السودان.. التفاوض تحت سيف القرار 2046

السودان.. التفاوض تحت سيف القرار 2046 - الكاتب: ياسر محجوب

undefined 

شيطان أجندة التفاوض
اختلاف التعامل مع القرار
مآخذ الخرطوم على القرار

ثم ماذا بعد؟

لم يبق على شهر أغسطس/آب القادم الكثير، وهو الموعد الذي حدده مجلس الأمن الدولي لتصل دولتا السودان وجنوب السودان إلى حل لخلافاتهما العويصة.. الحرب الشاملة بين البلدين مسألة تكذبها وقائع وحقائق كثيرة يحاول الطرفان القفز عليها، لكن ريثما يعودان إلى رشدهما.. بسرعة مدهشة اتفقت جوبا والخرطوم على أجندة التفاوض وهي البدء ببحث الملفات الأمنية بعدما كاد "شيطان الأجندة" أن يفسد أجواء التفاوض.

الخرطوم أصرت على بحث الملفات الأمنية أولا، وهو ما يبدو منطقيا، بيد أن جوبا طرحت خمس مسائل تركز على النفط وامتيازات خاصة لمواطنيها المقيمين في الشمال باعتبارها ذات أولوية وليس من بينها الملف الأمني.. مما يؤشر على الاتفاق حول الملف الأمني حضور وزيري الدفاع في البلدين إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، مقر التفاوض، لبحث الأمن على الحدود المشتركة بين بلديهما.

شيطان أجندة التفاوض
كان شيطان أجندة التفاوض بين الدولتين عقبة كأداء أمام بدء مفاوضات جادة عقب التوتر العسكري الأخير بينهما وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2046 الذي ألزم الطرفين بالتفاوض.. ثابو مبيكي رئيس الآلية الأفريقية الرفيعة المستوى ووسيط التفاوض، لعب دورا في الضغط على جوبا للموافقة على بحث الملف الأمني أولا، وكانت الخرطوم قد كافأته مسبقا بالاستجابة لمبادرة قادها بغرض إطلاق سراح أربعة رجال اعتقلتهم الخرطوم باعتبارهم جواسيس عقب آخر معركة عسكرية بين جيشي البلدين، وهم بريطاني ونرويجي وجنوب أفريقي وجنوبي سوداني.

يبدو أن الخرطوم التي قبلت مجبرة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2046 قررت اعتماد تكتيك دبلوماسية المتاريس للتعاطي مع الجوانب التي تراها سلبية في القرار حتى لا تنعم به جوبا الذي تعتقد الخرطوم أنه صمم لخدمتها.. يشار إلى أن أفضل من يجيد دبلوماسية المتاريس هي إسرائيل، فكم من قرار لمجلس الأمن أو الجمعية العامة رفضته وركلته عبر تلك الدبلوماسية.. أين هما القراران 242 و338 بشأن فلسطين الجريحة؟

وجدت الخرطوم نفسها أمام خيارين، إما أن تقبل القرار 2046 فتتحقق رغبة واشنطن في دعم جوبا, وإما أن ترفضه فتكسب الرأي العام السوداني المعبأ بشدة ضد جوبا، لكنها تدخل في تعقيدات جديدة مع المجتمع الدولي

لقد كان أبرز مظاهر الارتباك والخلاف الذي أحدثه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2046 في الثاني من مايو/أيار الحالي في الساحة السودانية، الانتقاد العلني الذي وجهه وزير الخارجية السوداني للرئيس عمر البشير شخصيا، وكان أمرا لافتا وغير مسبوق.. من المؤكد أن موقفا صعبا ومحرجا وقعت في حباله الحكومة السودانية بعد ذلك القرار الأزمة بشأن النزاع الملتهب بين الخرطوم وجوبا.. إما الموافقة على القرار فتتحقق رغبة واشنطن في دعم جوبا ورفع ضغط الجيش السوداني عليها بعد أن انتفض إثر احتلال جوبا لمنطقة هجليج النفطية الإستراتيجية ونجح فيما بعد الجيش السوداني في استردادها بعد 10 أيام من الاحتلال والتدمير الكامل.

وإما أن ترفض الخرطوم القرار فتكسب الرأي العام السوداني المعبأ بشدة ضد جوبا، لكنها تدخل في تعقيدات جديدة مع المجتمع الدولي ظل وزير الخارجية علي كرتي يحذر منها، وتعطي بذلك الفرصة لجوبا التي رحبت وبسرعة لافتة بالقرار لتحول التعاطف الدولي لصالحها بعد إدانة مغامرتها في هجليج ومن ثمّ تغدو الخرطوم معتدية ورافضة لـ"الشرعية الدولية" والسلام.. كل المؤشرات تقول إن الخرطوم غارقة حتى أذنيها في بركة قرار مجلس الأمن.

