ما بعد الاعتراف بفلسطين "دولة مراقب غير عضو"

ما بعد الاعتراف بفلسطين "دولة مراقب غير عضو" - نواف الزرو

undefined 

دلالات وتداعيات فلسطينية
هواجس وتحركات وتهديدات إسرائيلية
هل يغير الاعتراف من الحقائق على الأرض؟
معارك إستراتيجية لا تزال في الأفق

على قدر حجم وثقل الضغوط والتهديدات الإسرائيلية الأميركية التي تابعناها في الآونة الأخيرة ضد التوجه الفلسطيني للأمم المتحدة للحصول على اعتراف أممي بفلسطين "دولة مراقب غير عضو"، على قدر حجم وثقل التداعيات المنتظرة لما بعد الاعتراف.

وعلى قدر القلق الإسرائيلي من التداعيات المنتظرة المحتملة من مثل اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، على قدر ما تكون الخطوات الفلسطينية في الاتجاه الصحيح، وعلى قدر ما تتحقق إنجازات سياسية وقانونية وأخلاقية للقضية الفلسطينية، على طريق التحرير والتحرر من الاحتلال، فهذا الاعتراف الأممي بفلسطين "دولة مراقب غير عضو"، الذي حصل بالأغلبية الساحقة، سيعتبر في كل الحسابات الفلسطينية والإسرائيلية والدولية نقطة تحول فارقة في مشهد الصراع الفلسطيني العربي مع المشروع الصهيوني.

دلالات وتداعيات فلسطينية
فالدلالات والتداعيات التي ينطوي عليها الاعتراف بفلسطين، حتى بمرتبة "دولة مراقب غير عضو"، هامة وكبيرة للفلسطينيين من جهة، ومزعجة مقلقة تثير الهواجس لدى الإسرائيليين من جهة أخرى.

ومن أهم الدلالات والتداعيات الفلسطينية ما يتعلق بالمصالحة والوحدة الفلسطينية العاجلة والملحة، في مواجهة حروب الاحتلال المفتوحة على الأرض والشعب والتاريخ، فإن كان هذا المشروع الفلسطيني حظي بإجماع الخريطة السياسية الفلسطينية، من فتح إلى الفصائل الفلسطينية المختلفة، إلى حركة حماس على لسان رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل في تصريحاته الأخيرة، إلى الرأي العام الفلسطيني في كل مكان، مع وجود معارضة أو تحفظات أو انتقادات هنا وهناك، فكل الفصائل عموما التقت وتوحدت خلف هذا التوجه الفلسطيني، في إطار اعتباره معركة سياسية هامة على الجبهة الدولية الأممية القانونية الحقوقية الأخلاقية، وليس ذلك فحسب.

فوفق البيانات والتصريحات المختلفة، فإن المطلب العاجل فلسطينيا لما بعد هذا الاعتراف/الإنجاز السياسي هو مواصلة خطوات المصالحة والوحدة الفلسطينية، على نحو إستراتيجي، في إطار خطة وبرامج سياسية وإعلامية مشتركة، ترتقي إلى مستوى الطموح الفلسطيني، وإلى مستوى التحدي والتصدي للاحتلال الاستعماري الاستيطاني، الذي يمضي في عمليات التهويد الإستراتيجي كي تصبح فلسطين لهم إلى الأبد.

الدلالات والتداعيات التي ينطوي عليها الاعتراف بفلسطين، حتى بمرتبة "دولة مراقب غير عضو"، هامة وكبيرة للفلسطينيين من جهة، ومزعجة مقلقة تثير الهواجس لدى الإسرائيليين من جهة أخرى

ولعل من أبرز الدلالات فلسطينيا أيضا أن هذا الاعتراف الأممي إنما هو عودة للمرجعية الأممية، واستحضار للقرارات الدولية المؤيدة للحقوق الفلسطينية المشروعة، فضلا عن أنه يشكل رصيدا محترما للفلسطينيين والعرب، إذا ما جد الجد لدى الأمم المتحدة والعرب والعالم، وجاءت لحظة الحقيقة والحساب مع إسرائيل.

يتساءل الكثيرون عن السيناريوهات المنتظرة لما بعد الاعتراف، فلعلنا نوثق أن استحضار قرارات ومواثيق الأمم المتحدة يزعج إسرائيل على كل المستويات، وهنا يقدر الجميع أن الحصول على الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية إنما هو معركة تنطوي على أهمية كبيرة، لا يقلل من شأنها وتداعياتها الأخلاقية والقانونية والشرعية التراكم عبر الزمن.

