إذا عُرف السبب!

العنوان: إذا عُرف السبب! - الكاتب: كمال الجزولي

undefined

لا يبدو لدى حكومة السودان ما تدفع به اتهامها بالتجاوز ضد المدنيين، في أي نزاع داخلي مسلح، غير اجترار ذات الدفوع التي لطالما جابهت بها نفس اﻻتهامات في دارفور منذ اندلاع حرائقها، قبل عقد كامل!

فمثلاً، أصدرت مفوضية حقوق الإنسان بجنيف تقريرا في أغسطس/آب 2011 عما اعتبرته "جرائم حرب" و"جرائم ضد الإنسانية" ارتكبت خلال مواجهات الجيشين السوداني والشعبي بجنوب كردفان، من الخامس إلى الثلاثين من يونيو/حزيران 2011، شاملة "إعدامات خارج القضاء"، و"نهب وتدمير ممتلكات"، و"قصفا جويا لمدنيين"، و"احتجازات غير قانونية"، و"اختفاءات قسرية"، و"توقيفات جزافية".. إلخ (وكالات، 16/8/2011)، ووصفت المفوضية تلك الجرائم بأنها ".. خطيرة إلى حد بات فيه من الضروري فتح تحقيق مستقل ومعمق وموضوعي بهدف محاسبة مرتكبيها" (الاتحاد الإماراتية، 17/8/2011).

غير أن الحكومة، تماماً كما فعلت في شأن دارفور، سارعت إلى دمغ التقرير، في تصريح عاصف لناطق خارجيتها، بـ"المزايدة"، و"المغالطة"، و"الغرض"، و"فقدان السند"، و"مناصرة التمرد"، و"تجاوز الحقائق"، و"الافتقار إلى الأدلة"، و"الضغط على السودان" (المصدر).

مع ذلك، وباتساق مع الارتباكات الحكومية المعهودة في هذه الحالات، أعلن وزير العدل بشارة دوسة عن تكوين لجنة "لتقييم أوضاع حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في جنوب كردفان!" (رويترز، 17/8/2011). لكن أحداً لم يعد يسمع شيئاً عن مآل تلك اللجنة، رغم تصرُّم قرابة العام على تكوينها!

(1)

لم يكن مستغرباً، إذن، بسبب تطابق "عدم الجديَّة" بالنسبة لتصفية مظالم دارفور وجنوب كردفان، أن يجيء قرار دوسة بتكوين لجنة جنوب كردفان، ثم إهمالها لقرابة العام، متزامناً مع قراره الآخر بتكليف وكيل وزارته عصام الزين مدعياً عاماً لدارفور، خلفاً لعبد الدائم زمراوي.

ولئن كان "عدم الجديَّة" واضحاً بنفسه في حالة لجنة جنوب كردفان، فإنه قد يحتاج إلى الإضاءة في حالة المدعين العامين لدارفور، خصوصاً وقد اقترن تكليفهم، في الظاهر، بصلاحيات واسعة، حتى قيل لدى تكليف زمراوي، مثلاً، في سبتمبر/أيلول 2010، وهو وكيل الوزارة، إن المقصود إكساب منصب المدعي العام للإقليم قيمة مضافة، ومع ذلك ما لبث الرجل أن استقال في مايو/أيار 2011 من جميع مناصبه، بما فيها منصب وكيل الوزارة، دون أن يفصح عن سبب واحد لذلك!

أربعة مدعون عاميون تم تعيينهم للتحقيق في جرائم دارفور تعاقبوا على المنصب خلال ما لا يزيد على أربع سنوات، والنتيجة أن مَنْ لم يستقل مِنهم.. أقيل!

وبالمثل اقترن تكليف الزين الذي خلفه باختصاصات واسعة بالتحقيق والتحري، وتمثيل الاتهام في "الجرائم ضد الإنسانية"، و"جرائم الحرب"، و"الإبادة الجماعية" (الأحداث، 17/8/2011). لكن الزين، أيضاً، لم يكد يكمل ستة أشهر حتى أعفي مطلع العام 2012!

