إسرائيل قديمة في مواجهة شرق أوسط جديد

undefined

تطرّف ديني وقومي
عنصرية وعدوانية
انقلاب السحر على الساحر
دولة لم تعد ذاتها

تتفاعل في منطقة الشرق الأوسط، في هذه المرحلة، ظاهرتان متعاكستان، ومتناقضتان، أولاهما، تتمثّل بإسرائيل التي تتّجه، في سياساتها وقوانينها وأيديولوجيتها، إلى الماضي أكثر مما تتّجه نحو المستقبل، بحيث تكاد تقترب من التشكّل باعتبارها مجرد دولة شرق أوسطية أخرى، منغلقة وإقصائية وعنيفة ومتزمّتة ثقافياً ودينياً.

في حين تتمثّل الظاهرة الثانية بمحاولة مجتمعات في عديد من البلدان العربية كسر الصورة النمطية التي رُسِمت لها، منذ حوالي نصف قرن، والتي تحاول التحرّر من إسار الماضي والدخول في المستقبل، من خلال محاكاة العالم، والإمساك بأسباب الحداثة، وبناء دولة المواطنين؛ وهو ما تبشّر به الثورات الشعبية، على رغم كل التعقيدات والصعوبات المحيطة بها والنواقص والمشكلات التي تتخلّلها.

تطرّف ديني وقومي
وفي الواقع فإن إسرائيل التي دأبت على الترويج لنفسها باعتبارها "واحة" للحداثة والديمقراطية والعلمانية في "صحراء" الشرق الأوسط القديم والاستبدادي والمتديّن، تبدو على عتبة تحوّلات نوعيّة كبيرة، ربما تؤثر على طبيعتها وعلى إدراكاتها عن ذاتها وعلى صورتها في العالم، وذلك على وقع تزايد نفوذ الحاخامات والأحزاب الدينية والقومية المتطرفة وعلى وقع تديين الدولة والمجتمع (58% من سكانها اليهود يعتبرون أنفسهم متدينين)، إلى درجة بات معها كثير من المثقفين والمحللين الإسرائيليين يطلقون عليها اسم دولة "الحريديم" (المتدينين المتطرفين) أو دولة الشريعة، ويحذرون من قيام "إيران هنا"، مشبّهين تسلّط الحاخامات على الدولة بتسلط آيات الله في إيران، ومشبهين إسرائيل بغيرها من الدول الشرق أوسطية.

"
التطرّف الديني في إسرائيل يتوازى مع التطرّف "القومي" اليهودي، باعتبار "اليهود" بمثابة "قومية"، مما يعني أن هذين التطرّفين يتكاملان ويتغذّيان من بعضهما
"

وعن ذلك يقول إيتان هابر محذّرا: "ذات مرة، قبل عشر سنين أو أكثر، كتبت هنا شيئاً يشبه "العرب صاروا يهودا – اليهود صاروا عربا". ("يديعوت أحرونوت" 1/10). أما خبير الاقتصاد البروفيسور دان بن دافيد فيرى بأن "إسرائيل إذا أصبحت دولة من العالم الثالث، فسيكون ذلك نهاية المشروع كله". (عنات فيشبن، "يديعوت أحرونوت"، 29/10).

اللافت أن التطرّف الديني في إسرائيل يتوازى مع التطرّف "القومي" اليهودي، باعتبار "اليهود" بمثابة "قومية"، مما يعني أن هذين التطرّفين يتكاملان ويتغذّيان من بعضهما.

وتفسير ذلك أن ثمة جذورا مشتركة بين هذين التطرفين عند الإسرائيليين، فكلاهما تأسّس على الأسطورة الدينية ("أرض الميعاد" و"شعب الله المختار" و"أرض إسرائيل الكاملة"). كذلك فإن ما يشدّ هذين التيارين إلى بعضهما تمحورهما حول الذات اليهودية، وهو تمحور يتكشّف عن عنصرية إزاء "الأغيار"، ولا سيما الفلسطينيين أهل الأرض الأصليين.

أيضا ثمة جذر ثالث مشترك ويتجلّى في معاداة المتطرفين اليهود الإسرائيليين، من التيارات الدينية والقومية، للديمقراطية، وهذا ما بات واضحا اليوم في محاولات هذه التيارات إضعاف استقلالية المحكمة العليا، وسنّ القوانين على أساس الشريعة.