فهي سلاح شرعي أممي، يوظف إلى جانب كل الأسلحة الأخرى، التي تشرعها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها حق مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، فالاعتراف يفتح بالتأكيد آفاقا رحبة من العمل الدبلوماسي والسياسي والقانوني والثقافي لصالح القضية الفلسطينية، ويفتح آفاقا أهم على صعيد تفعيل كل الإمكانيات الفلسطينية، هناك على الأرض الفلسطينية المحتلة ضد الاحتلال.

هواجس وتحركات وتهديدات إسرائيلية
أما في الدلالات والتداعيات المترتبة على القرار الأممي إسرائيليا، فحدث!

فمساحة الهواجس الأمنية والتحركات والتهديدات الإسرائيلية واسعة، فلم يحصل أن أجمعت الخريطة السياسية الإسرائيلية على قضية واحدة في مواجهة الفلسطينيين والعرب، كما هي تجمع اليوم، على رفض الاعتراف الأممي بـ"فلسطين دولة مراقب غير عضو"، بعد أن كانت إسرائيل وحليفتها الأميركية أحبطت مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، الذي قدم لمجلس الأمن الدولي في سبتمبر/أيلول 2011.

ولم يحصل أن جندت إسرائيل إمكاناتها وعلاقاتها ولوبياتها الصهيونية في الغرب ضد مشروع الدولة، كما فعلت خلال الأيام والأسابيع الأخيرة ضد مشروع الدولة الفلسطينية. كذلك لم يحصل أن تابعنا حملات إعلامية سياسية دبلوماسية، وضغوطا وتهديدات هائلة على الفلسطينيين، من جهة إسرائيل والإدارة الأميركية، كما تابعنا في حالة التوجه للأمم المتحدة.

وبعد أن بات الاعتراف الأممي بـ"فلسطين دولة غير عضو"، وبالأكثرية الساحقة، أمرا واقعا، حتى قبل أن يحل التصويت، تنبهت المؤسسة الصهيونية مبكرا إلى دلالات وتداعيات الاعتراف القانونية والأخلاقية والسياسية، فأخذت تتحرك للعمل على إحباط تلك الدلالات والتداعيات، وفي مقدمتها تلك المتعلقة باحتمال محاكمة إسرائيل وجنرالاتها أمام المحكمة الجنائية الدولية، فأخذ الفلسطينيون يتعرضون لضغوط هائلة من مختلف الاتجاهات.

فبريطانيا وأميركا تطوعتا في خدمة إسرائيل، وضغطتا على الفلسطينيين لإعطاء تعهد بعدم مقاضاة إسرائيل في محكمة الجرائم الدولية، وإسرائيل من جهتها تهدد بإسقاط الرئيس الفلسطيني محمود عباس إذا توجه الفلسطينيون لمحكمة لاهاي بعد الدولة.

فنحن إذا، وكما يفترض منطقيا، بانتظار تحركات فلسطينية جادة ومسؤولة على هذا الصعيد، تطالب بجلب جنرالات الاحتلال وكبار ساستهم ومتخذي القرارات لديهم إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب شاملة ضد الشعب الفلسطيني.

والحقيقة هنا، أن القضايا التي يجب أن تقدم ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين يجب أن لا تقل عن عدد الصواريخ والقذائف التي أطلقها جيش الاحتلال على الفلسطينيين على مدى سنوات الاحتلال، كما يجب أن لا تقل عن عدد الضحايا الفلسطينيين، ناهيكم عن مشهد الخراب والدمار والتهديم الشامل لفلسطين ومدنها وقراها، يضاف إليها جريمة العصر المتمثلة بذبح وتهجير شعب كامل عن وطنه.

نحن إذا، وكما يفترض منطقيا، بانتظار تحركات فلسطينية جادة ومسؤولة على هذا الصعيد، تطالب بجلب جنرالات الاحتلال وكبار ساستهم ومتخذي القرارات لديهم إلى المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب شاملة

قد يبدو ذلك حلما كبيرا أو ضربا من الخيال وغير واقعي نظرا لموازين القوى، والانحياز الأميركي البريطاني المرعب إلى جانب إسرائيل، غير أن هذا الحلم قابل للتحقيق إن جد جد الفلسطينيين والعرب، فنحن أمام ثورات وانتفاضات ومتغيرات عربية لها ما لها، على صعيد تغيير المعادلات وموازين القوى.

