العلاقات المغربية الجزائرية في عصر الثورات

العنوان: العلاقات المغربية الجزائرية في عصر الثورات

undefined

 
 عصر الثورات لا يمكن التنبؤ بتداعياته وتأثيراته، لأنه في الأخير يستهدف إنجاز "التحول الديمقراطي"، وهذا لا يتم دفعة واحدة، فقد يأخذ وقتا أكثر مما ينبغي، وربما يتعرض لاستنزاف يمنعه بلوغ مراده، وربما يُميع أو يختطف أو يغير مساره، إذ الانتقال الديمقراطي لا يعني بالضرورة بلوغ مرحلة الحسم.

ثم إن الحالة الثورية العربية يختلف مشرقها عن مغربها، ولا يوجد لها خط ثابت ومسار واحد، لكنها في الأخير تواجه تحديا مشتركا هو الأهم بلا منازع، ونعني به تفكيك مراكز السيطرة للنظام السابق، ليس بما يفضي إلى تفكيك المؤسسات وانهيارها، فهذه في الأخير ملك للدولة وليس لسلطة ما ونظام حكم معين، وإنما بما يخضعها للقيادة السياسية والرقابة البرلمانية.

الحالة الثورية العربية يختلف مشرقها عن مغربها، ولا يوجد لها خط ثابت ومسار واحد، لكنها في الأخير تواجه تحديا مشتركا هو الأهم بلا منازع، ونعني به تفكيك مراكز السيطرة للنظام السابق

مراكز السيطرة هذه هي كلمة السر في تحقيق التحول الثوري من وضع انتقالي إلى مرحلة تثبيت الديمقراطية، لأنها لم تخضع طوال سنوات سطوتها لأي شكل من أشكال الرقابة والخضوع، فكانت أقرب إلى "دولة داخل دولة"، والأخطر في هذا أنها حجزت لها "ملفات ومناطق" غيبتها عن العالم الخارجي وصنعت منها "محظورات" حرمت الخوض فيها، وهذا ليس فقط على الإعلاميين والسياسيين والمثقفين عموما، وإنما على الحكومات والمسؤولين السياسيين أنفسهم.

وفي الحالة المغاربية، يبرز ملف الصحراء الغربية كأحد أهم وأكثر "المناطق المحجوزة" و"الملفات المحظورة" تأثيرا في علاقات المغرب والجزائر بل وفي مسيرة اتحاد المغرب العربي ككل. وفي الجزائر كما في المغرب، صنعت منه مراكز السيطرة قنبلة موقوتة تنفجر في وجه من يلامسها، لكن ما سر هذا الغموض والحساسية في هذا الملف، ولماذا ارتبط مصير العلاقات بين البلدين المشدودين بوثاق الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا بقضية الصحراء الغربية؟

هذه مسألة معقدة وشائكة، أولها إرث استعماري، ووسطها حسابات دول ما بعد الاستقلال، ونهايتها ورقة بيد مراكز السيطرة تسيرها بما يضمن لمختلف الأطراف التحكم في مسار النزاع. لكن ما يهمنا أكثر أمام موجات التغيير العاتية، هو تأثير التحولات الديمقراطية بفعل الثورات الكبرى في العلاقات الحساسة بين الجزائر والمغرب، وما مدى قدرتها على رفع "الحجز" عن ملف الصحراء الغربية، باعتباره المانع الأكبر لأي علاقة قوية ومثمرة بين البلدين الجارين.

فما قد نراه من تنافس سياسي بين الأحزاب وانتخابات واندفاع اللحظات الأولى لما بعد الثورة لن يرفع "الحجز" عن القضايا المغيبة ما لم تنفذ الثورة والإصلاحات إلى الأعماق، حيث "المناطق المحجوزة" لما تسمى بـ"الدولة العميقة"، أو مراكز السيطرة، فهل ستحقق الثورات وموجات التغيير هذا الاختراق؟

هذه مسألة لا يمكن البت فيها الآن وهي متروكة لوعي الثورات وزخمها، لكن في موضوعنا، هل يمكن للتحولات التي تشهدها دول المغرب العربي عموما (وخاصة المغرب والجزائر) أن تعيد رسم العلاقات بما يحقق الشراكة الاقتصادية والاعتماد السياسي المتبادل، دون المرور بالمناطق المحجوزة، وفي مقدمتها ملف الصحراء؟

هذا المأمول، وهو ما عبر عنه الرئيس التونسي منصف المرزوقي بقوله في حوار له "إنه يشعر بأن هناك نوعا من التوجه نحو التقارب المغاربي بعد التغيرات الكبرى التي شهدها العالم عام 2011، واقترح في هذا "تطويق مشكلة الصحراء الغربية التي تحول دون تسوية الخلاف بين البلدين ووضعه بين قوسين والالتفاف حول العقبة التي يطرحها"، معتبرا أن بناء اتحاد المغرب العربي كفيل بأن يجد حلا لهذا المشكل "بطريقة طبيعية وسهلة".