لم يكن زمراوي والزين أول ولا آخر مدعيين عامين يعينان لدارفور. فقبل  تكليف زمراوي عام 2010، كلف عام 2008 نمر إبراهيم الذي يبدو أنه "توهَّم جديَّة التكليف، فأقدم على إصدار أمر باعتقال علي كوشيب قائد الجنجويد المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية! ومع أن الإجراء لم يسفر عن شيء ذي بال، إلا أن نمراً ما لبث أن أعفي عام 2010، وأشيع، في تبرير إعفائه، أنه عجز عن التحقيق في أحداث سوق تبرا بشمال دارفور! أخيراً تزامن مع إعفاء الزين في يناير/كانون الثاني 2011 تكليف أحمد عبد المطلب، لكنه تقدم، على غرار زمراوي، باستقالته في 11/6/2012 من جميع مناصبه، بما فيها منصب وكيل الوزارة، رافضاً، بدوره، الإفصاح عن السبب (السوداني، 12/6/2012)!

هكذا نلحظ، من التواريخ أعلاه، مسألتين لافتتين بإلحاح: اﻷولى أن أربعة مدعين عامين لجرائم دارفور تعاقبوا على المنصب خلال ما لا يزيد على أربع سنوات، أما الثانية فهي أن مَنْ لم يستقل مِنهم.. أقيل!

(2)

ثمة حقيقة أخرى يجدر التنويه بها، وهي الشبه الذي يكاد لا يخفى بين موقفي الحكومة إزاء الأوضاع في كل من جنوب كردفان ودارفور، من زاويتين أساسيتين:

فمن الزاوية الأولى تعجز الحكومة، في الحالين، عن الرد على تقارير المنظمات الدولية، اللهم إلا برميها بـ"المزايدة"، و"المغالطة"، و"الغرض"، و"فقدان السند".. إلخ، مثلما ليس لديها ما تنتهجه حيال التجاوزات غير المطل، والإرجاء، والتسويف، والتخدير، وذر الرماد في العيون، واللعب على الذاكرة الخربة، فما تنفك تملأ الدنيا ضجيجاً وعجيجاً عن اعتزامها إجراء التحقيقات وإنفاذ العدالة، بينما تركن، بالكلية، إلى أساليب المراوغة، اعتقاداً ساذجاً منها بكفايتها لخداع الرأي العام الداخلي والخارجي! وما أكثر ما رُصد لها من سوابق لهذا النهج، في حالة دارفور، حتى لقد غضت الطرف، عياناً بياناً، عن المرتكبين الحقيقيين، هناك، لأشد الجرائم خطورة بالمعايير الدولية، وأسبغت عليهم حمايتها السياسية، بينما شغلت الإعلام بمحاكمات قطاع الطرق، ونهابي الماشية، ومختطفي عناصر المنظمات الأجنبية وسياراتهم، مما اضطر حتى بعض كبار منسوبي النظام من الصحفيين للاعتراف بأن "الحكومة.. هوايتها المراوغة.. وما تمثيليات القبض على قطاع الطرق باعتبارهم جنجويد ومحاكمتهم بتلك الطريقة المضحكة إلا نموذجاً لنوعية تلك الألاعيب الصغيرة التي لم تُجدِ، وأفقدت النظام مصداقيته" (عادل الباز- الصحافة، 15/12/2005م).

أما من الزاوية الأخرى فنلمح تطابق عدم الجديَّة بين اللجنة التي كونها دوسة، العام الماضي، للتحقيق بجنوب كردفان، ثم تجاهلها تماماً، وبين اللجنة التي كونها رئيس الجمهورية عام 2004، برئاسة رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف، للتحقيق في جرائم دارفور، وتم التعامل مع توصياتها بما يهدر النتيجة المرجوة، نظرياً، منها، رغم تزامنها، تقريباً، مع اللجنة الدولية التي كونها مجلس الأمن عام 2005، لنفس الغرض، برئاسة القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيسي، وقام، بناءً على توصياتها، بتحويل ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب قراره رقم 1593 بتاريخ 31/3/2005!