اختلاف التعامل مع القرار
يبدو أن هناك اتفاقا على التعامل مع القرار وسط المؤسسات الرسمية والنخب السودانية، بيد أن الإشكالية أن هناك تباينا كبيرا في كيفية هذا التعامل.. الفريق الذي تمثله وزارة الخارجية يرى تجاهل السلبيات والتعامل بجدية معه والاستجابة لكل متطلباته واعتبار أن السلبيات لم تكن أصلا، وحتى داخل وزارة الخارجية السودانية هناك تباين ما، فبينما يشدد وكيل الوزارة رحمة الله محمد عثمان على انتفاء نظرية المؤامرة في القرار، ويقول إن القرار الأممي أعطانا شيئاً وأخذ منا شيئاً، نجد أن وزير الخارجية يرى أن هناك مؤامرة من بعض أعضاء مجلس السلم والأمن الأفريقي التابع للاتحاد الأفريقي أدت إلى تحويل القضية محل نظره إلى مجلس الأمن الدولي.

أما الفريق الآخر فيرى التعامل مع القرار مع استبطان المداراة وربما المراوغة. ويبدو أن الرئيس البشير مع الفريق الثاني، فقد قال إن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لا يستطيعان أن يفرضا على السودان ما لا يريده، في إشارة إلى القرار، وقال: "بالنسبة للقرارات سننفذ ما نريده. وما لا نريده لا مجلس الأمن ولا مجلس الأمن والسلم الأفريقي سيجعلاننا ننفذه".

الفريق الأول يخشى بشكل هستيري غضبة المجتمع الدولي ووضع السودان في خانة الدولة المارقة التي تخالف الشرعية الدولية، ومن ثم تكون الفرصة مواتية لدولة جنوب السودان للظهور بمظهر الدولة الملتزمة بالشرعية الدولية خاصة بعد الإدانة التي واجهتها إثر احتلال قواتها منطقة هجليج السودانية، وهو ما صعد الخلاف بين الدولتين لدرجة الغليان ودخول مجلس الأمن على الخط.

الفريق الثاني يرى أن القرار صيغ كله وبشكل متعمد لدعم جوبا وفي نفس الوقت وقف تقدم الجيش السوداني الذي أعلن على لسان قائده الأعلى الرئيس البشير طرد جيش الجنوب من كامل التراب السوداني. ويرى هذا الفريق أن تحرير هجليج ساهم في التفاف غير مسبوق لقطاعات المجتمع السوداني المختلفة بما في ذلك المعارضة حول الجيش، وأن التعامل بشكل سافر مع القرار يحبط معنويات الجيش ويفت في عضد ذلك التضامن الشعبي معه.

وينبه عدد من القيادات البارزة في ذلك الفريق إلى أن السودان رفض الكثير من القرارات الدولية  في السابق ومع ذلك لم تقم القيامة، بيد أن القرارات التي قبلها السودان لم ترفع عنه سيف العقوبات الاقتصادية التي رافقت نظام الرئيس البشير منذ العام 1989 وحتى اليوم.

ويرى هذا الفريق أنه من الأجدى للخرطوم أن تحافظ على وحدة وترابط جبهتها الداخلية وتوسيع دائرة الشورى والحوار، والانفتاح على كل ألوان الطيف السياسي على اعتبار أن ذلك الضمانة التاريخية الوحيدة لمواجهة كل المخططات التي تستهدف السودان، وألا تجري الحكومة وراء سراب الحصول على حقوقها عبر القرارات الدولية التي لن تكون في يوم من الأيام في صالح السودان طالما بقيت واشنطن مصرة على إسقاط النظام.

انهالت الرسائل والاستجوابات على وزارة الخارجية السودانية تطلب تفسيرا لكلمة الحشرة التي وصف البشير بها الحركة الشعبية، لكن الخارجية تلجلجت في الرد
 

يشار إلى أن الرئيس البشير كان قد استخدم لغة عنيفة تجاه جوبا عقب اجتياحها مدينة هجليج، وقد وجدت تلك اللغة صدى لدى الشارع السوداني الذي عبر عن غضب عارم لاحتلال هجليج.. وزير الخارجية وجه لأول مرة انتقادات علنية للرئيس البشير أمام البرلمان، وهو ما يحدث لأول مرة من وزير في الحكومة السودانية وقيادي في حزب المؤتمر الوطني الحاكم.. الوزير علي كرتي قال إن تلك التصريحات "نتائجها وخيمة على السودان وتسري كالنار في الهشيم".

ويبدو أن رئيس الدبلوماسية السودانية، وقد كان مصنفا في خانة الصقور، قد فزع من طلبات التفسير التي انهالت على الخارجية السودانية من سفراء الدول الأوروبية والأفريقية وهم يطلبون تفسيرا لكلمة الحشرة التي وردت في حديث الرئيس البشير وكان يشير بها إلى الحركة الشعبية، كما طلب بعض السفراء معرفة ما قصده الرئيس البشير عندما استخدم كلمة العصا، وهكذا انهالت تلك الرسائل والاستجوابات على وزارة الخارجية السودانية التي يبدو أنها تلجلجت في الرد. ويبدو أن الحركة الشعبية روجت وسط حلفائها الأفارقة بأن العصا في الثقافة العربية مرتبطة بتأديب العبد كما جاء في بيت الشعر المشهور لأبي الطيب المتنبي (لا تشتر العبد إلا والعصا معه..).

