع في دارفور وجنوب السودان وما أدى إليه ذلك من اقتتال في الشمال وانقسام في الجنوب، يعود في جزء منه إلى الدور الإسرائيلي، وهذا باعتراف رئيس "أمان" عاموس يادلين نفسه، حينما أقر غير مرة بتشجيع وتسليح إسرائيل للحركات الانفصالية في السودان.

كذلك يمثل نجاح سلاح الجو الإسرائيلي في ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، وموقع المفاعل السوري عام 2007، دليلا على أن إسرائيل تعي ما تفعل، وأن أقمار التجسس والطائرات بدون طيار لا تحوم حولنا من أجل التنزه أو استعراض القوة. 

كما يمثل نجاح الموساد في الوصول إلى العمق الإيراني، وقيامه بأكثر من عملية اغتيال لعلماء ذرة إيرانيين، وهو ذات النهج الذي تمت به تصفية علماء الذرة المصريين -أمثال مشرفة والمشد وسميرة موسى- وعدد آخر من العلماء العرب، مدى عزم الدولة العبرية على سلب كل مفاتيح القوة من كل دول المواجهة.

إلى جانب ذلك، يمثل نجاح إسرائيل في اختراق شبكات الاتصالات والهواتف المحمولة في لبنان، وتنصتها على عدد من المسؤولين، ممن يعدون من أصحاب القرار في الحكومة اللبنانية، فضلا عن محاولة تخريب البرنامج النووي الإيراني بفيروس "ستاكسنت" الإلكتروني، وتعطيل العمل بمصافي النفط والمنشآت الصناعية في إيران بفيروس "فليم"، شكلا جديدا من أشكال الاختراق النافذ للجسد العربي الإسلامي الواهن.

هذه عينة من الأضرار المثبتة التي لا يمكن إنكار وقوعها أو إرجاعها إلى غير الدولة العبرية، لكن الأضرار الخافية وغير المعلنة يمكن أن تكون أكثر وأبلغ أثرا بمئات المرات من هذه العينة، لاسيما إذا كانت طويلة الأمد أو يجري التخطيط لها على نار هادئة.

وفي هذا الإطار، لا يمكن أبدا تجاهل أن إحدى المهام الأساسية لجهاز الموساد، تتضمن "تقييم الموقف السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول العربية بشكل مستمر، واقتراح التوصيات والخطوات الواجب اتباعها في ضوء المتغيرات الحادثة"، كما لا يمكن تجاهل وجود قسم بالموساد مختص بالحرب النفسية واستغلال المعلومات المتاحة، في نشر الشائعات المغرضة وإثارة البلبلة والقلاقل الداخلية بدول الطوق والمواجهة.

حرب العقل للعقل
على غير ما يفعله العرب، يفكر قادة الكيان الصهيوني دائما بمنطق كيف ستبدو الحرب المقبلة؟ وما هي الجاهزية الحالية لخصمنا؟ وكيف يمكن لنا أن نحقق ونحافظ دائما على عنصري المبادأة والمفاجأة؟

أسباب التفوق والمسألة برمتها إذن، ترجع في الأصل إلى طبيعة التفكير المنهجي ومنطق إدارة الأمور، أكثر مما ترجع إلى عامل التقدم العلمي وتوافر الإمكانيات والتقنيات العسكرية.

من هنا يمكن القول إن إصلاح كفة الميزان المختل والحفاظ على مبدأ التكافؤ في الصراع العربي الإسرائيلي الدائر، يستلزم منا -بداية وقبل أي شيء- تصحيح بوصلة تفكيرنا، وإعادة توجيه الخطط الإستراتيجية الحالية، بالتركيز على المجالات التي لا تتطلب إمكانيات تقنية كبيرة.

إذا لم نكن قادرين على مناطحة إسرائيل تقنيا ومقارعة، فليس أقل من محاولة مقارعتها في المجالات الأخرى التي تعتمد على قوة العقل ومقدار الكفاءة البشرية

إن المنطق يقول إنه إذا لم نكن قادرين على مناطحة إسرائيل تقنيا ومقارعة تفوقها في المجالات التي تقوم على التقدم التقني والعسكري، فليس أقل من محاولة مقارعتها في المجالات الأخرى التي تعتمد على قوة العقل ومقدار الكفاءة البشرية. ومن ذلك على سبيل المثال، مجال الحرب الإلكترونية التي تعد من حروب المستقبل، والتي لا يحتاج التفوق فيها إلا إلى أدمغة بشرية متمكنة ومؤهلة.

كما يستلزم الأمر درء النواقص الحالية بأسرع ما يمكن، والأخذ ببقية أسباب القوة، خاصة في المجالات التي قد تمثل فارقا في حال تحول الصراع إلى حرب إقليمية. وفي هذا الإطار، يحتار المرء حقيقة في أسباب غفلتنا عن أمور كثيرة، ومن ذلك مثلا خلو فضاء المنطقة -المتخم بأقمار التجسس الإسرائيلية والأميركية- من قمر عربي صناعي واحد يكشف إسرائيل ويعريها كما تفعل أقمارها بنا، وهذا رغم أن الأمر ليس بالعسير ماديا أو تقنيا.

أما الأهم من ذلك كله فهو استذكار دروس الماضي، ومن ذلك مثلا أن كلمة السر في تفوق العرب على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، لم تكن سوى اليقظة والتوحد ودقة التخطيط واستخدام جميع الأسلحة المتاحة بدهاء وحنكة، وأهمها في ذلك الوقت سلاح النفط. فهل نستذكر هذا ونتحد ونتوحد، على الأقل لحماية سماواتنا وحدودنا المستباحة؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.