لقد أسند إلى مخرجات لجنة دفع الله تلك إصدار رئيس القضاء أوامر تأسيس وتشكيل لثلاث محاكم بدارفور: محكمة محمود أبكم بالفاشر في يونيو/حزيران 2005، ومحكمتي جار النبي قسم السيد بنيالا وأحمد أبو زيد بالجنينة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2005. لكن، هل كان ذلك، حقاً، كذلك؟! هل جاء تشكيل محاكم دارفور، بالفعل، استجابة لاحتياج عدلي مُلِحٍّ؟! وهل توفرت العوامل اللازمة لتؤدي تلك المحاكم وظيفتها بجدية؟! وهل كان يُتوقع من أي مدع عام تم تعيينه لدارفور أن يؤدي، بالنظر للظروف المحيطة، عملاً مثمراً؟! أم إن تعيينهم، أجمعهم، كان محض ذر للرماد في العيون، وخداع للرأي العام في الداخل والخارج؟! بل لماذا استقال مَنْ استقال مِنهم، وأقيل مَنْ أقيل؟!

(3)

محاكم دارفور جرى تصويرها كاستجابة جادة لمقتضيات العدل وحكم القانون، مع أنها لم تكن، في حقيقتها سوى محاكم خاصة مؤقتة تكونت بعد إحالة مجلس الأمن ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية

للإجابة على جملة هذه التساؤلات لا بد من الأخذ في الاعتبار، أولاً، أن نزاع الإقليم المنكوب قد انفجر في 2003 وليس في 2005! وثانياً، على حين جرى، ببروباغاندا محمومة، تصوير محاكم دارفور كاستجابة جادة لمقتضيات العدل وحكم القانون، فإنها لم تكن، في حقيقتها، سوى محاكم خاصة مؤقتة (Ad Hoc Tribunals)، تكونت بعد إحالة مجلس الأمن ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفي ملابسات التنازع على الاختصاص بين النظام السوداني وهذه المحكمة، كمحاولة منه لسدِّ ذرائع "ادعاءات" مدعيها العام بعدم "قدرة" أو "رغبة" النظام في محاكمة جُناة دارفور، بينما المحاكم لا تنشأ، في الأصل، لمثل هذه الأسباب، بل لتصريف العدالة بقضاء طبيعي، مقتدر، ودائم.

ويجدر، هنا، التنويه بالنقد الذي وجهته لجنة كاسيوسي في تقريرها، ليس فقط للنظام القضائي السوداني، حيث اعتبرته مفتقراً للاستقلالية والصدقيَّة والإرادة الكافية، بل، أيضاً، لمنظومة القوانين السودانيَّة نفسها، كونها قاصرة عن الإحاطة بعناصر القانون الجنائي الدولي، كـ"جرائم الحرب" و"الجرائم ضد الإنسانيَّة".

لا يماري أحد في أن القوانين السودانية تعاقب على القتل، والاغتصاب، والنهب، والإتلاف، والتعذيب، وإساءة سلطة الاعتقال، وغيرها، لكن لا يماري أحد، أيضاً، في أن هذه القوانين تعاقب على هذه الجرائم بوصفها ترتكب في ظروف عادية، ولدوافع عادية، وليس باعتبارها "أشد الجرائم خطورة" بمعيار القانون الجنائي "الدولي"، إلا إذا اعتبرنا، مثلاً، أن (القتل) ثأراً لشرف، أو (الاغتصاب) إطفاء لشهوة جنسية، من الجرائم "الأشد خطورة في موضع الاهتمام الدولي"، بحيث يتساويان والقتل والاغتصاب حين يمارسان على نطاق واسع، وبشكل منهجي، أثناء نزاع مسلح، بغرض تصفية الخصوم مادياً، أو إلحاق أكبر قدر من الهزيمة المعنوية بهم!

ضف إلى ذلك اكتظاظ القوانين السودانية بنصوص تسقط الحق في رفع الدعاوى للتقادم، فضلاً عن نصوص تهيئ أوسع الحصانات لأعضاء الأجهزة التنفيذيَّة، وفي مقدمة ذلك قانون قوات الأمن الوطني السابق لسنة 1999، والحالي لسنة 2010، فضلاً عن القوانين التي تحكم القوات المسلحة والشرطة.