هل يغير الاعتراف من الحقائق على الأرض؟
رغم كل الدلالات والمعاني والتداعيات السياسية والقانونية والأخلاقية المتوقعة لما بعد الاعتراف، فإن السؤال الإستراتيجي يبقى قائما بقوة: هل سيغير هذا الاعتراف الأممي بالدولة المراقب من الحقائق القائمة على الأرض شيئا؟ وهل -على سبيل المثال- سيفكك مستعمرة صهيونية واحدة؟ وهل سيحرك جنديا صهيونيا واحدا عن نهر الأردن؟! وهل سيرحل الاحتلال بجيشه وإداراته ومستعمريه ومستعمراته عن الأرض المحتلة؟ وهل سيؤدي هذا الاعتراف إلى تغيير حقيقي في خريطة المواقف والسياسات الإسرائيلية من جهة، والأميركية البريطانية، والأوروبية معها، من جهة أخرى، لصالح التعاطي الواقعي مع مشروع الدولة، وترجمته إلى أمر واقع على الأرض؟

أسئلة كثيرة كبيرة، ستبقى تتفاعل على أجندة الاعتراف الأممي بالدولة، وعلى الأجندة الإسرائيلية وغيرها؟

غير أن القرارات من وجهة نظر إسرائيل شيء، والحقائق على الأرض شيء آخر، فهم يجمعون -على سبيل المثال- على أن الأمم المتحدة فارغة وتافهة ومقفرة، و"لا قيمة لكل ما يصدر عنها"، وهم يقتدون في ذلك بمؤسس الدولة الصهيونية دافيد بن غوريون، الذي استخف منذ عام 1948 بالأمم المتحدة وقراراتها، حينما وصفها باحتقار قائلا "أوم شموم" (أوم: اختصار هيئة الأمم المتحدة بالعبرية، شموم: لا شيء) في حرب العام 1948.

ولديهم تراث هائل من الاحتقار للأمم المتحدة، كما يجمعون على أهم أدبياتهم الأيديولوجية السياسية والتوراتية، وفي مقدمتها شعار "فليفعل العالم ما يفعل، ولكن المهم ما يفعله اليهود".

لذلك، ليس من المنتظر أن يكون للاعتراف الأممي من تداعيات وتأثيرات حقيقية مباشرة على موقف الاحتلال وحقائق الأمر الواقع على الأرض، فها هو رئيس وزرائهم بنيامين نتنياهو يعلن أن "قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن رفع التمثيل الفلسطيني إلى مكانة دولة مراقب غير عضو لن يغير شيئا على أرض الواقع، ولن يدعم قيام دولة فلسطينية، بل سيبعد مثل هذا الاحتمال"، وادعى نتنياهو أن "التحرك الفلسطيني يعني خرق الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، وأن إسرائيل سترد على هذا الأمر، وأنه لن يسمح بقيام دولة إرهاب إيرانية على حدود إسرائيل".

وانضمت زعيمة حزب العمل إلى انتقاد القرار الدولي معتبرة أنه "قرار سيئ، سبقه خطاب قاس مليء بالافتراءات وتزوير التاريخ"، في حين يقول نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون -الذي احتل المرتبة الخامسة على قائمة الليكود المنتخبة الأسبوع الماضي- "ليست هناك قيمة حقيقية لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة".

أما مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة رون بروشوار فحمل على خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، متهما الفلسطينيين بأنهم في طلبهم للاعتراف بدولة فلسطينية غير كاملة العضوية يديرون ظهرهم للسلام، ويكررون خطأهم التاريخي قبل 65 عاما عندما رفضوا قرار "التقسيم"، لتتكون أمامنا صورة واضحة ناصعة مكثفة عن لوحة السياسات والمواقف الإسرائيلية الرافضة، بل الحربية ضد الاعتراف بالدولة والاستحقاقات المترتبة عليه مستقبلا.

معارك إستراتيجية لا تزال في الأفق
فالمتوقع إذا، في ضوء كل ذلك، أن يفعل اليهود ما يفعلوه، وأن يواصلوا مشروعهم الاستعماري الاستيطاني على امتداد مساحة فلسطين، مما يشكل عمليا استمرار الصراع والحروب والمواجهات، فيجب أن لا يغيب عن البال، وعن الذاكرة، وعن الأجندة السياسية والإعلامية الفلسطينية والعربية، أن الإجماع السياسي الإسرائيلي ذاته يقف وراء مشروع الحروب الصهيونية العدوانية تجاه غزة من جهة، وتجاه القدس والضفة الغربية من جهة أخرى.