عنصرية وعدوانية
ثمة جذر آخر يجمع المتطرّفين المتدينين بالمتطرفين القوميين، وهو عداؤهما للسلام، ورفضهما تقديم أي تنازل لصالح الفلسطينيين، وهو موقف ناجم عن نظرة عنصرية واستعلائية. هكذا فإن حال التطرّف في إسرائيل باتت تطاول التشريعات التي تخرج الفلسطينيين من دائرة المواطنة، عبر إجراءات دستورية وقانونية، وضمن ذلك يأتي التأكيد على القانون الذي يمنع إعطاء حقّ الإقامة في إسرائيل للأزواج من الفلسطينيين (الزوج أو الزوجة) من الضفة وغزة، كما يأتي في هذا الإطار محاولات إعادة تعريف إسرائيل من كونها دولة يهودية ديمقراطية إلى كونها "الدولة القومية للشعب اليهودي"؛ على ما في التعريف الأول من مخاتلة وتناقض ونظرة عنصرية استئصالية.

ومن الناحية العملية فإن هذا التشديد على يهودية الدولة يتضمّن محو الرواية الفلسطينية للتاريخ، وفرض الرواية الصهيونية، المفعمة بالأساطير الدينية الخرافية، محلّها. أي أن إسرائيل تحاول بعد إزاحة الفلسطينيين من المكان إزاحتهم من الزمان، ومن المستقبل، أيضا، لتبرير وجودها من الناحية التاريخية وإيجاد قاعدة "أخلاقية" لها بطمس حقيقة قيامها على نكبة الشعب الفلسطيني.

"
إسرائيل في كل ذلك لا تكتفي بحرمان الفلسطينيين من أرضهم، وإنما هي تسلبهم حقهم في الوجود والهوية، وحتى حقّهم الأخلاقي والطبيعي في التعبير عن ذاتهم وعن كيانيتهم!
"

هذا ما يفسّر طلب إسرائيل الاعتراف بها، وبحقّها في الوجود، كدولة يهودية حصراً، أي لا على أنها دولة مدنية أو حتى على أنها دولة للإسرائيليين اليهود، في دلالات عنصرية، تعلي من شأن القومية على حساب المواطنة، مما يعني اعتبار إسرائيل وطناً مشرعاً لكل يهود العالم، الأمر الذي يضمن طغيان الهوية اليهودية ليس على الهوية العربية فقط وإنما حتى على الهوية الإسرائيلية!

وفي الواقع فإن إسرائيل في كل ذلك لا تكتفي بحرمان الفلسطينيين من أرضهم وإنما هي تسلبهم حقهم في الوجود والهوية، وحتى حقّهم الأخلاقي والطبيعي في التعبير عن ذاتهم وعن كيانيتهم! وهذا ما يفسّر إصرار إسرائيل على الاستمرار في الاستيطان في الضفة ولا سيما في القدس، ومجمل إجراءات التهويد وتغيير الواقع في الأراضي المحتلة بما يكفل لإسرائيل فرض إملاءاتها وسيطرتها على الفلسطينيين، وعلى التطورات عندهم، مع التسوية أو من دونها.

معلوم أن إسرائيل هذه لا تعتبر نفسها دولة كل مواطنيها (يهودا وعربا)، وحتى إنها لا تعتبر نفسها دولة لليهود الإسرائيليين فقط، وإنما دولة لليهود في كل العالم (بحسب "قانون العودة" خاصّتها)، على ما في ذلك من تمييز على أساس الدين (ضد مواطنيها الفلسطينيين) وعلى ما في ذلك، أيضا، من دلالة على أن حدودها البشرية مفتوحة (كحدودها الجغرافية)؛ إلى حد يمكن القول معه بأنها الدولة الوحيدة في العالم، ربما، التي لم ترسّم حدودها لا الجغرافية ولا البشرية.