لقد صدر، في 10/4/2005، أمران جمهوريان مؤقتان بتعديلين جوهريين: أولهما على قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991، وثانيهما على قانون قوات الشعب المسلحة لسنة 1986، وانصبَّ كلاهما على تحصين أعضاء المؤسستين من المسؤولية الجنائية جراء ارتكابهم حتى (القتل العمد)، دَعْ (التعذيب)، وتمكينهم، بالتالي، من الإفلات من العقاب (impunity)، بحيث لا تستوجب أفعالهم سوى (التعويض) أو (الدية)! وحتى هذه لا يقع عبئها عليهم، وإنما تتكفل بها الدولة! 
ورغم أن التعديلين سقطا لعدم إجازتهما في دورة المجلس الوطني التالية، فإن موضوعهما أدرج، لاحقاً، عند إصدار (قانون قوات الشعب المسلحة لسنة 2007)، و(قانون شرطة السودان لسنة 2008م).

(4)

وإذن، فمحاكم دارفور الخاصة، ومن بعدها مكاتب المدعين العامين بدارفور، أنشئت، نظرياً، للتحقيق في جرائم دولية ومحاكمتها، لكن بقوانين تفتقر، عملياً، إلى عناصر القانون الجنائي الدولي، وتكاد تكون مكبلة تماماً بأوضاع التقادم المسقط للدعاوى الجنائية، وبالحصانات الواسعة للأشخاص ذوي السلطة، فمن ذا الذي يستطيع، عقلاً، أن يتصور إمكانية اقتدار أي من تلك المحاكم أو أولئك المدعين العامين على القيام ولو بالحد الأدنى من المهام التي كلفوا بها؟!

لم يكن أمام المدعين العامين -الذين هم جزء من الجهاز التنفيذي- سوى الائتمار بسياساته التي هي أبعد ما تكون عن نصب ميزان العدالة، أو تقديم استقالاتهم، أو انتظار إقالاتهم!

عناصر القانون الجنائي الدولي لم تضمَّن في القانون الجنائي السوداني إلا في العام 2009، ومعلوم أنه ليس ثمة سبيل لتطبيقها بأثر رجعي يغطي السنوات من 2003 إلى 2009! لكن، حتى بافتراض ملائمة القانون، جدلاً، لمحاكمة جرائم الإقليم، فإن القضاة لا يملكون سلطة تحريك الإجراءات الجنائية لأن ذلك عمل المدعين العامين.

لكن المدعين العامين أنفسهم جزء من الجهاز التنفيذي، فليس أمامهم سوى الائتمار بسياساته التي هي أبعد ما تكون عن نصب ميزان العدالة، أو تقديم استقالاتهم، أو انتظار إقالاتهم! وكمثال لهذه الوضعية المأزومة، سبق أن أصدر المدعي العام أمراً بإعادة فتح التحقيق مع هارون بناء على معلومات استجدت، لكن رئيس الجمهورية أضفى حمايته عليه، وأعلن، على رؤوس الأشهاد، أن "هارون لن يخضع لأيِّ تحقيق!" (السوداني، 26/3/2007). والأدهى أن وزير العدل انحاز إلى قرار رئيس الجمهوريَّة، بدلاً من دعم مدعيه العام أو تقديم استقالته (الصحافة، 4/5/2007).

(5)

مما تقدم يتضح أن أهم أسباب فشل محاكم دارفور الخاصة، ومن بعدها فشل المدعين العامين بالإقليم، إنما تكمن، بالأساس، في كونهم كلفوا بمهام لم توفر لهم أبسط معينات أدائها.. ألقي بهم في اليمِّ مكتوفين وقيل لهم ألا يبتلوا بالماء!

فهل ثمة حاجة لأن يفصح زمراوي أو أحمد عبد المطلب عن أسباب استقالتيهما، أو لأن يصرح نمر أو الزين بأسباب إقالتيهما، أو لأن يكشف قضاة دارفور عن أسباب عجزهم عن محاكمة الجرائم المرتكبة في الإقليم ما بين 2003 و2009، بينما القصور ساطع، يمد لسانه، في القانون الجنائي الوطني، وفي قوانين الحصانات والتقادم، بل في الإرادة السياسية ذاتها للنظام الذي ما ينفك يتهم العالم بالتآمر ضده، دون أن يبدي أدنى استعداد لإصلاح نهجه إزاء أزماته الداخلية، بينما هو يواصل شن حربه المقدسة على المحكمة الجنائية الدولية.. بسيوف العُشَر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.