مسألة التأثير ليست من النوع الذي يمكن منعه أو حجبه، فما جرى في المغرب من إصلاحات دستورية وانتخابات تشريعية "الأكثر نزاهة وشفافية" في تاريخ المغرب، مكنت الإسلاميين من الفوز وتشكيل الحكومة، وقبله ما شهدته تونس بعد الثورة من تحولات سياسية قذفت بالإسلاميين إلى السلطة، اهتزت له الجزائر على المستوى الرسمي باعتماد لغة دبلوماسية ناعمة ومرنة في استقبال أخبار فوز الإسلاميين والترحيب بالتحولات، في محاولة لامتصاص رياح التغيير القادمة من شرقها وغربها، في حين تحمَس الشارع الشعبي عموما لهذه الثورات والتغييرات، ورأت فيها المعارضة السياسية قوة إسناد معنوي يعزز مطالبها في مواجهة سلطة "متراخية" و"مراوغة" عندما يتعلق الأمر بإصلاحات جادة.

الثورات العربية فرضت على الجزائر إعادة تقييم الأوضاع المحلية والإقليمية ومراجعة السياسات العامة، ومنها موضوع العلاقات مع المغرب، لهذا بدأت مؤسسة الرئاسة الجزائرية التفكير جديا في التقارب مع الرباط

والثورات العربية فرضت على الجزائر إعادة تقييم الأوضاع المحلية والإقليمية ومراجعة السياسات العامة، ومنها موضوع العلاقات مع المغرب، لهذا بدأت مؤسسة الرئاسة الجزائرية التفكير جديا في التقارب مع الرباط، وتغليب سياسة الانفتاح مع دول الجوار التي شهدت ثورات أو إصلاحات دستورية، امتصاصا للغضب الشعبي وتخفيفا للضغط ومجاراة "محسوبة" للتحولات التي أفرزتها موجات التغيير العاتية، ويبدي الرئيس بوتفليقة مرونة بالنظر إلى خلفيته الدبلوماسية ومقدرته التفاوضية مع القوى المؤثرة في صنع القرار.

وأبعد من هذا، رأت السلطة الجزائرية ضرورة كسر عزلتها الإقليمية وما جرته عليها دبلوماسيتها المتعثرة والمخاصمة إلى حد ما للثورات، فبادرت باستقبال ممثلين عن الفائزين في انتخابات تونس والمغرب، وكان البلد الأول الذي يزوره وزير الخارجية المغربي الجديد الإسلامي سعد الدين العثماني هو الجزائر، حيث استقبله الرئيس بوتفليقة شخصيا بحفاوة، وقبله حل زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي ضيفا عزيزا على الجزائر.

ولكل حساباته في الانفتاح على جاره، لكن يبقى أن الجانبين المغربي والجزائري يريدان إحداث اختراق ما في العلاقات المغربية الجزائرية، والالتفاف على ملف الصحراء الغربية، وهو أم الأزمات، وباني الحواجز، ومانع الثقة، ومولد الضغائن، وموقظ الفتن، وأصل كل بلية بين الجارين الشقيقين.

ويرى فيه البعض أنه من نوع الخلاف الذي يُتوارث وتنتقل عدواه حتى إلى القوى السياسية الجديدة، ربما لأنه ممتد في طول التاريخ وعرضه، وأحاطت به الشكوك من كل جوانبه، وتخطفته هواجس المؤامرات، وأغلقت عليه المنافذ قبضة العسكر الجزائري والقصر المغربي، لكن يمكن تسييره بما يخدم مصالح الشعبين والبلدين، بحيث يضخ الدماء في العروق. وحتى إن غابت إرادة الحل والتسوية النهائية، فلا أقل من إدارة هذا الملف المستعصي والمعقد بما يحقق للبلدين رفع مستوى التعاون الاقتصادي، ويعيد فتح الحدود المغلقة منذ 1994م.