انقلاب السحر على الساحر
المفارقة أن هذا التعامل الفوقي والعنصري مع "الأغيار"، أي مع الفلسطينيين، باتت له انعكاسات في المجتمع الإسرائيلي ذاته، بين اليهود أنفسهم، وهو ما يتمظهر، كما ذكرنا، بتغوّل التيار الديني في السياسة والقانون والتعليم والمجتمع في إسرائيل، وباعتبار الدين بمثابة المصدر الأساس للتشريع كما للسياسات.

هكذا باتت التيارات الدينية الأصولية المتطرفة، تتحكّم بالتشريعات القانونية وبالتوجهات السياسية، وحتى بالمدارس والجامعات والجيش، والأنشطة الثقافية، كما بحركة الباصات (يوم السبت)، ولباس المرأة، بحيث لم يعد بالإمكان اعتبار إسرائيل دولة علمانية بمعنى الكلمة، على ما يلحظ عديد من الباحثين والمحللين الإسرائيليين. وفي الواقع فإن كثيرا من هؤلاء باتوا ينعون العلمانية التي تآكلت في إسرائيل، مع تحلل الطبقة الوسطى، وتآكل مؤسسات كالكيبوتزات، والهستدروت، وانحسار مكانة أحزابها كالعمل وميريتس، لصالح المتدينين المتطرفين.

وليس مصير الديمقراطية بأفضل من مصير العلمانية في إسرائيل، ذلك أن الديمقراطية التمييزية، التي تضع العرب خارج الحساب، جعلت بضعة أحزاب دينية، لا تحتل أكثر من ربع مقاعد الكنيست بمثابة المتحكّم باللعبة السياسية الجارية في إسرائيل، وسهّلت لها السيطرة على نظام القضاء والتعليم وتحديد مكانة المرأة في المجتمع؛ أي أن العنصرية ضد "الأغيار" الفلسطينيين باتت تنعكس أيضا على شكل ممارسات وقوانين تحدّ من الديمقراطية الليبرالية داخل إسرائيل ذاتها، أي بين اليهود أنفسهم.

وكانت إسرائيل شهدت مؤخّرا، وعبر الكنيست، محاولات عديدة للانقضاض على نمط الحياة الديمقراطية الليبرالية فيها عبر سنّ تشريعات تمسّ حرية الإعلام وتقيّد حرية الصحافيين وتضيّق على منظمات المجتمع المدني، وتحدّ من صلاحيات محكمة العدل العليا (بدعوى أن اليسار يسيطر عليها!)، وتتجه نحو إدخال تغييرات في المناهج التربوية.

"
القلق من جملة القوانين "اللاديمقراطية" الإسرائيلية استنفر الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز الذي عبّر عن شعوره بالخجل من عدد من مشروعات القوانين التي قدمها اليمين مؤخرا، ووصفها بأنها "مسيرة للبلهاء"
"

على أية حال فإن القلق من جملة القوانين "اللاديمقراطية" الإسرائيلية استنفر الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز الذي عبّر عن شعوره بالخجل من عدد من مشروعات القوانين التي قدمها اليمين مؤخرا، ووصفها بأنها "مسيرة للبلهاء".

وثمة محللون إسرائيليون باتوا يرون بأن إسرائيل أضحت تتشبّه بمحيطها، أي دينية ولا حداثية ولا ديمقراطية. وبحسب آري شبيط فإن "متطرفي الله اليهود يخرجون في هجوم… ضد الأقلية وضد الفرد وضد حقوق الإنسان… يحاصرون المحكمة العليا والصحافة الحرة والمجتمع المفتوح. هناك طوفان لم يسبق له مثيل من العنصرية على العرب وكراهية العلمانيين واضطهاد النساء يهدد بجعل إسرائيل المتنورة إسرائيل الظلامية… يحاولون جعل إسرائيل إيران… ما يُحدثه "الإخوان المسلمون" في تونس وليبيا ومصر… يريد "الإخوان اليهود" إحداثه في دولة اليهود… في البلدان العربية وفي إسرائيل أيضا لم يتم فصل حقيقي بين الدين والدولة، فالمسجد والكنيس لم يُبعدا عن السياسة، ولهذا بقي عنصر ديني عميق في الهوية العربية والهوية اليهودية أيضا… حان الوقت ليفهم اليمين العلماني أنه إذا تحولت إسرائيل إلى إيران، فلن يكون لها أي أمل. ستنتقض عُراها من الداخل وتُبتلع في الظلام الديني الإقليمي". ("هآرتس" 1/12) .