ولذلك يعتبر الفلسطينيون من جهتهم، وبإجماعهم إلى حد كبير، أن الاحتلال لا ينتهي عند حدود الاعتراف الأممي بالدولة، فإسرائيل لا تفك الارتباط عن غزة -مثلا- رغم الانتصار الفلسطيني الأخير سياسيا وسياديا بمستوى "الطلاق الإستراتيجي الشامل والكامل"، حيث لا تزال هناك"بوابات غزة" التي تسيطر عليها إسرائيل برا وبحرا وجوا.

ولذلك من المنتظر أن تتواصل المعركة الفلسطينية ضد استمرار هذه "البوابات" لتغدو في نهاية الأمر "بوابات فلسطينية" بالكامل، وهي كذلك لن تفك ارتباطها عن القدس والضفة الغربية بمجرد الاعتراف الأممي بالدولة المراقب، وهذا الانتصار السياسي الدبلوماسي الفلسطيني. فالاحتلال في غزة وافق مرغما على التهدئة، ولكنه أبقى على حصار القطاع برا وبحرا وجوا، ويمنعه عمليا من الاتصال والتواصل الحر مع الضفة، ومع العرب والعالم.

فالمياه الإقليمية تحت الهيمنة العسكرية الاحتلالية، وكذلك فضاء القطاع، بينما لم تحسم في الوقت نفسه وبحسب المعطيات المختلفة مسألة السيطرة على المعابر الحدودية مع مصر، وكذلك الاحتلال في القدس والضفة لن يرحل عنهما، في أعقاب هزيمته السياسية الأخلاقية في الأمم المتحدة، ولذلك نقول إن التحديات الآتية بعد التهدئة في غزة، وبعد المعركة السياسية في الأمم المتحدة، ستكون كبيرة وحقول الألغام المتفجرة على طريق الخلاص الكامل من الاحتلال لا تزال مزروعة على امتداد الأرض والجو والبحر.

التحديات وحقول الألغام التي تواجه الفلسطينيين من الآن فصاعدا مفتوحة وبلا سقف أو حدود أو مساحة

أما التحديات وحقول الألغام التي تواجه الفلسطينيين من الآن فصاعدا فهي مفتوحة وبلا سقف أو حدود أو مساحة.

فنحن نتحدث هنا عن ملفات إستراتيجية كبيرة، وعن معارك إستراتيجية كبيرة، فهناك أولا ملف المدينة المقدسة، التي تواجه في هذه الأيام اجتياحات تهويدية وجدرانا حصارية خانقة، وهناك ملف مدينة خليل الرحمن، التي تجمع المؤسسة السياسية والدينية الإسرائيلية.

على أن الأماكن الدينية فيها مثل الحرم الإبراهيمي، وكذلك البلدة القديمة، تابعة لهم، وكذلك كل الأماكن الأخرى التي ترى فيها تلك المؤسسة أنها أماكن دينية يهودية يجب أن تبقى تحت السيطرة اليهودية، ناهيكم عن ملف المستوطنات، الذي يجمعون هناك في إسرائيل على ضرورة ضم "تكتلات المستوطنات" إلى السيادة الإسرائيلية.

يضاف إلى ذلك ملف تهويد الأغوار على امتداد نهر الأردن، وملف السيطرة على مصادر المياه، وملف الجدار، والملف الأكبر هو ملف إقامة الدولة الفلسطينية على امتداد أراضي الضفة والقطاع، ناهيكم عن معركة توحيد جناحي غزة والضفة، التي ستكون كبيرة وصعبة جدا.

إذا كان المشهد الفلسطيني الراهن ترفرف في فضاءاته في هذه الأيام رايات الانتصار في غزة، ورايات الانتصار السياسي في رام الله، التي امتدت إلى عموم الأرض الفلسطينية والخارج، فإن التحديات الآتية أمام الفلسطينيين كبيرة وإستراتيجية من الوزن الثقيل، وفي طريقهم حقول ألغام لا حصر لها، تحتاج من أجل تفكيكها وتحييدها إلى جملة شروط واشتراطات فلسطينية، أولا في مقدمتها تعزيز وتكريس الوحدة الوطنية الداخلية وتصليب جدرانها، وتحتاج أيضا في مقدمة ما تحتاجه إلى جبهة عربية وإسلامية حقيقية تتصدى إلى الأجندة الصهيونية والأميركية البريطانية المتحالفة معها، إلى جانب الفلسطينيين وليس من ورائهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.