والجيل الجديد الذي يتولى اليوم إدارة الملفات الحكومية في المغرب ومثله مستقبلا في الجزائر ليس مُحمَلا بكثير من عقد وحسابات الطبقة الحاكمة السابقة، ولديه من الجرأة والإرادة ما يمكنانه من تجاوز عقبة ملف الصحراء الغربية، وليس مطالبا اليوم ولا غدا أن يجد حلا عادلا للقضية، فالحل لا يأتي عبر جرعة واحدة، لأن قبضة القصر المغربي والعسكر الجزائري لا تسمحان بأي نقاش حول المسألة خارج مجالسها ودوائرها، لكن المشكلة وإن عمرت طويلا، إلا أنها قد لا تتحمل المزيد من التعقيدات، خاصة مع الضغوط الدولية، حيث توصي دراسات وتقارير غربية بضرورة "إيجاد تسوية نهائية لقضية الصحراء"، والتي تشكل "عقبة أمام أمن المنطقة وتعيق إرساء تعاون اقتصادي حقيقي في منطقة المغرب العربي والساحل".

ثم هناك ما هو أهم من هذه القضية التي أُريد لها أن تنسف كل محاولات رأب الصدع في العلاقات بين البلدين الشقيقين، وهو رياح التحولات السياسية والتوجهات الديمقراطية التي فرضتها شعوب المنطقة، فالجزائر والمغرب وحتى جبهة بوليساريو (تأسست في 1973 وتهدف إلى إقامة دولة مستقلة في إقليم الصحراء الغربية) تشهد تغيرات ومطالب ملحة وضاغطة لتأسيس ديمقراطية حقيقية، لا يعيقها إرث استعماري، ولا تنسفها أزمات أنظمة ما بعد الاستقلال. ولا أحد مستعد ممن أتت أو تأتي به الانتخابات النزيهة من سياسيي الجيل الجديد أن يغرق في تفاصيل ومتاهات الملفات المستعصية، فإرادة التصالح والالتفاف على الأزمات المتوارثة أقوى وأبقى.

مسألة العلاقات بين المغرب والجزائر لا تهم البلدين فقط، فالأمر أكبر وأعمق من ذلك، وهو يرتبط بمصير اتحاد المغرب العربي المعطل منذ زمن، باعتبار الدولتين تمثلان قطبي المغرب العربي ومحوريه المركزيين

وأكثر من هذا وذاك، فإن مسألة العلاقات بين المغرب والجزائر لا تهم البلدين فقط، فالأمر أكبر وأعمق من ذلك، وهو يرتبط بمصير اتحاد المغرب العربي المعطل منذ زمن، باعتبار الدولتين تمثلان قطبي المغرب العربي ومحوريه المركزيين، من حيث الموارد البشرية والناتج الخام الإجمالي للمنطقة، ويمكن تشبيههما بفرنسا وألمانيا في المجموعة الأوروبية، اللتين انتقلتا من حروب تاريخية طاحنة في السابق، إلى مبادرة بسيطة من الفحم والفولاذ جمعت بينهما في الخمسينيات من القرن الماضي، لتشكلا نواة تأسيس الاتحاد الأوروبي فيما بعد.

ويمكن للجزائر والمغرب أن يؤديا المهمة نفسها، بإنعاش المغرب العربي وضخ الدماء في عروقه وبعثه مجددا، ولكن هذا متوقف على إعادة فتح الحدود المغلقة بين البلدين، ليس فقط لتشجيع التجارة وعبور السلع، وإنما أيضا لتمكين الشعبين من حرية التنقل وتشجيع المبادرات الثنائية
وهناك مخاوف من التغلغل الغربي بخلفية أمنية في المنطقة، وجد منفذا ومسوغا له في الحرب الأخيرة للإطاحة بالقذافي، وثمة هواجس أيضا من أن يمتد "الطوفان الليبي" إلى باقي دول المغرب العربي، وهو ما قد يفرض على البلدين إعادة صياغة العلاقات الثنائية، والاستجابة المرنة للتطلعات الشعبية التي فرضت التغيير، وكذا التعامل الحذر مع تحول السلوك الغربي البراغماتي باتجاه الانفتاح على الإسلاميين ودعمه للديمقراطيات الناشئة ومجاراته للتيار الصاعد واستعداده للتعاون معه.

والظروف اليوم مهيأة أكثر من أي وقت مضى للاتفاق على خطة عمل بين البلدين تدار بها العلاقات مستقبلا، وما عادت خلافات الأمس تشكل قضايا مصيرية اليوم توالي عليها الأنظمة وتعادي، وإنما هناك تطلعات وقضايا تنمية ونهضة وانشغالات فرضتها موجات الثورات العربية، وهناك صحوة عربية يتوقع لها أن تنكسر أمامها الجدر التي خلفها الاستعمار وتلك التي صنعتها أنظمة الاستبداد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.