دولة لم تعد ذاتها
هكذا لم تعد إسرائيل هي نفسها، فهذه الدولة التي حاولت تأسيس ذاتها كمشروع حداثي ديمقراطي وليبرالي يحرص على تأمين الرفاه لمواطنيها اليهود، كي تجعل من نفسها نموذجاً جاذباً لتشجيع يهود العالم على الهجرة إليها وكي تميّز نفسها عن الدول المحيطة بها، لم تنجح تماماً، وإنما باتت تتمظهر على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية، وعلى شكل دولة ثيوقراطية يسيطر على توجهاتها الحاخامات والأحزاب الدينية والقوى المتطرفة.

ومشكلة إسرائيل أنها تسير في هذا الاتجاه بينما العالم يحثّ خطاه نحو تعميم قيم الحداثة، المتأسّسة على العقلانية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية، ونبذ الأصولية والتطرف الديني والتسلط، ويتجه نحو دولة المواطنين الديمقراطية الليبرالية، مما يعني أن إسرائيل تذهب على الضدّ من التاريخ العالمي، وحتى على الضدّ من التاريخ الجديد للشرق الأوسط، المحمول على رياح الثورات العربية باتجاه الديمقراطية ودولة المواطنين.

ومشكلة إسرائيل، أيضا، أن هذه التحولات تحدث فيها في زمن الثورات الشعبية العربية، التي تعد بالتحول نحو مسارات الحداثة وبناء مستقبل جديد لبلدان ومجتمعات المنطقة، يتأسّس على الدولة المدنية والديمقراطية ودولة المواطنين، وهو تحدّ جديد، غير معهود وغير مسبوق لإسرائيل، بحيث إن هذه الثورات وضعتها، لأول مرة في تاريخها، أمام وضع مغاير، وبمكانة حرجة، إزاء ذاتها وإزاء العالم، وإزاء المجتمعات الناهضة في المنطقة. وكانت إسرائيل فقدت منذ زمن صورتها باعتبار نفسها بمثابة ضحيّة، وها هي مع الثورات الشعبية تفقد مكانتها كالديمقراطية الوحيدة وتبدو بمثابة ظاهرة رجعية في هذه المنطقة.

هذا يعني أن إسرائيل المتخمة بترسانة عسكرية ضخمة، وبقوة الدعم الغربي والأميركي، تتجه نحو الأفول ليس فقط بسبب التغيّرات السياسية في محيطها الإستراتيجي، وليس بسبب التحدّي الديمغرافي الذي تواجهه من الفلسطينيين، ومن الوجود العربي من حولها، فحسب، وإنما بسبب عوامل أخرى.

"
إسرائيل التي حاولت تأسيس ذاتها كمشروع حداثي ديمقراطي وليبرالي يحرص على تأمين الرفاه لمواطنيها اليهود، لم تنجح تماماً، وإنما باتت تتمظهر على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية
"

ولعل في مقدمة تلك العوامل التحوّلات الجارية في إسرائيل ذاتها، التي كشفتها على حقيقتها أمام نفسها وإزاء العالم باعتبارها مجرد ظاهرة رجعية في المنطقة، وباعتبارها -كدولة وكمجتمع- تسير عكس التاريخ العالمي وعكس التاريخ الشرق أوسطي الجديد، بتمسكها بطابعها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية يهودية.

كما يأتي ضمن ذلك، وتأسيساً عليه، مسار عزل إسرائيل ونزع الشرعية عنها، باعتبارها دولة عنصرية واستعمارية ودينية، بقوّة المجتمعات المدنية في العالم، التي بات وزنها يزداد في تقرير السياسات الخارجية لدولها، وفي إعلاء شأن القيم على المصالح.

وبديهي، فإن البيئة السياسية العربية الجديدة، المحمولة على رياح الثورات الشعبية العربية، أفقدت إسرائيل معنى تميّزها وعوامل قوتها في هذه المنطقة، لا سيما أن هذه الثورات تؤذن بقيام المجتمع والدولة في البلدان العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.