مآخذ الخرطوم على القرار
ثلاث عثرات يشوّشن على قبول الخرطوم للقرار ومن ثمّ إمكانية تنفيذه بسلاسة.. الأولى أن القرار قنن لادعاء جوبا ملكيتها لمنطقة هجليج عندما تضمن تعبير (المناطق المتنازع عليها والمدعاة)، والنتيجة المباشرة، تلك الخريطة التي أعلنتها حكومة جوبا بعد يومين من صدور القرار، ولذا يرى الفريق الثاني أن اشتمال القرار على عبارة المناطق المدعاة كان ضوءًا أخضر لحكومة سلفاكير لتضم هجليج لخريطتها.

أيضا ألزم القرار حكومة الخرطوم بالاعتراف بما يعرف بالحركة الشعبية قطاع الشمال، في إشارة للتمرد المدعوم من جوبا في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.. العثرة الأخرى ما تراه الخرطوم من عدم جدية الحركة الشعبية في الالتزام بالقرار، حيث اتهمتها بفتح أربعة معسكرات لتدريب متمردي ما يعرف بالجبهة الثورية السودانية التي تضم متمردي قطاع الشمال وبعض حركات دارفور، هذا فضلا عن تهديد صريح من جوبا باجتياح أبيي.

ربما كان أبرز منتقدي القرار الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئيس البشير، وكتب غازي مقالا في إحدى الصحف السودانية فنّد فيه القرار 2046, وأول ما يتبادر للذهن أن هذا اللجوء الاضطراري جاء بسبب محاولات وزارة الخارجية التجميلية لذلك القرار.. غازي استنجد بالصحافة قائلا: ينبغي إشراك كل القوى والشخصيات السياسية السودانية والخبراء والمختصين في صياغة قراءة موحدة للأزمة أي القرار.. ويقول د. غازي: "بين حين وآخر أستصوب ألا تنحصر نصيحتي في دوائر الاستشارة الضيقة التي يفرضها المنصب الرسمي. ويكون ذلك عندما أرى أن موضوع النصح جدير بأن يتفاعل معه الرأي العام بحسبانه أمراً يتعلق بالحقوق الوطنية التي تهم جميع المواطنين، وهو ما يحدث كلما مرت البلاد بمنعطف مصيري".

أما د. أحمد المفتي، محامي ورئيس مركز الخرطوم الدولي لحقوق الإنسان، فيصف القرار بأنه متعسف وكارثة من حيث الشكل والمضمون، مؤكدا أنه استخدمت فيه صياغة مخادعة جردت السودان من كل حقوقه المعترف بها في القانون الدولي.. وقال المفتي إن القرار أدان "الاستيلاء" على هجليج وليس "العدوان" على هجليج، ويرى أن الإدانة وردت في ديباجة القرار وليس في فقراته العامة، ورأى أن ذلك يضعفها كثيراً.

ونوّه المفتي إلى أن القرار سمى التمرد المسلح غير المشروع في جنوب كردفان والنيل الأزرق "التناحر" وليس تمرداً مسلحاً ضد الدولة، واعترف القرار بالحركة الشعبية "لتحرير السودان" قطاع الشمال، وهو توصيف غير مشروع، كما جرد القرار الدولة من حقها القانوني في استخدام القوة المسلحة لمواجهة القوة المسلحة التي تستخدم ضدها في جنوب كردفان والنيل الأزرق.

المتابع لما يجري بين الخرطوم وجوبا، يوقن أن القضية أكبر من كونها خلافات حدودية، فالصراع يمتد ليكون صراعا إستراتيجيا يتخذ حينا أشكالا ثقافية دينية تقوده وتحركه أطراف دولية

ثم ماذا بعد؟
المتابع لما يجري بين الخرطوم وجوبا، يوقن أن القضية أكبر من كونها خلافات حدودية، فالصراع يمتد ليكون صراعا إستراتيجيا يتخذ حينا أشكالا ثقافية دينية تقوده وتحركه أطراف دولية من خلف الكواليس.. يقول رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت إن بلاده تحارب توسع الأيديولوجيات الإسلامية التي تسعى الخرطوم إلى نشرها في الدول المجاورة، مضيفا: "الخرطوم قالت إننا نمثل عقبة في طريقها، وإنه إذا تمكنت من هزيمتنا ستقوم بالتوسع في مشروع الأسلمة والتعريب حتى تصل إلى جنوب أفريقيا". ومضى يقول: "على الرغم من ذلك يعتقد أصدقاؤنا أن الحرب التي نخوضها ضد الخرطوم هي حربنا".

وأعرب سلفاكير عن خيبة أمله تجاه غياب الدعم الإقليمي لبلاده في صراعها مع السودان، لافتاً إلى أن بلاده تدعو إلى قيام دولة علمانية.. الولايات المتحدة الأميركية، التي تحمست بشدة لإصدار القرار الذي صادف فترة رئاستها الدورية لمجلس الأمن، لا تخفي رغبتها في إسقاط نظام الخرطوم لتوجهاته الإسلامية المعلنة، وهي بدون شك تتفق مع جوبا في خطورة هذه التوجهات على مصالحها في القارة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.